سوريون في لبنان… الشفقة عنصرية أيضاً

حجم الخط

 

بين «الحركة النازية اللبنانية ضد الوجود السوري في لبنان»، وحملة «لا للعنصرية ضد السوريين» التي انطلقت في مواجهتها، جهل متبادل بين أطياف اللبنانيين أنفسهم، وقواسم مشتركة غير مدرَكة بمعزل عن المستهدفين من كلتا الحملتين، أي السوريين المقيمين في لبنان، لاجئين كانوا أو نازحين أو مستثمرين أو مجرد زائرين.

ومع التسليم بفظاظة تسمية الحملة الأولى، وضرورة وصواب مواجهتها بالثانية، يبقى أن ضيق فئة من اللبنانيين، والمسيحيين تحديداً الذين عبر عنهم الوزير نقولا صحناوي خير تعبير، لا يرقى إلى كونه عنصرية أو نازية! ذاك أن الحملات العنصرية الفعلية تتخذ أشكالاً عنفية متسعة النطاق، وغالباً ما تكون ممنهجة وسرية ريثما تتحدد معالمها في سياسة واضحة، وهو ما كادت تظهر له مؤشرات مقلقة في بداية التوافد السوري إلى لبنان قبل أن يعاد ضبطها. أما حملة «فايسبوكية» ألغيت فور انطلاق حملات مضادة (فايسبوكية أيضاً)، واعتلاء وزير منبراً إعلامياً ليطرح منه أفكاراً بائدة في التعامل مع أزمة نزوح، فلا يعدو كونه تخبطاً طائفياً محلياً يعكس واقع التيار السياسي الذي ينتمي إليه صحناوي نفسه. فذلك هو ضيق العونيين ومأزقهم في «تحالف الأقليات» الذي يجمعهم بـ «حزب الله» المقاتل في سورية، وخوفهم من «بعبع» سنّي متعاظم عددياً، ويحظى داخلياً بغطاء من الفريق السياسي الخصم. فكأن صحناوي يقول مواربة لحلفائه: إنا ضقنا ذرعاً بما يجنيه قتالكم علينا، وانعكاس ذلك في التركيبة الداخلية لا يصب في مصلحتنا، محاكياً وعياً مسيحياً أبعد من محازبيه المباشرين ومحسّناً شروط التفاوض على حصة فريقه. أما لو شعر العونيون، واستطراداً تلك الفئة التي ينسحب عليها مزاجهم، بالحد الأدنى من السلطة والقدرة على تطبيق اقتراحات الوزير بترحيل السوريين وإخراجهم من شققهم لإفراغ المناطق المسيحية منهم لسعوا إلى تطبيقها من دون الحاجة للإفصاح عنها والتهديد بها.

وللسخرية، قد يكون في ذلك العجز ما يطمئن السوريين (وإن أزعجهم عملياً) ويقلق اللبنانيين الراغبين في تغيير أحوالهم. ذاك أن الخوف الطائفي داخل التركيبة الضيقة، يجعل صحناوي وصحبه أضعف من تسديد اللكمات لخصم سياسي «سنّي» قد تظهر الحاجة إليه عند منعطف انتخابي قريب، فيستعيضون عنه بسيل من الكراهية الخطابية ضد «محظييه» السوريين، على أن يدفع اللبنانيون لاحقاً فاتورة تقلبات السياسة.

وبالعودة إلى الحملتين المعادية والمتضامنة، فالهوة الاجتماعية أعمق من حملة «فايسبوكية» وكلام لوزير. ذاك أن الجهل المتبادل يكمن أولاً في رفض شريحة واسعة من اللبنانيين الاعتراف بحق شريحة أخرى بالخوف والامتعاض والقلق. وهو خوف مشروع ومبرر أحياناً، وواجب النقاش سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، إذا ما اتخذ أشكالاً أخرى في التعبير وتناول هموماً أكثر واقعية. فمتى تجاوز البحث سطحية الحساسية «سوري – لبناني»، وما تخلفه من فرط عداء أو فرط تضامن، بات ممكناً الحديث فعلياً عن عبء يشكله مليون ونصف مليون لاجئ (مسجل) هم أكثر من ثلث السكان، على بلد مفكك ومحدود الموارد.

والواقع أن حملة التضامن، على صدق مشاعرها، وقعت في فخ مزدوج. فهي بنضاليتها، أنكرت وجود أزمة، وقطعت بالتالي الطريق على إمكانية البحث عن حلول. ومن جهة أخرى، حولت قضية اللاجئين السوريين إلى مسألة إنسانية فقط تستدعي فيض المشاعر الداعمة والمتعاطفة، فيما هي كانت ولا تزال معركة سياسية وانتفاضة شعبية ضد نظام جائر، وبذلك وحده تستحق الدعم والمؤازرة في أشكال مختلفة، وبأساليب ضغط متنوعة. ومتى جُزِّئت تلك القضية إلى عناوين فرعية خسرت أحقيتها تلقائياً. وبهذا لا يمكن أن يأتي الرد على مخاوف المسيحيين (أو غيرهم ربما ممن لم يفصح عن مكنوناته) بالهجوم المضاد عليهم، وإنما بإعادة الأمور إلى نصابها والتذكير الدائم بالموقف السياسي وبمعركة خاضوها ذات مرة ضد النظام السوري ووجوده العسكري في بلدهم. البحث عن قواسم مشتركة بين فئة الخائفين وفئة المتعاطفين مسؤولية لبنانية بالدرجة الأولى. فعندما ينجح اللبناني كفرد في تلخيص الإجابة عن سؤال «لماذا يقبل بتوافد اللاجئين السوريين إلى لبنان» وبالرد على صحناوي وغيره بأنها مسؤولية أخلاقية ومعركة سياسية وواجب قانوني لكون لبنان وقّع على معاهدات دولية بهذا الشأن وهو ملزم بتطبيقها وقبول المساعدات الدولية المرافقة لها، يكون عندئذ قد خطا خطوة أكبر من توجيه تهم العنصرية على الخائفين وتعميق خوفهم وكراهيتهم.

وإلى ذلك، فالشعارات التي رفعتها الحملة بحسن نية وصدق مشاعر من قبيل «السوري عمر بيتك» أو «في سوري رفع راسي وراسك» أو حتى «مش كل سوري مجرم، ومش كل لبناني بريء»، وغيرها ما يحيل السوريين إلى سوية واحدة، وينفي عنهم حق دعمهم في ما لو لم يعمروا بيوتنا. إنهم مرة أخرى هؤلاء العمال «الأدنى شأناً» الذين لم نتوقع منهم الإقدام على أي شيء شجاع، فإذا بهم يقومون بثورة ترفع رؤوسنا… وهم (للمفارقة) كغيرهم من الشعوب فيهم الصالح وفيهم الطالح! إنه للأسف، تكرار للتنميط الذي سبق وألحقته فئات واسعة من اللبنانيين بالمجتمع السوري حين شملته كله بقوات الردع. وهو الشعور العميق بالفوقية والسلوك غير المدرك الذي يعتمده الطائفي المتنصل من تلك الشبهة بأن يؤكد مراراً وتكراراً أن له أصدقاء مقربين من طوائف أخرى… فما بالكم أن يكونوا أيضاً سوريين؟!

المصدر:
الحياة

خبر عاجل