كنا هناك ــ  إيلي غانم: الحرب كانت قاسية جدّاً… من عمر 11 سنة صارت الثكنة بيتي ومدرستي

حجم الخط

كتبت كريستين الصليبي في “المسيرة” – العدد 1516

ولد الـBambino (لقبه في الحرب) عام 1964 في منطقة الخيام في الجنوب، لكن ككثيرين مثله دفعتهم الحرب إلى ترك منازلهم وأرضهم والنزوح إلى العاصمة بيروت. إيلي غانم مقاوم منذ عمر المراهقة، حملته القضية إلى أرض المعركة فبدأ مسيرته العسكرية منذ أن كان عمره 11 عاماً فقط. استشهاد الرفاق لم يمنعه يوماً من مواصلة النضال واعتقاله كان وسام شرف يعلّقه على صدره. انتهت الحرب وبقيت الروايات.

يخبر إيلي: “تهجّرت عائلتي من الخيام إثر سقوط جانح طائرة في منزلنا، فباع والدي  المنزل وتركنا المنطقة لننتقل إلى عين الرمانة عرين المقاومة اللبنانية. ترعرعت هناك في منزلنا الذي يقع في شارع الهدى وهو يبعد عن خطوط التماس وطريق صيدا القديمة ومحمصة صنين مسافة لا تقل عن 100 متر.  بقي والدي منذ العام 1975 وحتى العام 1977 في منطقة الخيام بسبب قطع الطرقات والحواجز والقتل على الهوية، لم نره طيلة عامين ونادراً ما هاتفناه بسبب انقطاع الاتصالات”.

ويضيف: “أقام حزب “الكتائب” مركز الهدى في الحيّ وتسلّم الرفيق طوني حرب منصب المسؤول عنه، كان مركزنا الوحيد الذي يضمّ عدداً كبيراً من المقاتلين في تلك الفترة. كانت البيئة حاضنة وتسلّح الفلسطينيين استفزنا كثيراً، فكان الحلّ الوحيد أمامنا هو حمل السلاح والتوجّه إلى ساحات المعارك للدفاع عن الوطن والوجود المسيحي”.

على رغم صغر سنه انضمّ إيلي إلى الثكنة منذ العام 1975، “كانت مقاومتي آنذاك من نوع آخر، فالمقاومة لا تقتصر على حمل السلاح وإطلاق الرصاص. وكوني كنت لا أزال في الـ11 من عمري اقتصرت مهامي على تحضير السندويشات للشباب ونقل الذخيرة وتنظيف الأسلحة، والخدمة على المتاريس كما حراسة الثكنة في بعض الأحيان”.

ويقول إيلي “لم يعارض أهلي أبداً انضمامي الى المقاتلين. فوالدي كان متحمّساً جدّاً للدفاع عن الأرض وخالي الذي يكبرني بثلاث سنوات كان سبقني إلى صفوف المقاتلين ما دفعني للانخراط في المقاومة اللبنانية”.

ويضيف: “آخر مرّة ذهبت فيها إلى المدرسة كنت في صفّ الثالث متوسط لأنّه كان من الصعب التنقّل بسبب القصف والحواجز، تركت ثانوية فرن الشباك وانتقلت نهائياً إلى مدرسة المقاومة اللبنانية، بالإضافة إلى أنني لم أكن في جوّ الدراسة، إذ كنت دائماً أفكّر في الرفاق والمعارك والقضية أثناء الحصص ولم يعد وارداً أن أركز على الدراسة. حتى أنني تركت منزلي وانتقلت إلى الثكنة التي كانت تبعد عن منزلنا 25 متراً، فكنت أنام وآكل وأعيش في المركز”.

عن أوّل سلاح حمله إيلي يقول: “عندما بدأ الشباب تأمين الأسلحة سلموني بارودة “فال” مجهزة لإطلاق الإينرغا energa وفي كلّ مرّة نفتقر فيها للذخائر كنت أقصد تاجر أسلحة في منطقة الصنوبرة لأشتري الذخيرة، وأحياناً كنت أشتري أسلحة لم يكن المركز يؤمنها لنا. عملت في بيع الصحف ما بين مناطق الشياح وفرن الشباك وعين الرمانة لتسديد سعر الأسلحة والذخائر وتأمين مصروف أهلي وأشقائي”.

