الإسلام السياسي وإحياء الخلافة

حجم الخط

أقتبس عنوان هذا المقال من الفصل المتميز الذي كتبه الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ بآداب القاهرة، والذي شارك في تحرير الكتاب الجماعي الذي أشرفت عليه وعنوانه “الخرائط المعرفية لظواهر العالم المعاصر”، والذي وعدت القراء بأن أرجع إليه لرسم ملامح الخريطة المعرفية للشرق الأوسط.

“التاريخ والأسطورة” هو العنوان الرئيسي وله عنوان فرعي يدل بوضوح على مضمون البحث وهو “الإسلام السياسي وإحياء الخلافة”. وإذا كنا في مجال تحليلنا المشروع الرئيسي لجماعات الإسلام السياسي، وهو إحياء الخلافة، قد استخدمنا مفهوم “اليوتوبيا” والذي يشير، وفق التعريف، إلى مدينة فاضلة ما يحدّد ملامحها مفكر أو فيلسوف، وكان الغرض هو إبراز الأوهام التي يعتنقها أنصار الإسلام السياسي عن الخلافة باعتبارها كانت “مدينة فاضلة” تتّسم بالعدل الذي يسبغه الخليفة على المسلمين، إلا أن الدكتور محمد عفيفي يستخدم لشرح الفكرة الثابتة التي عششت في أدمغة أنصار الإسلام السياسي عن الخلافة القول أنها في الواقع مجرد “أسطورة”.

وهو يبدأ بحثه بفقرة منهجية بالغة الأهمية حين يقول “من أهم الميادين الجديدة في حقل الدراسات التاريخية إعادة قراءة التاريخ وتفكيك العلاقة بين “التاريخ والأسطورة”.

ويضيف أن أنصار “علم التاريخ الجديد” اكتشفوا أن الكثير مما نتصور أنه حقيقي هو في الواقع أسطورة ربما لها بعد تاريخي، لكن حين يتم الترويج لها بذكاء تصبح بعد قليل تاريخاً رسمياً، ويتقبلها العقل الجمعي للشعوب، وتصبح بعد قليل تاريخاً رسمياً.

والدكتور عفيفي باعتباره مؤرخاً حاول، في ضوء الوقائع التاريخية، إثبات نظريته من كون تاريخ الخلافة الإسلامية تحوّل على يد مجموعة من السياسيين والأكاديميين، على خلاف الحقيقة التاريخية، إلى أسطورة ليست لها أي جذور واقعية.

وفي سبيل تفكيك أسطورة الخلافة، رجع إلى تاريخ الشيخ حسن البنا الذي أسس جماعة “الإخوان المسلمين” عام 1928، وكان ذلك رد فعل وغضبة جيل على إلغاء كمال أتاتورك الخلافة العثمانية الإسلامية في عام 1924.

ويرجع إلى كتاب حسن البنا “مذكرات الدعوة والداعية”، لنجد حسن البنا يتحسر على زوال الدولة العثمانية قائلاً: “لقد قامت تركيا بانقلابها الكامل، وأعلن مصطفى كمال باشا إلغاء الخلافة وفصل الدولة عن الدين في أمة كانت إلى بضع سنوات في عرف الدنيا جميعاً مقرّ أمير المؤمنين”.

ويشرح البنا بالتفصيل موقف “الإخوان المسلمين» من مسألة الخلافة في كتابه المشار إليه قائلاً: “إن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها. والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم…”. ويستطرد قائلاً أنه بعد استرداد الخلافة سيكون المسلمون أساتذة العالم.

هكذا حدد حسن البنا، بكل وضوح، الهدف الاستراتيجي لجماعات الإسلام السياسي، والذي يقتضي اتخاذ خطوات تمهيدية أهمها على الإطلاق الانقلاب على الدول العلمانية، وتحويلها إلى دول إسلامية يطبق فيها شرع الله كما يفهمونه هم. وإذا كانت كتابات حسن البنا عن الخلافة تعدّ أبلغ تعبير سياسي عن التوجهات الأساسية لجماعة “الإخوان المسلمين”، إلا أنه إضافة إلى كتاباته، والتي قد تعدّ تصريحات سياسية، هناك كتابات أكاديمية مهمة نظّرت في موضوع إعادة إحياء الخلافة الإسلامية.

