لكي توضع الاصبع على الجرح الحقيقي!

حجم الخط

بالرغم من كل ما قيل وسيقال، وعلى فداحة ما كشفه وزير الصحة وائل أبو فاعور لجهة تخثر الحياة البشرية في لبنان، وحتى رخصها غير المسبوق، فلا مفر من القول إن الاصبع لم توضع بعد على الجرح الحقيقي… خصوصاً في التناول السياسي والإعلامي والاجتماعي لهذه المسألة.

ذلك أنه تتكشف يوماً بعد يوم موبقات الـ«لادولة» اللبنانية التي دفعت باتجاهها قوى محلية وإقليمية خلال الأعوام الماضية، ونجحت في جعلها «أمراً واقعاً» بالرغم من كل ما حاولت هذه القوى قوله غير ذلك.

ولن يكون مستغرباً أن تتكشف بعد فترة حقيقة أن ما أماط الوزير أبو فاعور اللثام عنه لم يكن سوى قمة جبل الجليد الذي غطى، على مدى سنوات عدة، الأرض ومن عليها في هذا البلد نتيجة تغييب الدولة ومؤسساتها وإداراتها الرسمية بالقوة… وحتى تحديها عندما كانت تحاول القيام بالحد الأدنى من واجباتها.

وسواء كان الأمر يتعلق بالأمن الغذائي، موضوع مبادرة الوزير أبو فاعور، أو بغيره مما له صلة مباشرة بحياة الناس (الأمن الشخصي، أو الأمن الاقتصادي- الاجتماعي، أو الأمن التربوي أو الأمن البيئي)، فلا حاجة الى القول إن فقدان الرقابة يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن ذلك، لكن الأفدح منه هو التدمير الممنهج بأيدي قوى سياسية وحزبية بعينها لما يتعارف الناس على تسميته بـ«هيبة الدولة»، والعواقب الكارثية التي يؤدي اليها، ليس فقط في نظر هذه القوى التي تبني نفوذاً عليها، إنما أساساً وقبل ذلك في نظر المواطن نفسه.

ذلك أن الـ«لادولة» التي تمددت الى كل شيء في لبنان، والى كل منطقة ومدينة وبلدة ودسكرة، لم تفعل في واقع الأمر إلا أنها أشاعت ثقافة الخروج على القانون والنظام العام، حتى لو كانت لدى بعض الناس رغبة (أو ربما قدرة لدى البقية الباقية من أجهزة الدولة) لالتزام القانون والنظام العام.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، كيف يتأتى لمواطن أن يفكر جدياً في «هيبة الدولة»، فضلاً عن أن يحترمها، عندما يرى بأم العين قوة حزبية بسلاحها (أو من دون سلاح) تمنع رجال الأمن من قمع مخالفة بناء في منطقة ما… أو يشاهد على شاشات التلفزة «نواب الأمة» ووزراءها يقتحمون قاعات المطار ومدرجاته ويخرجون منه «مطلوباً للعدالة» بمذكرة من القضاء من دون المرور على شباك الأمن العام…

أو ينصت الى مؤتمر صحافي يتحدث فيه مسلح مقنع باسم «الجناح العسكري» لعائلته معلناً ما وصفها بـ«حرب مفتوحة» لتحرير مخطوف من أفراد العائلة… أو يسمع عن قيام عناصر «جهاز أمني» تابع لطرف سياسي ما بتطويق منطقة ومنع جهاز الأمن الرسمي من الاقتراب منها الى حين الانتهاء من تحقيقاتهم هم بحادث أو جريمة فردية أو انفجار قنبلة جرى في تلك المنطقة… أو بمبادرة مسلحين الى الاعتداء على دورية من الجيش، كما حدث في منطقة مار مخايل، ومطالبتها بالانسحاب أولاً ثم باعتذار قادتها بعد ذلك على مجرد تواجدهم هناك من دون التنسيق مع قيادة المسلحين…أو أو؟!.

واقع الحال إن ما عاشه اللبنانيون خلال الأعوام السابقة، تحت عنوان أنه «دولة ضمن الدولة»، لم يكن في حقيقته إلا إلغاء للدولة بما هي ممارسة فعلية وهيبة في أذهان الناس من ناحية، وعدم قيام البديل الفعلي الذي يُفترض أن يملأ الفراغ من ناحية ثانية، ولم تكن محصلة ذلك في النهاية إلا ما نراه الآن من الـ«لا دولة» في كل مجال من مجالات الحياة وفي كل منطقة من مناطق لبنان تقريباً.

وعملياً، فليست الفضائح التي كشفها الوزير أبو فاعور في مجال الصحة (في هذا المجال فقط حتى الآن) سوى واحدة من نتائج تغييب الدولة أياً كان ما يُقال بشأنها. ذلك أن القضية هنا ليست قضية فساد، فهذا موجود في كل مكان في العالم وبصور مختلفة. ولا هي الرغبة في تحقيق الربح بما فيه الربح الفاحش، فهذه بدورها من طبيعة البشر خصوصاً عندما يكون بلد ما في أزمة اقتصادية ومالية كما هي حال لبنان الآن. ولا هي كذلك فقدان الرقابة، فهذه لا توجد أساساً إلا عندما تكون هناك دولة… بغض النظر عما إذا كانت «دولة قوية» كما ينادي البعض (أعطوني دولة وتعالوا نتكلم!) أو كانت دولة ضعيفة كما هي حالها في لبنان على مر التاريخ.

باختصار شديد: هذه هي مشكلة الأمن الغذائي في لبنان، كما هي مشكلة كل أمن آخر… من الأمن السياسي، الى الأمن الشخصي، الى الاقتصادي – الاجتماعي، الى الأمن التربوي، الى البيئي إلخ… وما لم توضع الاصبع على هذا الجرح، فكل علاج لا يلبث أن يصبح مؤقتاً لتعود الأمور مجدداً الى ما كانت عليه من قبل.

المصدر:
المستقبل

خبر عاجل