راهب. فيلسوف. مفكّر. اكاديمي. “صومعته” الهادئة في الجامعة تضج بالفكر الفلسفي واللاهوتي. روحانيته تغرف من الكتاب المقدّس ومن كتابات الآباء. وفكره مشبع بفلسفات سقراط وافلاطون و”كانت” وغيرهم. التعليم الجامعي والادارة الجامعية لم يثنياه عن متابعة احداث المنطقة والعالم. يقرأها انطلاقاً من ايمانه المسيحي العميق ونظرته الشاملة للوجود. لا يخاف على الحضور المسيحي في لبنان والشرق. اذ لا “مساكنة بين الايمان والخوف”. مؤمن بـ “رسولية” الكيان اللبناني في المنطقة والعالم. ايمانه وفكره يعكسان روحانية الرهبانية اللبنانية المارونية التي التزمت منذ التأسيس الى جانب الحياة الديرية، قضايا الفكر والتعليم والمجتمع. وكانت حاضرة في الشرق ومنفتحة على الغرب. في مكتبه في الجامعة كان هذا الحوار مع الاب البروفسور جورج حبيقه، رئيس جامعة الروح القدس في الكسليك.
كيف وجدت الجامعة بعد انتخابك رئيساً عليها؟
سؤال جميل وبديهي. أنا أَقدَمُ مسؤول في الجامعة. الجامعة التي توليت رئاستها منذ أشهر غير تلك التي درست فيها. أعني بذلك النقلة النوعية التي حصلت مع سلفي الأب البروفسور هادي محفوظ الذي كان رئيساً للجامعة على مدى تسع سنوات متواصلة. نقلة نوعية على صعيد الإدارة الداخلية والبرامج والحوكمة. تجدر الإشارة هنا إلى أن الجامعة انتقلت إلى نظام الأرصدة الأمريكي في العام 1999. واليوم أصبحت الهيكلية الجامعية كلياً أميركية. أثبت النظام الأميركي الجامعي، كما في عدة حقول معرفية وبحثية، تفوقه على مختلف الأنظمة في العالم. حاول الأوروبيون الالتحاق بنظام الأرصدة الأميركي، فاعتمدوا نظام ECTS European Credit Transfer and Accumulation System .
الجامعة هي أقرب الى نظام الأرصدة الأوروبي أو إلى النظام الأميركي؟
نظامنا هو نظام أميركي. ولا علاقة للغة بذلك. وانا أوّل رئيس للجامعة يُنتخب بحسب قوانين الجامعة الجديدة والمبنية على الأسس الأميركية.
ما هي الصعوبات التي واجهتكم وتواجهكم على مستوى الانتقال إلى نظام الأرصدة الأميركي بخاصة على المستوى البشري، الإداري والتعليمي؟
إن عملية الانتقال كانت متدرجة ومحكمة المفاصل. فلم يكن هناك من تعثر أو تشنج. درسنا عملية الانتقال بمنهجية سلسة وصارمة. والأمر الذي دفعنا إلى إنجاز هذه المهمة بسرعة قياسية إنما هو قناعتنا الذاتية بأن ما نقوم به هو استقراء جريء للآتي من الأيام ولمستقبل التعليم العالي في العالم. والجدير ذكره هنا هو أننا إلى كوننا فرنكوفونيين وسندا أساسيا للفرنكوفونية في الشرق، نحن أيضا أنغلوفونيون. على هذا المستوى جامعتنا تشبه الجامعات الكندية التي تعتمد اللغتين الفرنسية والإنكليزية. أضف إليهما اللغة العربية التي نتقنها أيضا بشكل بارع. هذا ما يضفي على جامعة الروح القدس في الكسليك حلة خاصة تقوم على ثلاثية لغوية، تؤمن للبنان التواصل الحيوي مع المنطقة العربية والقارة الأوروبية والعالم.
