كان احد المسؤولين الكنسيين يتصفّح كتيّباً ومجموعةً من الأوراق وهو يُحادث ضيفه الاعلامي “المفترض”، كمن يفكّر بصوتٍ عالٍ.
يرفع الكُتيّب الأول امام عينيه وهو برنامج “الطريق الآخر”، ثم يقول بصوتٍ عالٍ: لقد نقبّت في عشرات الأمكنة حتى نجحت اخيراً بالاستحصال على هذه النسخة من برنامج “التيار الوطني الحرّ”. للأسف فلقد تبرّأ “التيار العوني” من برنامجه السياسي واستعاض عنه، تارةً بورقة تفاهم، وطوراً بمبادرةٍ من ورق.
ويسأل: اين التيار العوني اليوم من هذا البرنامج؟ هل سلّم “حزب الله” سلاحه الى الدولة اللبنانية مثلما كان ينادي بذلك البرنامج البرتقالي؟ لقد اعتقدنا للوهلة الأولى ان “مبادرة” العماد ميشال عون سوف تتضمّن حلاًّ لمعضلة السلاح غير الشرعي التي تقضّ مضاجع الحياة الديموقراطية في لبنان، لا ان تطرح معضلةً جديدة وتضع عراقيل إضافية بوجه النظام السياسي والحياة الديمقراطية!
ذاكرة المسؤول الكنسي متخمةٌ بالوقائع والمواقف الأحداث التي تنسف ما يذهب اليه “التيار العوني” راهناً. يقول: عندما طلب البطريرك صفير من الرئيس السابق اميل لحود التنحّي بسبب العزلة والوهن الذي جلبه لموقع الرئاسة، تبرّع العماد عون، نيابةً عن “حزب الله”، بالتصدّي لهذا الطلب. اليوم لا يجد عون حرجاً بالحديث عن فراغ موقع الرئاسة منذ 24 سنة! لقد تعهدّت الأحزاب المسيحية الأربعة في بكركي بعدم تعطيل إنتخابات الرئاسة، ولكن عندما دقّت ساعة الحقيقة، إنقلب “التيار العوني” على تعهّداته، وصار هو متعهّد التعطيل في الجمهورية اللبنانية!
يستفيض المسؤول الكنسي بالقول: لقد بُحّت حنجرة الكاردينال الراعي وهو يناشد النواب المعرقلين بتأمين النصاب وتسهيل انتخاب رئيسٍ للجمهورية، ومع ذلك فإن العماد عون يمعن في تجاهل هذه الدعوات، ويحاول إلهاء اللبنانيين بمبادراتٍ وطروحاتٍ من خارج الزمان والمكان. فهل بتسخيف دعوات ومناشدات بطريرك الموارنة تتأمن مصالح المسيحيين؟ لماذا لا يسير العماد عون بواحدةٍ من مبادرات الكاردينال الراعي الموضوعية الكثيرة، بدل ان يرفع بوجهها مبادرةً بهلوانية وُلدت ميتة؟!
العماد عون هكذا دائماً، استغل “غزوة الأشرفية” ليُخيف المسيحيين من الطائفة السنّية ثم عاد وابرم في اليوم التالي وثيقة تفاهم مع “حزب الله”.
يُكمل المسؤول الكنسي بالقول: يتباكى التيار العوني اليوم على خطر التكفيريين، مع ان سلوكه بحّق المسيحيين يتفّوق بكثير على هؤلاء. ويسأل: من يُعطّل انتخابات الرئاسة ويفرغ موقع المسيحيين في التركيبة اللبنانية، “داعش” ام “التيار العوني”؟ من شنّ حرب الإلغاء الأولى والثانية ودمرّ مقومات الوجود المسيحي بحجّة محاربة الميليشيات المسيحية قبل ان يرتمي في احضان الميليشيا الشيعية؟ هل هو “داعش” ام “التيار العوني”؟ من ساهم بتهجير 300 الف مسيحي خلال حرب التحرير؟ هل هو “داعش” ام الجنرال عون وحليفه الحالي النظام السوري؟ من همشّ الإعتدال السنّي وحاربه واقصاه عن الحكم لمصلحة تنامي الموجة التكفيرية، هل هو “داعش” ام عون وحلفاؤه؟
يُضيف المسؤول الكنسي قائلاً: إتفاق “الطائف” كان نتيجةً لحروب الاستنزاف المسيحي التي اعلنها الجنرال عون وليس سبباً لهذا الاستنزاف. اتفاق “الطائف” كان نتيجةً لإختلال ميزان القوى الداخلي والإقليمي وتراجع الدور المسيحي بفعل حرب التحرير العبثية، والتي اتت نتيجة خلل في الاتفاق بين غازي كنعان بل حافظ الاسد وميشال عون، الذي طلب من الاول ان يكون -شرفاً- جندياً في جيشه، لكنه لم يكن ليحظى بهذا الشرف الا تحت راية ضرب “القوات اللبنانية” في 14 شباط 1989، فكان للاسد ما اراد، ولكن عون لم يحصل على ما يريد لتنته الرواية بتدمير المسيحيين مرةً ومثنّى وثلاث.
