كتبت فيرا بو منصف في “المسيرة” – العدد 1510:
ماذا يفعل الشهيد بعائلته؟ يقتلها بالغياب؟ صحيح يترك كل شيء، كل شيء. كل حاله، طيفه، هالته، وقعه وكأنه لم يرحل وهو أساساً لا يرحل. يجلس الشهيد في إطار الصورة بالظاهر، لكنه يصبح قضية، قضية كبيرة لأجلها يتحرّك حزب، يتفاعل وطن، وأبعد بكثير من القضية الوطنية ماذا يفعل شهيد بعائلته؟ يكرّمها صحيح لكن في مكان ما يأسرها أيضًا، هل الذكرى تصبح سجناً فعلا أم السجن هو الهروب الدائم من الذكرى؟ وهل صورة الشهيد هي سجن يجب ألا تفتح أبوابه كي لا يخرج منه “الأسرى” بين مزدوجين بالتأكيد؟!
أن تبقى الصورة كما هي لامعة برّاقة، أن تبقى الزوجة تحمل نفس العائلة كي لا تخسر شهادته من حالها تلك الهالة، تلك القدسية؟ هل زوجات الشهداء قديسات ممنوع عليهن العودة الى حياتهن الطبيعية، أن يعشن إنسانيتهن كما تقضي الطبيعة البشرية؟ هل أبناء الشهداء ملزمون أن يكونوا على صورة ومثال الشهيد نفسه ليرضوا الناس ولو على حساب حياتهم الشخصية؟
منذ 33 عاماً، وحتى الآن، لم تتزوج صولانج الجميل، تلك السيدة الجميلة الراقية زوجة قائد لبناني استثنائي غيّر الكثير في مفهوم القيادة وفي مسار الوطن، صنع قضية لبنانية مسيحية في زمن الاحتلالات المتنوعة، صنع ثواراً حقيقيين ومناضلين لأجل مفهوم الدولة، لأجل ذاك الشعار الشهير الذي تحوّل عنواناً لكل مناضل حر، جمهورية الـ 10452 كلم مربّع.
كان الشيخ بشير رئيس جمهورية الحلم المبتور، كان القائد المقاتل الملهم الثائر السياسي الأب الزوج… وصار الشهيد وعلّق على ضمير الجمهورية، صار طريقاً نمشي عليه ونقتدي به ونعمل من وحيه لأجل تلك الجمهورية التي ابتدعها ذات حلم، تغيّرت الأيام وعبرت السنين، وبقيت صولانج الجميل تحمل اسم الجميل، تلك السيدة أم شهيدة وزوجة شهيد، التي كرّست حياتها لولديها نديم ويمنى ورفضت أن تحمل غير اسم البشير.
لا نقول دفنت شبابها لأجل عائلتها، الشباب لا يُدفن إلا إذا مات الحلم بالأحياء، إذا طُمر بالتراب وابتلعه النسيان، إنما حوّلت شهادة زوجها الى رسالة ونقلتها الى الأبناء بعدما صارت رسالة البشير ملك أجيال بكاملها، ضحّت بحياتها الخاصة لأجل تلك الرسالة، لأجل أن تبقى الصورة كما هي مكتملة كما كانت ومن دون تشويه؟ نقول ربما وإلا لماذا بقيت صولانج الجميل وفيّة لصورة القائد الشهيد ورفضت أن تضيف اسما جديدًا على اسمها الأول؟ حتى الولدين نديم ويمنى بقيا أسرى الذكرى، أسرى الشهيد، كيف؟ ما كان ممكناً أن يكونا إلا على صورة ومثال والدهما. “ما حدن بيحلّ محل حدن”. هما يعرفان تلك المقولة الشعبية ولكن حسبهما أنهما حاولاً دائماً وجاهدين أن يكونا على أفضل صورة ممكنة عن أبناء شهيد من هذا الطراز، لم ينجحا أحياناً لأن صورة القائد في بشير صعبة المقاربة والمقارنة كي لا نقول مستحيلة، كان يملك هبة من الله لم تمنح حتى الآن لأي قائد أو زعيم، تلك الكاريسما الساحرة عدا عن قوته وعنفوانه، وهذا ما لم يمكن اكتسابه ما لم يسبغه الله على الآخرين، لكن بقي نديم ويمنى أوفياء وبنبل كبير لذكرى الأب القائد، يفعلان ما يجب وما يمكنهما أن يفعلاه لإبقائه حيًا في ضمير الناس وليبقيا على مستوى ما يتأمله الناس منهما ولعل هنا الأسر، هنا الإطار الذي يحمله الشهيد ليبقي العائلة في داخله إن هي خرجت عنه خرجوا من ضمير الناس وأحياناً من محبتهم.
