!-- Catfish -->

القصة الكاملة لاختفاء إميل البستاني.. رحلة قصيرة في الطائرة لم تتجاوز 27 دقيقة (1)

كتب نجم الهاشم في “المسيرة”:

الجزء الأول

في الساعة الثامنة والدقيقة العشرين والثانية 23 من صباح 15 آذار 1963 اختفى نائب الشوف ورجل الأعمال إميل البستاني عندما سقطت طائرته الخاصة في البحر قبالة ميناء بيروت. كان معه في تلك الطائرة التي كانت تقله من بيروت الى دمشق نمر طوقان ومروان خرطبيل وقائد الطائرة الطيار البريطاني جون ألكسندر أوغيلفي. وفيما ظهرت جثتا طوقان والطيار بقيت جثتا البستاني وخرطبيل في أعماق البحر.

شكل اختفاء إميل البستاني في ذلك الصباح لغزاً كبيراً وحيكت حوله أخبار وحكايات كثيرة وصلت الى حد اعتباره مؤامرة أو حادثاً غير عادي نظراً للدور الكبير الذي كان يلعبه الرجل في الحياة السياسية والاقتصادية على مستوى لبنان والمنطقة. ففي تلك المرحلة كان رجال الأعمال الذين يخوضون في السياسة قلة. وأكثر من ذلك كان إميل البستاني أحد الرجال الذين تجاوزوا لبنان في أعمالهم الى العالم بعدما أسس شركته “كات” التي كانت تتولى تنفيذ مشاريع الإنشاءات وأنابيب النفط في أكثر من بلد بعد أيام الثورة النفطية. لذلك كان من الجائز الشك في حقيقة اختفائه ولكن التحقيقات التي أجريت في تلك المرحلة لم تذهب في اتجاه المؤامرة.

في 15 آذار 1963 تاريخ اختفائه كانت شركة “كات” التي أسسها في العام 1937 تبني مستشفيين في الكويت وتعمل في إنشاء محطة لتوليد الكهرباء في باكستان وتشييد نحو 1500 منزل للجنود البريطانيين في عدن وتنقب عن النفط في تركيا وإيران والصومال وبلدان الخليج العربي، وتمتلك أسهماً في خط نقل جوي وفي البنك العربي ولديها 21 فرعًا في 17 بلداً من إنكلترا الى باكستان وتستخدم نحو 17 ألف موظفاً.

لقد تمكن إميل البستاني من صناعة هذه الإمبراطورية منطلقاً من الصفر. ولد في بلدة الدبية في إقليم الخروب في 27 حزيران 1907، وتوفي والده وكان لا يزال صغيراً فتولت والدته إعالته مع إخوته الثلاثة. درس في جامعة عاليه الوطنية وتمكن من دخول الجامعة الأميركية في بيروت بعدما حصل على منحة مالية. وبعدما حصل على شهادة ماجستير في العلوم سافر الى رام الله حيث عمل أستاذاً قبل أن ينتقل الى الولايات المتحدة ليتابع الدراسة ويحصل على بكالوريوس في علوم الهندسة المدنية لينتقل بعدها للعمل في شركة نفط العراق.

في العام 1935 بعد مد الأنابيب بين كركوك وحيفا وكركوك وطرابلس أسس في حيفا شركة المقاولة والتجارة “كات” مع شريكه كامل عبد الرحمن. ولكن كامل تخلى عن أسهمه في الشركة لتصبح بكاملها ملكاً لإميل البستاني الذي حمله طموحه الى مشاريع كبرى شملت باكستان والخليج العربي وتركيا وإيران وليبيا وإفريقيا.

قبل أن يبني هذه الإمبراطورية عمل إميل البستاني مدرساً خصوصياً فتعرف الى لوريس سرياني التي ستصبح زوجته في العام 1935 وينجبا إبنتهما الوحيدة ميرنا التي كانت أول نائب ـ إمرأة في مجلس النواب اللبناني بعدما حلّت محل والدها.

انخرط إميل البستاني في العمل السياسي وكان نائباً ووزيراً أكثر من مرة. عندما اختفى في البحر قيل أيضاً إنه كان الإسم الأبرز المرشح لخلافة فؤاد شهاب في رئاسة الجمهورية.

في 15 آذار 1964 أعادت جريدة “الحياة” تسليط الضوء على قصة اختفائه ونشرت القصة الكاملة لكارثة الطائرة. فقد كان رئيس تحرير “الحياة” ومؤسسها ومالكها كامل مروة أحد أصدقاء إميل البستاني وقريباً من عائلته.

وفي ما يلي رواية “الحياة” التي جاءت تحت عنوان: “الحياة” تكشف أول مرة القصة الكاملة لكارثة الطائرة التي أودت بحياة إميل البستاني ورفاقه الثلاثة مع الطائرة حتى الثانية 23 قبل الكارثة بعد رحلة قصيرة استمرت 27 دقيقة فقط.

كان إميل مستعجلاً في ذلك الصباح أكثر من عادته.

كان على ميعاد مع القضاء المحتوم. ومن ذا يخلف الميعاد معه؟

قبل ذلك بساعات، كان إميل يقضي السهرة في جناح صغير ببيته في “اليرزة” مع زوجته لورا وكريمته ميرنا وقرينها فؤاد الخازن. وكان معهم الدكتور نمر طوقان والدكتور جورج شماس وايلي بستاني وزوجته.

وتولى الدكتور شماس عرض الافلام التي التقطها عن نشاط إميل وشركة “كات” في افريقيا، وكان إميل يعلق على كل مشهد، ويسترسل في وصف نشاط اللبنانيين، هناك، فيقول له نمر:

  • راح تحمل لبنان كله الى إفريقيا يا إميل!

وعند منتصف الليل، نهض الزوار، فقال نمر لإميل:

ـ  موعدنا في المطار إذن!

فأجاب إميل: الساعة السابعة والنصف تماماً!

وما ان بلغ نمر الباب، حتى التفت الى إميل وقال له:

ـ غدا منتصف آذار؟

فقال إميل: شو يعني؟

فهزّ نمر إصبعه وقال بصوت جهوري أجش:

ـ إحذر منتصف آذار!

فضحكا كلاهما، وافترقا على اللقاء بعد ساعات

ـ “إحذر منتصف آذار”!

هكذا قالت العرافة ليوليوس قيصر في مسرحية “شكسبير” ولكن يوليوس قيصر لم يكترث للنبوءة، فقتله الشيوخ في 15 آذار من العام 44.

ومنتصف آذار هذا، كان ينتظر في العام 1963 إميل البستاني ونمر طوقان ومروان خرطبيل..

وعاد إميل وزوجته من الجناح الى البيت، وجلس إميل أمام مكتبه يراجع ملف الأوراق في القضية التي سيسافر من أجلها الى عمان. وكانت الساعة قد تجاوزت نصف الليل، فنادته لورا بحدة:

ـ إنت تعبان يا إميل، روح نام، بيكفي!

فصاح بها إميل:

ـ لا تعيطي عليي، إنت بتعرفي إني ما بجي بالعياط!

فقالت: أنا لا أعيّط عليك، وإنما أطلب ان تشفق على نفسك. إنني أعرف نشاطك، وأعرف ما تستطيع ان تفعل بدون الحاجة الى هذه الإفلام التي رأيناها الليلة. ولكن ما يفيدك ويفيدني هذا كله إذا أصابك شيء؟ الناس تهتم يوماً او يومين وبعد ذلك ماذا يبقى لنا؟

فعبس إميل، وأكب على الملف من دون جواب، وصعدت لورا الى غرفة النوم.

في الطريق الى مطار بيروت

نحن الآن في صباح 15 أذار 1963.

بكر إميل في النهوض وكان في غرفة الطعام عند الساعة السابعة والربع، فوجد “الترويقة” في انتظاره. وهي مؤلفة من فواكه مسلوقة ولبن، ولكنه اكتفى ببعض ملاعق، وقال: تأخرنا! تأخرنا!

ثم اندفع صوب الباب كان الطقس يبدو على البحر صاحياً، رغم البرد، فقالت له لورا:

ـ هل تذهب بلا شيء على رأسك؟

فقال: لماذا؟ لا لزوم!

فقالت: ولكنك قد تبرد في الطائرة!

فقال: شو باخد معي؟

فاجابته: خذ ” قلبق”!

وكان إميل قد جلب من رحلته الأخيرة الى باكستان عدداً من قبعات الفرو، أهداها الى أصدقائه واحتفظ لنفسه بواحدة منها، فتناولها عن الرف ووضعها الى رأسه، وتطلع بزوجته قائلا: كيف أبدو؟

فأجابته: عال! عال!

وعلى هذه الكلمة خرج إميل من البيت معتمراً القبعة وفي يده الملف.

وتشاء سخرية القدر ان تختفي مع إميل جميع آثاره فلا يلفظ البحر منها الا القلبق والملف وقد شوهدا طافيين على سطح البحر، فالتقطهما الباحثون وأرسلوهما الى التحقيق وما يزالان لديه.

(يتبع)

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل