!-- Catfish -->

في الثابت المتحوّل

من محاسن الصُدف (ومحاسن غير عواطف!) عدا عن خلاصات التجارب المتتالية واستنادها إلى وقائع رقمية وحسابية لا تُجادَل، أنّ لبنان مأزوم بتعدّديته، لكن هذه تماماً، كانت ولا تزال وستبقى درعه الواقية من الاندثار أو الانكسار أو التلاشي تحت وطأة أزماته المستحيلة، أو تحت أثقال مشاريع متناقضة، واحدة رأته «تفصيلاً» غير مهم في محيط قومي، وسعت إلى فرط كيانه استناداً إلى ذلك. وواحدة اكتفت به في ذاته، وسَعَتْ إلى تحميله أوزاراً تشبه الخيال الجموح والجميل المسطور في أشعار الراحل سعيد عقل!

ومدّعٍ مغرور، مَن يفترض في حالِه قدرة على تشخيص دائم لحالة متقلقلة.. مهزوزة وتغيّر في ألوانها بمعدّل أسرع وأنشط من المعدّل الطبيعي لتغيُّر الفصول! بحيث إنّ «الثابت» الوحيد في الحالة اللبنانية هو زواجها المؤبَّد من التحوّل! وهذا يحمل دائماً طابع الحسم والجذرية. كأن يُقال عن صواب، إنّ الحروب الضروس التي فتكت باللبنانيين وشلّعت دولتهم الضابّة والجامعة لهم، أسّست لاستحالة (طبيعية) هي عودة الجماعة من تيه انفصالها الدموي، إلى الالتقاء تحت أي خيمة مطرّزة بكلاميات وردحيات العيش الواحد، والاستكانة القلقة لسلطة دولة (أكثر قلقاً!) ما اكتمل بنيانها مرّة في التاريخ الوطني الحديث!

.. ثمّ يُبان شيء آخر، لا يقلّ حسماً ولا جذرية، يفيد في خطوطه العريضة والنحيفة، الشاملة والتفصيلية، ان الاستحالة تكمن في الضدّ تماماً: أي في ترسيخ انفصال الجماعة الأهلية اللبنانية، وتحوُّلها إلى جماعات متآلفة مع هويّاتها الدينية والمذهبية، ثمّ مع انتماءاتها السياسية المربوطة حكماً وحتماً بتلك الهويّات.. باعتبار أنّ الدم أكثر ثقلاً من الزجل. والبارود أكثر فتكاً وإحراقاً من الكيد السياسي العابر. والتاريخ أكثر عِبرة ومدعاة للاتّعاظ من النصّ الدستوري، خصوصاً إذا كان هذا ملتبساً بشبهة الفرض!

في الحالتين المتناقضتين، تطرفٌ منظور، وجذرية واضحة. والأهم التصاقهما بالواقع المقروء بدقّة. أي أنّ التشخيص يستند إلى حقيقة قائمة وليس إلى تخمين وافتراض يسبحان على مراكب التحليل لكن في بحر من الوهم التام!

وهاتان الحالتان اللبنانيتان المشتملتان على تفاصيل كثيرة، كثرة تقلبات الحروب والتسويات، تدلاّن على خلاصة منسوجة على نول «أبي نواس« عن الداء الذي هو دواء (التعدّدية!) وذلك قائم، إذا صحّ الزعم والجزم، وإذا أخذت المغامرة الفذلكية بصاحبها إلى صخرة اليقين رغم أنّنا قُلنا إنّه متحوّل وليس ثابتاً!

.. ربما لذلك (أو بالتأكيد) يصحّ النظر إلى أصحاب اليقينيات السياسية الممانعة بعدسات الاستخفاف وضمور الأهلية الفكرية، والشكّ المكين في قدرة هؤلاء على التمييز بين الصحّ والغلط، والثابت والمتحوّل.

يبقى أنّ المخزي في هذا المسار هو أنّ تجارب لبنان المتناقض (التعدّدي) ارتطمت دائماً بالدم والأرواح، ولم تكن وليدة صدام في الأفكار والرؤى والبلاغة اللغوية.

.. التعدّدية اللبنانية، ثابت متحوّل. تمنع موت الكيان وفي الوقت نفسه لا تخرجه من غرفة العناية المركّزة. لكنها رغم ذلك تحمل في جيناتها مضادّات فاتكة بكل طغيان.. وهذا لعمري وشرفي وناموسي، ليس أمراً هيّناً ولا بسيطاً ولا عارضاً.. عشتم وعاش لبنان!

المصدر:
المستقبل

خبر عاجل