لكن ماذا عن باقي الشهداء؟ ماذا عن المجتمع الذي يتحول بدوره الى حاضن ليوميات عائلة الشهيد وأحياناً الى مراقب يأسرها في منظومته الاجتماعية عن قصد أو من دونه… ومن لحظة الاستشهاد يتحول هذا المجتمع الى إطار تسكنه عائلة الشهيد ولو على حساب “الأنا”. فالمهم أن تكون سيدة العائلة مكملة لمسيرة الشهيد وتبقى صورته لماعة وبراقة في عيون المجتمع؟
ماذا عن باقي الشهداء؟
باتريسيا بيار الجميل تعيش أيضًا في سجن الصورة. هي أرملة وأم لطفلين. عندما استشهد بيار كان شاباً وهي صبية، بقي هو شاباً حيث أصبح وهي ما زالت صبية تحفر الحياة فيها مرارة الغياب من جهة، وسنين وحدة من جهة أخرى وقبل ذلك وتلك، تصنّفها الحياة بزوجة شهيد مناضل أيضًا، ما يعني أن الحكاية يجب أن تقف هنا كي لا تنكسر الصورة الحلوة عن مثالية مفرطة موجعة أحياناً لكن هذا هو واقع الحال. حتى الساعة تبقى باتريسيا الجميل في بيت الجميل لأن الشهيد بالنسبة إليها أقوى من أي حي قد يلاقيها على طريق ما، ولأن الناس سترفض أي صورة مغايرة قد تنتقص من صورة الشهادة تلك… هو الحب الكبير المسيّج بالتضحية الكاملة لأجل الأبناء ولأجل… الذكرى أيضًا.
ألا يجب على الحياة أن تستمر؟ ألا يقول الإنجيل المقدس أننا أبناء الحياة؟ ألم يسجّل الرب يسوع بقيامته أكبر أعجوبة في تاريخ البشرية ليقول لنا اننا لا نموت إنما نحيا بالمسيح، وأن في الموت رجاء؟ أليس الرجاء على الأرض هو في أن نكمل حياتنا وإن تكللت بالموت؟ هذا ما تفعله زوجات الشهداء لناحية الاستمرارية إنما دائما من خلال الصورة وكي لا تخدش هذه الصورة.
منذ 13 عامًا لم تتزوج جيسي رمزي عيراني، ذاك المهندس الشهيد الذي اغتاله النظام الأمني اللبناني السوري، واكتفت بأن تكون حاملة لقب زوجة الشهيد رمزي عيراني وأم ياسمينا وجاد، ألم يكن بإمكان تلك السيدة أن تستنهض حياتها وتعيش قصة حب جديدة وهي ما زالت في مقتبل العمر، ومن حقها أن تفعل؟ ولم تفعلها حتى الآن، كرّست الحياة للأبناء ولتكريم زوجها على مدار الأعوام ومحاولة معاقبة قتلته، وإن كانت تعرف أن الأمر يبدو أحياناً مستحيلاً لكن تعتبر أن من واجبها أن تستمر في هذا النضال لأجل رمزي واحترامًا لشهادته، وكما الأخريات، لرمزي قداس سنوي يقام على نيته، وأيضًا جائزة سنوية توزع ضمن إحتفال هو تكريم لذكرى الشهيد وكي تبقى شهادته رسالة ضوء لا تنطفئ مهما حاول القتلة أن يفعلوا.
تبدو جيسي وكأنها صارت تعيش لأجل هذه الذكرى، وليبقى ولداها يستحقان أن يكونا ابني شهيد مناضل مشهود له بالشجاعة في أسوأ أيام الاحتلال السوري. هل هي أسيرة الصورة إذن؟ في مكان ما نعم، وفي مكان آخر لا، لأن الصورة تلك رفعتها الى أعلى المراتب عند الناس، زوجة الشهيد وليس أي شهيد…
2 حزيران 2005، اغتالوا الصحافي سمير قصير. ومذ ذاك التاريخ تبقى الإعلامية جيزيل قصير في ذكرى الرجل… لا، ربما الأصح القول تبقى في الرجل، فهي لم تبارحه حتى الآن، وواضح أنها ترفض أن تفعل، لم يكن قصير صحافياً عادياً، واجه النظام السوري في عزّ سطوته، اخترق المحظور ودعا السوريين الى الثورة والتمرّد والحرية، وضع الشال الأحمر وكان من صلب صلب ثورة الأرز، جنّد قلمه لأجل الحرية ثم الحرية والدعوة إليها في كل بقع الظلم والانتهاك وتحديداً لبنان وسوريا، كان ملاحقاً ويعرف بالاسم والوجه من كان يلاحقه ويرسل له التهديدات المباشرة، ولم يرتدع، بقي مشاغباً في الحرية، مناضلاً في صفوف ثورة الاستقلال الثاني، وبقي بلا حراس ولا مرافقين، ذاك الصحافي الوسيم المثقف، اليساري الهوى، لكن رياح الحرية عصفت به ليكون له رياحاً مغايرة عما شاء النظام الأمني ما غيره… وسكن الصورة، صار شهيداً، سال الحبر وانهمرت الدماء والدموع والرجاء، وبقيت الزوجة معلّقة في الذكرى وحوّلتها الى رسالة رائعة، سامية، جائزة سمير قصير السنوية، ومؤسسة على اسمه تُعنى بحرية الصحافيين في العالم، وبقيت جيزيل مع سمير، لم تتغيّر، على رغم مرور الأعوام العشرة الطويلة، كان يجب أن تفعل ربما أو لعلها هذا ما تريده لتبقى صورة الإعلامية مرتبطة مباشرة بصورة الصحافي الشهيد. “الوحيدة لـ عشقها أكتر مني هي بيروت” قالت مرّة، ولأنه عشق بيروت تبقى جيزيل وفية لصورة ذاك العاشق كي لا يخسر العشق من ألقه وليبقى الشهيد حيًا في الأحياء، في القلوب التي عشقته وتبقى كذلك حتى وهو …لا نقول ميتاً إنما وهو في الرحيل…
هذه حكايات متناثرة من هناك وهنالك، يبقى منها الكثير الكثير بعد، ويبقى الأكثر من الكثير ما يقوله الناس حين يرون هؤلاء، صحيح إنو لـ خلّف ما مات…