يلتفت المسؤول الكنسي من حوله ثم يتناول كتاب “الرهان الممنوع” للسيد حبيب الخوري حرب، ويستشهد ببعض فقراته، فيقول: من المفارقات اللافتة ان العماد عون الذي شنّ حرب الإلغاء ضد “القوات اللبنانية” بحجّة تعاونها مع السوريين، كان في الفترة نفسها يُرسل مؤلف الكتاب ومبعوثين عونيين آخرين للتفاوض مع غازي كنعان، بغية إشعال جبهة الشمال وتضييق الخناق العوني-السوري على “القوات اللبنانية”!
يتناول المسؤول الكنسي قصاصة ورقٍ صغيرة ثم يلتفت الى ضيوفه ويقول: هذه هي مبادرة عون العظيمة. هو لم يكتفِ بتعطيل الجمهورية إكراماً له ولصهره، وإنما يريد إختصار الدستور اللبناني ومئات القوانين بقصاصة ورقٍ لا تتعدّى اسطرها اصابع اليد الواحدة!
ويُعقّب بالقول: لقد اعلن الدكتور جعجع عن مبادرةٍ لحل ازمة الشغور الرئاسي، قوامها الإتفاق مع العماد عون على مرشّحٍ ثالث وطرحه على الحلفاء، كما اعلن استعداده للإنسحاب لمصلحة احد اسماء اللائحة التي عرضها الكاردينال الراعي، ولكن جواب العماد عون كان كالعادة “أنا او لا احد”.
ويسأل: هل ان تحقيق المصلحة المسيحية يكمن في شخصنة الوجود المسيحي وربطه بوصول شخصٍ او عدمه الى موقع الرئاسة؟ وهل يمكن اختصار المجتمع المسيحي بشخص العماد عون وحده؟ يُضيف المسؤول الكنسي: حتى اكثر الشعوب تخلفاً لم تحتمل الآحادية والديكتاتورية فانتفضت عليها، فهل المطلوب ان يقع الشعب المسيحي، رائد النهضة والديمقراطية في هذا الشرق، تحت رحمة ديكتاتوريةٍ آحادية لفظتها كل الشعوب المحيطة؟
يعود المسؤول الكنسي بالذاكرة الى مؤتمر سان كلو العام 2007، حينها طرح وزير خارجية ايران على المبعوث الفرنسي جان كلود كوسران، رؤية بلاده لحّل ازمة الشغور الرئاسي وتضمنّت إعادة توزيعٍ للصلاحيات بين الطوائف الثلاث الكبرى، بحيث يتم الإنتقال من المناصفة الى المثالثة. ويُذكّر المسؤول الكنسي بأن “قوى 14 آذار كانت السبّاقة الى رفض هذا الطرح، اّما جواب سعد الحريري على ذلك فكان “لقد اوقفنا العّد”. ويُكمل بالقول: بماذا قوبل موقف سعد الحريري المشرّف من قبل التيار العوني. العماد عون رفض أن يتم الإعلان عن إسقاط حكومة الحريري إلاّ من دارته في الرابيه تحديداً!
يختم المسؤول الكنسي كلامه بالقول: من اقتحم مقر البطريركية في بكركي وحقّر سيد الصرح، ومن حاول تقزيم دور البطريركية المارونية، يريد إيهامنا اليوم انه “مُخلّص” المسيحيين! فهل من فجورٍ اعظم بعد؟