كنا هناك ــ يوسف شديد: حرب الجبل كانت الأقسى

حجم الخط

كتبت كريستين الصليبي في “المسيرة” – العدد 1520

تهجّر يوسف شديد عام 1977 من مسقط رأسه حارة حريك بسبب الضغوط التي كان يمارسها الفلسطينيون على أهالي المنطقة إذ إنّهم كانوا يدخلون إلى المنازل لتفتيشها وخطف الشباب. انتقل يوسف مع والدته وشقيقه إلى القليعة في الجنوب حيث بقوا 4 سنين، لكن قضية الدفاع عن الوجود والواجب أعادتهم إلى بيروت فانتسب يوسف إلى حزب “الكتائب” فيما شقيقه اختار حزب “الوطنينن الأحرار”. مرّ يوسف على العديد من الجبهات لكن بالنسبة إليه أقسى المعارك التي شهدها المقاومون كانت تلك التي وقعت خلال حرب الجبل، هناك تعلّم المقاتلون المعنى الحقيقي لقساوة الحياة وصعوبة العيش، هناك نفذت ذخائرهم وما توفر لديهم من طعام وشراب، حاربوا الجوع والتعب كما حاربوا “العدو”، ربحوا المعركة ضدّ الاستسلام قبل أن يربحوها ضدّه.

عن اختياره لحزب “الكتائب” يخبر يوسف: “عندما كنت صغيراً أذكر أنّه كانت تقع مقابل منزلنا أرض يأتي إليها شباب “الكتائب” يومياً للتدرّب، كنت أندهش لدى رؤيتهم وأعجبتني الفكرة فأحببت أن أكون واحداً منهم؛ هذا ما دفعني لاختيار حزب “الكتائب” عند عودتنا إلى بيروت”.

عن أوّل مرّة حمل فيها السلاح في معركة يتذكّر يوسف “لم أكن بعد مدرّباً على استعمال الأسلحة، لكنني لم أخف أبداً، لم أفكر حتى في الخوف، أطلقت الرصاصة الأولى من دون تردّد. ما شجّعني حينها كان إيماني بقضية الدفاع عن الأرض وعن الوجود المسيحي. كان لدينا خياران: إما الموت والاستسلام وإما الدفاع عن حقنا بالعيش بكرامة على أرضنا، لذا لم يكن لدينا الوقت للتفكير بالخوف”.

ويضيف: “لم تمانع والدتي انخراطنا في صفوف المقاتلين، على الرغم من أننا، شقيقي وأنا، كنا كل ما تبقى لها بعد موت والدي. كانت على يقين أنّه من الممكن أن تخسر ولديها الاثنين خلال إحدى المعرك لكنها كانت أيضاً تعلم مدى أهمية القضية وهي كانت مثلنا مؤمنة بها”.

