لقد بدأت أسباب النهضة تضطرم في كيان الأنسان العربي ووجدانه، منذ بدايات عصر الانحطاط، وذلك بسبب التعسّف السياسي والظلم الأجتماعي والقهر. وكان من الطبيعي أن يولّد هذا الواقع اندفاعا صوب التمرّد والأنتفاضة، فيثور العربي في سبيل الحرية والعدالة والفكر المنفتح، ويعبر الى ضفّة الرقيّ والوعي. وأذا أردنا أن ننظر في الأسباب التي فعلت فعلها ودفعت الى هذا العبور الذي خرج بأنسان عربي جديد يمهّد لنفسه طريقا تحرّريا، وجدناها مشدودة الى الحياة آنذاك بكل مرافقها السياسية والأجتماعية والفكرية والأقطاعية.
والحق يقال إنّ اليقظة النسائيّة أدّت هي الأخرى دورا في هدم جدران ليل الأنحطاط الطويل. إنّ المرأة هي النصف الأنساني، والمقياس الأوحد الذي يتمّ أعتماده لتصنيف المجتمعات في تطوّرها أو تخلّفها، فالمجتمع ينهض بنهوض المرأة وينهار بانهيارها. لقد كانت عصور الأنحطاط سجنا أهدر قيمة المرأة وحوّلها سلعة بيعت بأبخس الأثمان، وحرمها من أبسط حقوقها كأنسان. لكنّ أرادتها المتمرّدة هدمت جدران سجنها على من بناه، وانتفضت مطالبة بالحريّة والعلم وبمشاركة الرجل في معادلة الحقوق والواجبات، في زمن أرهق المرأة بالظلم والجهل والشراسة الجسدية والحرمان. وكان من نتائج نضالها المواجه أن فتحت لها أبواب المدارس والعمل، ونزع عن وجهها السفور وعن عقلها الحجب، وتطوّر وضعها العائلي من تزمّت والتزام بالتقليد الأرعن الى كيان يتمتّع بإمكانيّات أنسانيّة هائلة.
بعد مسيرة الجرأة النضالية التي أنتجت عضوا بارزا في عمليّة التطوير، ينبري أحدهم عندنا ليردّ المرأة الى عصور الظلام حيث كانت تربط من يديها ورجليها وعنقها الى سلاسل التهميش والتبعيّة والعبوديّة المنكودة. فكأنّنا نتمختر في أسواق نخاسة جديدة، حيث لا يتاجر بالرقيق بل بكرامة الأنسان. هل يعي هذا " الأحدهم" أنّه يخيّب ظنّنا به، عندما يبدو حليفا للأشقياء في أعادة المرأة الى حال الزحف والعجز والأستغلال؟ الم يجد سبيلا الى "التسلطن" سوى في ردّ المرأة الى عهد الجواري وتعفّنها في أقبية التنكيل ؟ وكيف يغضّ طرفه عن الضريبة غير المسبوقة في زمن الناس، والتي دفعتها المرأة، أذ علّقت على خشبة من لحمها ودمها، وحفر الذلّ في قلبها أثلاما من الحزن، كل ذلك بهدف أن تمحو وصمة العار من على جبين الرجل الذي داسها كحشرة لقرون طوال، لتبيّض صفحته في صفحة التاريخ.
هذه المجّانية في الموقف لدليل ضعف وجهل. وكأن الرجل لم يقرأ في حضارات الشعوب ونتائج الثورات الأجتماعية وتجلّيات المرأة على مساحات الأمم، هذه المرأة التي تستوجب منّا أجرين: واحد لأنّها ساهمت في مسيرة التطوّر والتقدّم والتمدّن، وآخر لأنّها سامحتنا.
فيا مدمنة الجمال والرقّة ورجاحة العقل، أنت المرفّهة كأولاد الملوك، لا تؤاخذي التعصّب الذكوري الممجوج وديكتاتوريّة الشعور بالتفوّق، فأذا صوّرك بعضهم، ممّن يفتقدون عصور الأنحطاط، رصيفا يغمس رأسه في كومة الأرجل، فأنت للأكثرين نصف إله.