ويرصد الدكتور عفيفي، في هذا المجال، الكتب الأساسية التي ألفها كل من محمد فريد الذي أصدر كتاباً بعنوان “تاريخ الدولة العلية: الجامعة الإسلامية”، قدم فيه تاريخاً مثالياً للخلافة الإسلامية يفتقر إلى الوقائع التاريخية المحققة، وذلك إضافة إلى كتاب بالغ الأهمية للمؤرخ المصري الدكتور عبدالعزيز الشناوي، وعنوانه “الدولة العثمانية: دولة إسلامية مفترى عليها”، وقد خرج الكتاب في ثلاثة أجزاء. وعلى رغم أن الدكتور عفيفي يوجه الى الكتاب انتقادات شديدة على أساس أنه عبارة عن دفاع أيديولوجي عن الخلافة العثمانية، إلا أنه لم يفته أن ينوه مع ذلك بالأهمية العلمية للكتاب لكونه يتضمن تفصيلات تاريخية لا توجد في غيره من المراجع.

ويضع الدكتور عفيفي كتاب الشناوي في سياقه التاريخي، لأنه صدر بعد هزيمة حزيران 1967، ويقرر “هكذا يأتي كتاب الشناوي إعادة قراءة لتاريخ الدولة العثمانية على ضوء التطورات وحركة المدّ الإسلامي التي شهدتها مصر والمنطقة العربية بعد هزيمة حزيران 1967، وأيضاً مع تصاعد حركة الإسلام السياسي”.

ويأتي بعد ذلك للكتاب الثالث والمهم للدكتور محمد ضياء الدين الريس، وعنوانه “الإسلام والخلافة في العصر الحديث: نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم”.

وهو يقصد بذلك الكتاب الذي ألفه العالم الأزهري الشيخ علي عبدالرازق، والذي أنكر فيه أن تكون في الإسلام نصوص واضحة وصريحة عن شكل النظام السياسي في الدولة، وأنكر بذلك فكرة الخلافة. وقد ترتب على نشر الكتاب صراع فكري حاد بين معسكر التقليديين ومعسكر التجديديين، بل إن الأزهر كمؤسسة دينية بادر الى سحب شهادة العالمية من الشيخ علي عبدالرازق لما رأى أنه ينكر أحد الثوابت الإسلامية.

وجدير بالذكر أن كتاب ضياء الدين الريس، وكان من أساتذة التاريخ الرواد الذين مارسوا التدريس في كلية دار العلوم، أصبح من المراجع الموثوقة في مسألة الخلافة لدى تيار الإسلام السياسي.

وسرعان ما انتقلت فكرة إحياء الخلافة من الكتب الأكاديمية لتبرز في كتابات زعماء الجماعات الإسلامية الإرهابية، وفي مقدمهم محمد عبدالسلام فرج في كتابه المهم الذي كان أساس تكوين عديد من الكوادر الإرهابية، وهو “الجهاد: الفريضة الغائبة”. وهو يعد المنظّر الرئيسي لعقيدة الجهاد، ولذلك يعتبره الدكتور عفيفي “مانيفستو” الجماعات الإسلامية لأنه انتشر انتشاراً واسعاً بين أيدي طلاب الجماعات. ويضيف أنه “من المعلوم أن فرج كان أيضاً أحد مهندسي عملية اغتيال السادات في تشرين الأول 1981 وتم إعدامه بعد ذلك”.

في ضوء هذا السرد التاريخي الموثق لتاريخ أسطورة الخلافة الإسلامية، وكيف روج لها سياسيون في مقدمهم الشيخ حسن البنا، وأكاديميون ممن ذكرنا مؤلفاتهم، ليس مثيراً للدهشة في الواقع أن يؤكد المرشد العام لجماعة “الإخوان المسلمين” الدكتور محمد بديع، بعد ثورة 25 كانون الثاني في مصر وبعد حصول حزب “الحرية والعدالة” الإخواني مع حزب “النور” السلفي على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى، أن حلم الشيخ حسن البنا في استرداد الخلافة الإسلامية يبدو أنه قارب على التحقق، وهي الخطوة التي ستجعلنا من جديد “أساتذة العالم”.

أصدر المرشد العام للجماعة هذا التصريح الساذج متجاهلاً واقع النظامين الدولي والإقليمي، بل ومتجاهلاً مدى قدرة جماعة “الإخوان المسلمين” على تنفيذ مشروعها في مجال «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع”.

وجاء الانقلاب الشعبي في 30 حزيران، والذي أيدته القوات المسلحة المصرية، لكي يبدد أسطورة الخلافة، ويبدأ في مصر نظام سياسي وطني جديد يحافظ على الثوابت الوطنية ويحمي الهوية الأصيلة للشعب المصري.

المصدر:
الحياة

خبر عاجل