مع دخوله حزب “الكتائب” بدأت مسيرة يوسف العسكرية بتعرّضه لمحاولة خطف على يد السوريين. يقول: “هذه الحادثة حصلت عام 1980، كنت أجلس وخطيبتي في السيارة بعد أن ركنتها في شارع الزحيمة في الحازمية، وإذ بسوريين يتسللان من المنصورية؛ شهر أحدهما سلاحه في وجهي وسألني “شو عم تعمل هون ولا”؟ أجبته “أنا مع خطيبتي”، أخرجني من السيارة بقوّة وجلس مكاني وراح يستجوب صديقتي، علمت من أسئلتهما أنّهما يريدان خطفنا بهدف الحصول على فدية مالية، فقلت له: “شو رأيكن شباب تروحو معي بالسيارة لحد بيتي وبجبلكن مصاري من الشقة” ولكثرة غبائهما صدّقا، أما أنا فكنت ادبّر لهما فخّاً. صعدنا بالسيارة كلّنا، قادها المسلّح ودللتهما على طريق منزل الرئيس الياس سركيس، ولسذاجتهما صدقا أنّها طريق منزلي. ركنا السيارة بعيداً 100 متر عن المبنى، ترجّلت منها وتوجّهت نحو حاجز الجيش المنصوب أمام منزل الرئيس، أخبرت العسكري أن سوريين يريدان خطفي وصديقتي وأنّه عليه مساعدتنا وحجز السوريين. لم يستوعب العسكري ما عليه فعله فصوّب سلاحه نحو السيارة وهو يطلق النار عليهم رفعت السلاح بيدي صارخاً “شو عم تعمل، البنت معهم بالسيارة”، عندها فهم السوريان ما يحصل فهربا بالسيارة وصديقتي معهما. علمت بعدها انّهما حين وصلا قرب أحد متاجر الحلوى في الحازمية فتحت صديقتي باب السيارة ورمت بنفسها على الطريق وهربت نحو الباتيسري حيث اتصلت ببيت “الكتائب” لطلب المساعدة. أخذ الشباب الأسلحة وتوجّهوا من المركز في الحدث إلى الحازمية لكن السوريين كانا قد هربا بالسيارة. في اليوم التالي اتصل بي “جاك كرم” صاحب محطة وقود بعدما رأى السيارة مركونة إلى جانب المحطة، بحث بداخلها فوجد أرقام هواتف. سلّمها جاك بداية إلى الجيش، وعندما ذهبت لاستلامها دخلت مكتب ضابط سوري وأخبرته بما حصل معي بناءً على طلب الضابط اللبناني الذي كنت برفقته، سألني السوري “كيف علمت انّهما سوريان”؟ فأجبته “ولو من لهجتهما”، ردّ عليّ “هودي من زعران عين الرمانة”. للأسف أن الكثير من الجرائم كان يقوم بها السوريون وكانوا يلبسوها لشبابنا بهدف تشويه صورتنا”.

في ذاكرة يوسف العديد من مشاهد الحرب وذكريات المعارك لكن أقواها تبقى عن معركة عين الحور في حرب الجبل. وعنها يخبر: “كنت أحد عناصر القوّات الخاصّة التابعة للمجلس الحربي، طلبت منا قيادة “القوات” أن نتوجّه كمجموعة إلى عين الحور للمشاركة في المعركة. لم تكن الطرقات مفتوحة أمامنا مما أجبرنا على التنقّل ببواخر شحن، عند وصولنا على مقربة من شاطئ الدامور تعرضنا للقصف بالهواوين، لم تستطع الباخرة التقدّم فطلبوا منا أن ننزل منها حالاً في بذلاتنا العسكرية وسلاحنا وعتادنا، وهذا فعلاً ما حصل. مشينا في المياه حاملين أغراضنا حتى وصلنا إلى الشاطئ، لم نكن بعيدين كثيراً لكن حمل الأغراض والسلاح لم يكن بالسهل أبداً. مشينا من الشاطئ ودخلنا بين شجر الموز، كنا 13 شاباً، طلبوا مني أن أترأس المجموعة فرفضت لصعوبة الوضع هناك، هذه كانت مسؤولية كبيرة جدّاً. تسلم الرفيق غسان دكّاش قيادة المجموعة، أكملنا طريقنا سيراً على الأقدام حتى وصلنا إلى بيت “الكتائب” في الدامور، لم نكن نتوقّع مدى حجم التهجير الذي حصل في المناطق هناك. رأينا المباني المهدّمة والمهجورة والمصابة بقذائف، ما من أحد هناك. مناطق شبه خالية من الناس، قليلون هم من بقوا في منازلهم وأرضهم. أمّن الشباب في بيت الكتائب نقلنا إلى ثكنة المشرف حيث التقينا عدداً من المسؤولين في “القوات”، فأرسلونا لاستلام جبهة البرجين التي تقع في آخر الدبية، طلبنا منهم تزويدنا بالذخائر لأنه لم يكن معنا ما يكفي من الأسلحة والذخائر، فنحن عندما تركنا مركزنا في بيروت جُلّ ما أخذناه معنا أسلحتنا الفردية. أعطونا صندوق قنابل لأن الثكنة كانت تفتقر أيضاً للذخائر ووعدونا بإرسال ذخيرة في ما بعد”.

عند وصولهم اتّخذوا مدرسة البرجين مركزاً لهم. يقول يوسف: “المدرسة تقع على الجبهة لبلدة برجا، كانت تحصل ليلاً مناوشات عادية. طلبت منا القيادة أن نأخذ مجموعة صغيرة إلى الدبّية – مفرق سرجبال، فأخذ غسان شابين وتوجّها إلى أحد المنازل هناك حيث تمركزوا للمراقبة ومعرفة إن كان سيدخل العدو علينا من النهر بالأخصّ أنّ المسلحين كانوا يأتون بسياراتهم إلى ذلك المفرق ويطلقون صاروخاً في اتجاهنا. كان معنا فقط جهازان للتواصل في ما بيننا، في إحدى الليالي شنّ المسلحون هجوماً علينا من ناحية برجا، أرادوا احتلال المدرسة وأخذها منّا، اتصلنا بمجموعة غسان وطلبنا منهم مدّنا بالذخائر بسبب افتقارنا لها، اقترب العدو منا وبدأوا يقصفوننا من الجلّ الذي يقع تحت المدرسة. تحدّث غسان إلى ثكنة المشرف وطلب الدعم لأنّ الهجوم بدأ يتسع فطلبوا بدورهم من غسان التوجّه إلى منطقة ضهر المغارة لأخذ إحدى الدبابات الموجودة هناك كمساندة لنا. وصل غسان إلى المدرسة مع الدبابة، عند وصولهم إلى ساحة البرجين كنا قد تراجعنا لأنّ المسلحين دخلوا علينا. أوقف الشباب الدبابة للاستطلاع ومعرفة من أي ناحية يأتي الرصاص فضربوهم بمضادّ عيار 23 خرق قسطون الدبابة وفتحه من ناحية لأخرى ما أجبرنا على التراجع لأنّ الدبابة ما عادت تنفع، أما أنا فأُصبت في يدي. دخلوا علينا بين شجر الزيتون باللباس الزيتي وذلك بهدف تضليلنا فأصبحت المواجهة وجهاً لوجه على الأرض، لكن بسبب قلّة الذخائر سلّمنا المنطقة إلى وحدات الدفاع التي أرسلتها القيادة”.

بقيت تلك المجموعة في منطقة البرجين ـ عين الحور 15 يوماً فكان أهالي المنطقة، ممن بقوا هناك، يقدّمون للشباب أحياناً الفطور المؤلّف من التين والبيض والأجبان والألبان البلدية إن وجدت. لم تخلُ تلك الأيام من الذكريات الجميلة والمضحكة فيسرد يوسف لنا إحداها قائلاً:  “في أحد الأيام شعرنا بالجوع ولم يكن لدينا الطعام، رأى الشباب خروفاً مربوطاً أمام أحد منازل، توجّهنا إلى هناك وفككنا الرباط وأخذناه إلى لحّام القرية طالبين منه ذبحه لنا. بعد قليل وصلت ابنة اللحّام وهي تصرخ “أحدهم سرق الخروف من أمام المنزل” فاجابها “ذبحناه لهم، هذا الخروف لنا إذاً”. لكن بعد ذلك قدّمه لنا ولم يقبل استرجاعه… كانت تلك الأيام أجمل من التي نعيشها اليوم، كانت تسودها الألفة والمحبّة”.

يتابع يوسف: “أكملت تحصيلي المدرسي وحصلت على شهادة الثانوية ثم تسجّلت في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، لكنني لم أدرس سوى سنة واحدة لأنني بعدها تفرّغت للعمل العسكري”.

لم يندم يوسف يوماً على مشاركته في الحرب على الرغم من أنّها حالت دون إكماله دراسته الجامعية، وهو يؤكّد “إن شعرنا بالخطر فسأحمل السلاح مرّة اخرى وأدافع عن أرضنا”.

* لأن القضية على مساحة الـ10452، تنقّل أبناؤها من جبهة الى أخرى مرة لصد عدوان ومرّة لتأخير إنهيار ومرة لتسجيل بطولات وطرد غزاة. فكان الرفاق يزرعون البطولة والعنفوان في كل شبر تطأه أقدامهم، وإمتزج عرق المناضلين ودماء الشهداء من الشمال الى الجنوب والجبل والبقاع وبيروت. وكتحية وفاء لهم، ينشر موقع “القوات اللبنانية” الالكتروني بالتعاون مع مجلة “المسيرة” ما عرضته في خانة “كنا هناك” من حكايات رفاق ستبقى خالدة في وجدان القضية.

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل