تعابير وجهي في قداس شهداء المقاومة اللبنانية في أيلول 2011 عندما رأيت البطريرك صفير داخلاً مكان الاحتفال ليترأس الذبيحة الإلهية متقدمًا نحو المذبح هي أبلغ كلام يمكن أن أقوله فيه. تهيأ لي في تلك اللحظة وكأن التاريخ كله كان يدخل معه الى ذلك الاحتفال. كأن كل إرث مار مارون والبطاركة كان يمشي معه أو يحمله على كتفيه وفي عقله وقلبه. كأن كل ذلك كان حاضرًا في تلك اللحظة بالجو الذي كان موجودًا. تلك الصورة هي من أحلى الصور العالقة في ذهني. لم تكن مسألة عادية أن يكون لهذا البطريرك كل ذلك الحضور. ذلك الشعور لم يكن لدي وحدي. عندما دخل البطريرك صفير شعر الحاضرون كلهم بتلك المهابة وبتلك العظمة واستذكروا كل ما قام به من أجل لبنان ومن أجلهم. ومن هنا يمكن فهم كيف بادله كل الحاضرين بذلك الترحيب الكبير.
البطريرك صفير هو رجل الدين الذي تتجسد فيه كل صفات التجرُّد والاستقامة بأوضح ما يكون. على المستوى الشخصي شاءت الظروف أن أواكبه منذ العام 1986 حتى العام 2011 على مدى 25 عامًا كاملة. لقد كان البطريرك ضمير لبنان والصوت الصارخ في برية عهد الوصاية الذي حاول أن يقمع كل الأصوات ولم يقوَ على صوت بكركي.
أبعد من الشأن الوطني، أشعر بعاطفة خاصة تجاهه لقاء كل ما قام به مع مجلس المطارنة الموارنة لأنه كان دائمًا يدافع عن الحق. ولا أعتقد أنه فضَّل إنساناً على إنسان آخر. دائمًا كان يبقى متجرّدًا ولعل هذا التجرّد هو الذي أهّله ليحمل كل هذه العظمة وكل هذه المسؤولية من دون أن يتردّد في أي لحظة.
الدور الإنقاذي الذي قام به في مرحلة الطائف كان كبيرًا جدًا. الحكي اليوم عن تلك المرحلة هيِّن كتير. ولكن لما بتكون بقلب الأحداث بهيداك الوقت من سنة 1988 لسنة 1990 بتحسّ بتقل الأحداث على كتافك وبوجوب عمل شيء لإخراج البلاد مما كانت تتخبط فيه. هذا ما فعله البطريرك صفير وقتها. هل أنصفه التاريخ؟ أعتقد أنه أنصفه في جزء كبير مما قام به وحققه. كل عمره البطريرك صفير عايش مرتاح بمصالحة تامة مع نفسه. استطاع أن يملأ الفراغ على المستوى الوطني وعلى المستوى القيادي المسيحي الى حد كبير. أقله لو لم يكن موجودًا ربما كان وضع المسيحيين اليوم في لبنان كوضع المسيحيين في سوريا. الأكيد أن البطريرك صفير بمواقفه وصموده ومقاومته السلمية هو الذي عبّد الطريق لانتفاضة استقلال 2005.
هل يمكن مقارنته بالبطريرك الياس الحويك أبي الاستقلال الأول والقول إنه أبو الاستقلال الثاني؟ لا أحب هذه المقارنات نظرًا لاختلاف المرحلتين وبعدهما الزمني. بمواقفه هو الذي عبّد الطريق نحو هذا الاستقلال من أجل إعادة تثبيته وفق المسار العام الذي يحكم مواقف بكركي. نتذكر كم حاولوا معه أن يذهب الى سوريا ولكنه لم يذهب. مواقفه أوحت لغيره كم بإمكانهم أن يقاوموا ويمانعوا ومن هنا بدأت الزعامات اللبنانية الثانية تصير ممانعة.
خلال وجودي في الاعتقال لم تكن هناك رسائل شخصية متبادلة بيننا. ولكنه حمل بأمانة قضية الدفاع عني وعن “القوات اللبنانية” ضد الظلم والاضطهاد اللذين تعرضنا لهما لأنه كان يعرف أننا كنا مظلومين.
عندما التقيته بعد خروجي من الاعتقال كان اللقاء حارًا جدًا. وجهه كان يعبّر عن فرحة كبيرة.