بسبب صغر سنّهم كانت القيادة ترسل إيلي ورفاقه للخدمة في النهار. يخبر إيلي عن إحدى الحوادث الأليمة التي حصلت معه: “في العام 1977 عندما كنت أقف على أحد متاريس عين الرمانة برفقة بسّام الككّ وشارل مغامس ورفاق آخرين، كان يوجد في الجهة المقابلة متراس للفلسطينيين في مبنى “سينما دنيا”، كنا مراهقين لا نتعدّى الـ14 من عمرنا. أصاب قنّاص فلسطيني الرفيق بسّام في جبينه فاستشهد فوراً، كان بسّام أوّل شهيد يسقط أمامي، كنت أبعد عنه 10 سنتيمرات فقط، كان ممكناً أن أكون أنا من سيموت. حزنت كثيراً لكن ذلك لم يمنعني من إكمال مسيرتي العسكرية لا بل على العكس هذا كان سببًا إضافيًا لحمل السلاح وردّ الفلسطينيين عن أهلنا وأرضنا. كان الخوف من ردّ فعل الأهل الذين كان من الممكن أن يمنعونا من العودة إلى الثكنة، أذكر أن دماءه تناثرت على وجهي وقميصي. ذهبت إلى المنزل تحمّمت وبدّلت ملابسي وعدت إلى المتراس نفسه من دون خوف أو تردّد”.

هذه الحادثة تكرّرت مع إيلي: “في العام 1978 وقبل اندلاع حرب الـ100 يوم كنا نخدم على متراس “بناية السوّاس” فاستشهد الرفيق وديع مغامس، شقيق شارل، قنصاً أيضاً برصاص الفلسطينيين بعد أن أصابت الرصاصة رأسه. كان المشهد مؤلمًا جدّاً، فأسفت لخسارة هؤلاء الرفاق وأنا لا زلت لليوم أذكرهم”.

عن سبب اختيار لقبه يشرح إيلي: “لقبّني الشباب بـBambino تيّمناً ببطل فيلم Bambino الإيطالي الذي تدور أحداثه حول قصّة مقاتل صغير السنّ، فاختار الشباب هذا اللقب نسبة لصغر سنّي. حزنت في البداية لأنّ الإسم لم يكن يدلّ على نضوجي ورجوليتي لكنني مع الوقت تأقلمت معه وأحببته، وحتى اليوم لا يزال الرفاق ينادونني بلقبي Bambino.

في صيف العامين 1979 و1980 أرسلت قيادة الحزب كلّ عناصر ثكنة الهدى إلى طبرية للتدرّب على استعمال السلاح وفنون القتال، ويروي إيلي: “كانوا يخضعوننا لتمارين قاسية جدّاً فيطمروننا في حفر بهدف تدريبنا على الصمود خلال المعارك وتحمّل الصعوبات التي سنمرّ بها ولكي تقسو أجسادنا، بالإضافة إلى التمارين الرياضية واللياقة البدنية”.

أوّل مرّة حمل فيها إيلي السلاح وجهاً لوجه مع المعتدين كانت في معركة كليّة العلوم في الحدث التي وقعت في حزيران العام 1982. “كنت وقتها قد انتقلت إلى ثكنة كسارجيان ضمن فرقة المشاة، أراد الإسرائيليون تدمير الكلية لأن السوريين والفلسطينيين قد احتلوها وأحكموا السيطرة على أبنيتها. رفض الشيخ بشير الجميّل حينها تدمير الجامعة فطلب من مقاتلي “القوّات” تطهير المبنى بأقلّ خسائر مادية وبشرية ممكنة. قام الشباب باستطلاع من ثكنة كفرشيما لمعرفة كيفية الدخول إلى الجامعة واستردادها، وباتوا ليلاً في الآليات العسكرية وعند الصباح بدأ الهجوم، لكن قبل بدء الهجوم تعرّضت ثكنة كسارجيان للقصف وذلك بهدف إخافتنا وردعنا. كان عديدنا نحو 1200 عسكري فقمنا بهذا الهجوم وتوزعنا ما بين مدفعية ومساندة ولوجيستية وسرايا مقاتلة بالإضافة إلى الإسعاف. وصلنا في الصباح الباكر إلى مبنى الريجي في منطقة الحدث حيث كان ينتظرنا أحد المسؤولين الذي شرح لنا كيفية الدخول إلى حرم الكلية. عند بدء الهجوم فُتِحَت نيران مرابض المدفعية كلها لمساندتنا، انطلقنا تحت غطائها، وباغتنا الفلسطينيين والسوريين الذين لم يتوقعوا هجوماً عليهم. احتلينا الجامعة واستمرت العملية ساعات قليلة لكننا خسرنا فيها ثلاثة شهداء. عند انتهاء المعركة وبعد تطهير الكلية طلبت القيادة إبقاء فصيلة حرس على الجامعة؛ وفي اليوم التالي استشهد الرفيق مروان جمعة، وهو شيعي، برصاص قنّاص من حركة أمل”.

بعد معركة كليّة العلوم كانت المواجهة في حرب الجبل، ويستذكر إيلي: “أرسلتنا القيادة إلى جبهات الجبل فتنقلّنا بين بيت الدين وبحمدون، بقيت في بيت الدين مدّة سبعة أشهر متواصلة لأنّ النزول الى بيروت كان محفوفاً بالمخاطر. فكانت أمي تأتي لزيارتي وتؤمّن لي حاجياتي. في 6 أيلول 1982 وقعت معركة بحمدون، قصف السوريون المنطقة بالراجمات وكانوا قد توغّلوا في داخلها، وفي كلّ مرّة تقع فيها رشقة صواريخ كانت القيادة تكلّمنا على اللاسلكي للإطمئنان إلينا والتأكد من أننا لم نصب بأذى. في مكان ما خلال حرب الجبل كنا نحارب الفلسطينيين والسوريين على مسافة 35 متراً فقط من دون وجود متاريس. حرب الجبل كانت قاسية جدّاً الى درجة أنّ الموت اقترب منّا عدّة مرّات وكاد أن يخطفنا. مرّت علينا أيّام شعرنا فيها بالجوع وما من أحد استطاع الوصول إلينا لمدّنا بالمواد الغذائية. أذكر أنّه في معركة سوق الغرب استشهد الرفيق داني حرب، من فرقة المشاة، بعد سقوط قذيفة عليه فطار أشلاءً، كما استشهد الرفيق إيلي سمارة الذي خرقت صدره إحدى رصاصات الجيش السوري”.

انتقل شباب ثكنة كسارجيان بعدها إلى العاقورة “حيث بقينا شهراً وكانت مهمتنا رصد تحرّكات الجيش السوري، لم تقع وقتها أية معركة، كانت تلك الفترة بالنسبة لي بمثابة نقاهة بعد الذي عشناه في حرب الجبل”.

تنقّل إيلي بين عدّة جبهات فرسم خطّ المقاومة من عين الرمانة إلى كفرشيما فكليّة العلوم والأسواق التجارية وحرب الجبل.

لم تنتهِ مقاومة إيلي مع إنتهاء الحرب لا بل استمرّت إلى ما بعدها، استمرّت معه حتى داخل جدران السجون التي تنقّل فيها؛ يخبر إيلي  “في العام 1990 وأنا أسير على الطريق ناداني أحدهم بلقبي Bambino عندما استدرت لأردّ عليه أوقفني رجل ثمّ اعتقلني الجيش اللبناني؛ اقتادوني بداية إلى وزارة الأشغال ثمّ انتقلت إلى وزارة الدفاع وبعدها إلى سجن كفرشيما، بقيت في السجن 128 يوماً وفي كلّ مرّة كانوا يحققون معي كنت آكل نصيبي من الضرب والتعذيب”.

بعد اعتقال الدكتور سمير جعجع أبى إيلي غانم أن يترك المقاومة وعلى الرغم من توقيعه على ورقة تعهّد بعدم تعاطي السياسة أو ذكر إسم “القوّات اللبنانية”، بقي على تواصل مع الرفاق وكان يشارك سرّاً في كل النشاطات من تظاهرات وقداديس سنوية.

* لأن القضية على مساحة الـ10452، تنقّل أبناؤها من جبهة الى أخرى مرة لصد عدوان ومرّة لتأخير إنهيار ومرة لتسجيل بطولات وطرد غزاة. فكان الرفاق يزرعون البطولة والعنفوان في كل شبر تطأه أقدامهم، وإمتزج عرق المناضلين ودماء الشهداء من الشمال الى الجنوب والجبل والبقاع وبيروت. وكتحية وفاء لهم، ينشر موقع “القوات اللبنانية” الالكتروني بالتعاون مع مجلة “المسيرة” ما عرضته في خانة “كنا هناك” من حكايات رفاق ستبقى خالدة في وجدان القضية.

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل