غاص الموارنة في العام 1921 في شراكة جغرافية و مصيرية أكثر تعقيداً وأبلغ مسؤولية وأوسع أرجاء من التي كانت تضمهم والدروز في متصرفية جبل لبنان وبروتوكول 1864. هل كانوا ليقدموا لو كانوا استشرفوا بدقة أكثر طبائع الاتنيات الحضارية و نماذج حراكها، وكيفية نظرتها الفلسفية الى مفاهيم الذنب والخجل والثواب والعقاب وارتباطهما بالتعاليم الايمانية؟ أو هل التبست عليهم أنذاك مصطلحات عقيمة كالانصهار الوطني والعيش المشترك التي لا تعدو كونها مفردات تفتقر للمقومات الانسانية بما تتسّم به من حرية الجماعة وتقرير مصيرها وتوجيه نبضها؟
* وضع الموارنة في العام 1926 مع شركائهم الأخرين أول دستور للبنان الكبير متميزين حينذاك بالسلاسة والادراك في مقاربة هواجس الآخر وطمأنته بعيداً كل البعد عن عوارض النهم السلطوي والاستئثار السياسي بالرغم من حيازتهم لأرجحيات واضحة المعالم كالديمغرافيا والثقافة والاتصال بالحضارة الغربية، والشؤون الاقتصادية والزراعية.
* تموضع الموارنة عرفاً في مركز رئاسة الجمهورية اللبنانية منذ سنة 1943، فكانوا منذ ذلك الحين يواجهون كافة التوترات والانتقادات اللاذعة الصادرة عن قوى النفور المناطقية التي ناصبت السلطة المركزية الجفاء واللامبلاة والتي أشعلت في وجه الرئيس كميل شمعون ثورة 1958، مروراً بامتطاء الحصان الفلسطيني لاحداث ما يسمى حينها بعدالة المشاركة وتصحيح الخلل في مؤسسات الدولة! وصولاً الى تقنين الدور السياسي للموارنة و تأبط الطوائف الأخرى بمراكز القرار بما كان يسمى بهتانا” بامتيازات المارونية السياسية!!!
* تجرّع الموارنة منذ العام 1990 تاريخ اطباق جيش الاحتلال السوري على أخر بقعة للسيادة و الحرية في لبنان كؤوس العلقم جميعها من القمع الى التهميش والسجن والنفي والاغتيال، فغابت شمسهم عن المشاركة الفعلية في ادارة شؤون البلاد واستقرت في أدنى مستوياتها عبر أذناب لذلك الاحتلال لا يحملون من المارونية وصلابة صنيعها سوى أسمائهم المدرجة في دوائر النفوس، يندى الجبين الماروني خجلاً عقب ذكرها والتداول بشأنها، بيد أن الضفة المقابلة كانت تضج بضروس الطوائف الأخرى وتتمثل عبرهم وجلّهم قادة ميليشيات وسياسيين هم الأشد بأساً والأوسع حضوراً في كنفها لربما من زمن الخلفاء الراشدين وحتى الساعة.
* ويستمر المنزلق الانسيابي تجريحاً بالمرجعيات المارونية السياسية منها والروحية، فما انكفت أبواق الهاتكين بمرافق الدولة ومغتصبيها تصب حممها على رئيس الجمهورية لأنه قرر عدم مجاراتها طغيانها واستبدادها الذي كسر الأعراف واستهزأ بالقوانين.
* يشق قطار الزجر والفوقية طريقه باتجاه صرح بكركي محدداً لها الهوامش والمسارات، متجاهلاً القيمة الضميرية التي يكتنزها اداءها عبر العصور، والتضحيات الجسام الرابض عليها تعاقب البطاركة الموارنة بشهادتهم للحق وتبشيرهم الايماني، فينبري بعض القصّار أخيراً بأدوار الوصاية على سيد الصرح ملوحين بالثبور وعظائم الأمور في شأن زيارته المرتقبة الى بيت لحم، الأمر الذي عجزت و عفتّ السلطنة العثمانية أربعة قرون من امكان تضمين السيد البطريرك “الفرمان العثماني” كما يحاول أولئك.
* يذّر معيار الوقاحة والصلف لأدعياء الممانعة بقرنه عبر نبش القبور واستحضار أهوال الحرب اللبنانية في محاولة لتشويه صورة الدكتور سمير جعجع وثنيه عن الاستمرار في برنامج ترشحه للانتخابات الرئاسية، نؤثر التصدي للحقائق الدامغة التالية:
أ ) هل كتب على الدكتور جعجع اثقال منكبيه بأوزار الحرب من دون سواه من أصحاب الحظوة والسيطرة يرتعون في مؤسسات الدولة منذ عقود يعيثون فيها فساداً، ويبيضون ويصفرون ما شاؤوا بعد أن خلا لهم الجو، في الوقت الذي قبع هو انفرادياً يحاكي الشحّ في وجدان أولياء الأمور أنذاك، ويؤشّر الى انحلالهم القيمي والانساني تجاوباً مع ارادة الاحتلال السوري وغاياته؟
ب) هل طبّق في تظلم الدكتور جعجع وقهره نموذج التراتبية الطبقية كونه أطلّ عملاقاً من عائلة مارونية جذورها تعانق جذور الأرز، لكنّ نقص ما فيها طرابيش المشايخ وعباءات الاقطاع؟
ج) هل يذعن الموارنة لأصحاب هزّ الأصابع يجاريهم في ذلك جوق من نواب الصدفة الموارنة المدونين انتخابياً على ذمّة التكليف الشرعي لـ”حزب ايران” في لبنان؟
د) هل يحرم الموارنة من استيلاد هامات كالتي مهرت تاريخهم الحديث ببصمات الريادة والعنفوان مثل الرئيسين كميل شمعون وبشير الجميل، ويذيلون الأن حضورهم النابض بالارادة، والمحصّن بالصلابة عبر ترشح الدكتور جعجع، فيرتدون مجدداً لباس التسوية بتقليد السنوات المنصرمة باعتماد موظفاً برتبة عالية للرئاسة ويتعرّون من التجدد في افراز واستنباط قادة رأي وسياسة أسوة بالطوائف الأخرى؟
ه) في الختام أتوجه الى كلّ من القاصي الممانع ومن الداني المقاوم بأن لبنان ليس مستقراً لأصحاب الوكالات الحصرية المستوردة من مجاهل التقهقر الحضاري، ومرابع التنكر لحقوق الانسان، فيجري التدليل عليها بالترهيب تارة والترغيب طوراً والأدهى في ذلك استنسابية “تحريم حلال” الأخرين و”تحليل حرام” ما يتفوقون به على سواهم من تجاوزات واقترافات.