«مد الخطوة وأمش تلقى الصعب فات غير الله ما دامش وكل حي مات وإن كنت ناصح وفهمت المقالة فهمها يا ابني للي ما فهمش» – محمود الشاذلي
لا تزال ترن في مسمعي كلمات فاروق الشرع بعيد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عندما قال: «إن سعي بعض اللبنانيين للمطالبة بالحقيقة سيؤدي إلى دمار لبنان». أما القول المشابه الثاني فقد جاء على لسان بشار الأسد عندما قال: «إن إنشاء المحكمة الدولية سيؤدي إلى اشتعال المنطقة من حدود أفغانستان إلى شاطئ المتوسط».
لم تكن تلك نبوءة، فأنظمة كنظام بشار، مثلها مثل منظومات التسلط والإرهاب الأخرى، تستمد حياتها واستمرارها من قدرتها على التدمير، وبالتالي من ضعف منظومة الاستقرار التي تحاول، إلى حد الانتحار أحياناً، التقليل من الخسائر في البشر والحجر.
بالتأكيد لم يكن الشرع أو بشار يعتمدان على القوى الذاتية لنظام ممقوت عالمياً وإقليمياً، يسيطر على سوريا على مدى عقود عدة بسياسة القمع والإرهاب. الواقع هو أن ما راهن عليه هذا النظام هو تشابكه مع منظومات مشابهة له في اعتمادها على القدرات السلبية، وبعض هذه المنظومات في الظاهر معادية له، ولكنها في المحصلة تصب في بحيرة واحدة عنوانها إرهاب الآمنين.
هذه المنظومات تجد نفسها في تحالف موضوعي مع بعضها وتؤمن استمرارها من وجود تطرف آخر مماثل في الأسلوب يتواجه معها بالحديد والنار، ولكنه هو أيضاً يعتمد في استمراره على التطرف المواجه له نظرياً.
بمراجعة مختصرة، فقد تحالفت واختلفت أنظمة التسلط في المنطقة مع منظومات مسلحة معادية لها في الأهداف والعقائد والشعارات، من أجل ابتزاز العالم من جهة، ومن أجل التأكيد أن هذه الأنظمة بوحشيتها المنظمة، هي شر أفضل من شر الوحشية العشوائية من جهة ثانية.
هكذا رعت بعض الأنظمة منظمات متطرفة سياسياً مارست الإرهاب على أنواعه تحت شعارات وطنية وقومية وعلمانية في البداية، وهي نفسها تتحالف موضوعياً اليوم مع منظومات تحمل شعارات دينية وأسطورية تمارس النوع نفسه من العنف والتطرف والإرهاب الذي مارسته شبيهاتها العلمانية والملحدة.
اليوم الأمثلة كثيرة، ولكن في عالمنا القريب هناك على الأقل أربعة كيانات تعتمد هذا النوع من الوقائع وهي إسرائيل وسوريا والعراق وإيران، كلها منظومات تسوغ سلبياتها وتطرفها بسلبيات وتطرف المنظومات التي تواجهها، في الوقت ذاته تعتمد على توازنات محلية ودولية دقيقة هي عبارة عن تجاذبات وتنافرات متشابكة تؤدي في المحصلة إلى استدامة وجود هذه المنظومات مجتمعة.
ما لنا وهذا الحديث الفلسفي، فنحن اليوم نعيش واقع الحدث وهو أن الواقع القائم في سوريا على مدى السنوات الماضية انتقل إلى لبنان بشكل واضح من خلال ما يحدث في عرسال.
لم تكن هذه المحاولة الأولى لنقل مشكلات سوريا إلى لبنان، فقد نجح نظام حافظ الأسد بنقل أزمته إلى لبنان في السبعينات، وهي أزمة كل نظام متسلط يتخطى عجزه عن حل إشكالات الاقتصاد والاجتماع في بلده من خلال وعود بتحول هذا البلد إلى امبراطورية. وهكذا استمر عبث حافظ الأسد في لبنان وشؤونه، وقلب الطوائف على الطوائف والفئات على الفئات إلى أن مات فتولى إبنه المهمة بعده حتى حصلت «حماقة» اغتيال رفيق الحريري.
وهنا حاول بشار الأسد العودة عن الطريق ذاته الذي مارسه والده وهو اللعب على وتر التطرف والإرهاب المرتبط به. فشل في المرة الأولى في قضية «نهر البارد» عندما تكتل المكون السني حول الجيش اللبناني لمواجهة هذه الظاهرة، وفشل مرة أخرى عندما لم يستدرج المكون السني لمواجهة مفتوحة مع المؤسسة العسكرية بعد قضية اغتيال الشيخ عبد الواحد في عكار ثم قضية أحمد الأسير. لكن اليوم يبدو أن بشار نجح إلى حد ما في نقل المعركة إلى لبنان بتواطؤ من «حزب الله»، ونجح أيضاً في وضع الجيش اللبناني في موقع المواجهة الإلزامية في معركة لن يخرج منها إلا مثخناً بالجراح، وقد يكون الكيان برمته معرضاً للخطر خلالها وإثرها.
مجدداً يؤكد «حزب الله» بأنه لا ينتمي بأي شكل من الأشكال إلى منطق وجود لبنان، وهو كما بدا واضحاً من تصرفات وتصريحات قادته، يعتبر هذا البلد تفصيلاً صغيراً في الرؤيا الإقليمية والأممية، ولا يأبه إن ذهب البلد وسكانه بمختلف تلاوينهم، وحتى الشيعة منهم، وضحايا جانبيين لصراع يعتبره صراعاً أممياً ستتدخل الأسطورة المهدوية فيه عاجلاً أم آجلاً لحسمه في مشهدية هي نهاية العالم. لولا ذلك لكان رأف بالناس وبعذاباتهم، ومن ضمنهم مئات العائلات التي فقدت أبناءها في أوهام الدفاع عن فاطمة الزهراء وأسطورة استدراج صاحب الزمان للخروج من غيبته الكبرى.
قد نكون وصلنا اليوم إلى نقطة لا نفع فيها أن نعود إلى الوراء، وقد يكون الزمن فات لتصحيح الأمور، يبقى اليوم الاعتماد على حكمة ووطنية المؤسسة العسكرية لإدارة المواجهة وتجنب مزالق التحول إلى متراس يحتمي به حزب الله ونظام بشار فيتهدم الهيكل علينا جميعاً.