وهل تأقلم أفراد الهيئة التعليمية مع النظام الجديد؟
نعم، إلى حد بعيد. في النظام الأميركي، لا يتعاطى رئيس الجامعة مباشرة مع العمداء والاداريين، إنما عبر مسؤولين. هناك الـ Provost، والتي تعني باللاتينية “الذي هو في المقدّمة”، هو أشبه بعميد العمداء. يتعاطى في الشؤون الاكاديمية والتدريس وتحديث البرامج والاطّلاع الدائم عليها وتقويمها بشكل متواصل وقياس مدى تلاؤمها مع حاجات المجتمع. وهناك أيضاً نائب الرئيس للحياة الجامعية. وهو المشرف على جميع مكاتب الجامعة الإدارية. وانا كرئيس للجامعة أجتمع مع هذين الاثنين. يرفعان إليّ التقارير وأعطيهما التوجيهات. هذا لا يعني البتة أن ليس هناك من تواصل بيني وبين العمداء ومسؤولي المكاتب. ولكن، أنا كرئيس، من مهامي الأساسية تمثيل الجامعة فكرياً وثقافياً وبشكل أخص في المنتديات العالمية. ومن أهم واجباتي أيضاً تطوير الجامعة على جميع الأصعدة وتأمين الدعم المالي لرسالتها.
لم تتأثر علاقة الجامعة مع العالم الفرانكوفوني.
أبداً. نحن لا زلنا فرانكوفونيين. ولكن أضفنا إلى الفرنسية اللغة الإنكليزية.
ولكن غالبية الطلاب يفضّلون اليوم اللغة الإنكليزية.
ليس بالضرورة. لا زالت الأكثرية الساحقة من طلابنا في جبل لبنان فرانكوفونية. وهناك قسم منهم يدرس في اللغة الإنكليزية. والسبب أن عددا لا يستهان به من المدارس اللبنانية لا تزال فرانكوفونية على الرغم من تعليم اللغة الإنكليزية أو خلق فرع إنكليزي فيها. بيد أن هذا الواقع شرع يتغير رويدا رويدا والعديد من المدارس الرسمية عبَّرت عن رغبتها بالانتقال إلى اللغة الإنكليزية.
اللغة الفرنسية لا تزال لها قيمتها العلمية ويجب الحفاظ عليها.
بطبيعة الحال. التيار الفكري الذي أناضل أنا من أجله يقوم على التنوّع، وخاصة التنوّع الفكري والثقافي واللغوي. كما يقال في لبنان كل لغة بإنسان. اللغة ليست فقط كلمات، انما تراكم ثقافات وحكمة مهمة جداً للإنسان، ونظرة إلى الوجود. كل لغة، بالتالي كل ثقافة، لها نظرتها الى الوجود. يجب الحفاظ على الفروقات الفكرية وتغذيتها. تآلف الاختلاف يساهم في الإبداع.
هل تعتبر ان هناك صراعا او تنافسا بين الفرانكوفونية والأنغلوفونية في عالم اليوم؟
لا اعتقد أن هناك صراعا. فالصراع يكون بين طرفين متكافئين من حيث القوة. وهذا الأمر انتفى اليوم بين الفرنكوفونية والانغلوفونية. هذه الاخيرة تقدّمت بأشواط. على سبيل المثال، منذ أكثر من عشرين سنة كانت الفرنسية هي اللغة الاجنبية الأولى في دول أميركا اللاتينية. اليوم استبدلت بالانكليزية. والسبب هو الانتاج الاميركي الهائل على المستوى العلمي والابحاث والمنشورات الذي جعل من اللغة الإنكليزية اللغة المرجع عالمياً. وإذا حقّق الصينيون في المستقبل انجازات علمية ضخمة سنتعلّم اللغة الصينية. بالنسبة إلينا كلبنانيين، يهمّنا بدرجة أولى اللغة العربية التي تجسّد انتماءنا الإقليمي. ثم اللغة الفرنسية بسبب العلاقات التاريخية مع فرنسا وأوروبا وكونها لغة محكية في العديد من بلدان العالم. بعدها تهمّنا اللغة الإنكليزية التي أصبحت اليوم لغة العالم.
أنتم عائدون من الدورة الاستثنائية لمؤتمر الجامعات العربية في عمَّان. أين هو العالم العربي في المجال الجامعي؟
فكرة الجامعة هي فكرة غربية وليس عربية. أهم جامعات أوروبا بُنيت بقرار بابوي (Bulle Papale). لأن همّ الكنيسة الكاثوليكية كان المعرفة الى جانب التثقيف الديني. والمعرفة تحرّر الانسان. فالجهل هو أخطر ما يمكن أن يعيشه الإنسان ومصدر الويل والكوارث في المجتمع. إنه فقدان المناعة الفكرية وعدم تشغيل العقل الذي هو قَبَس من عقل الله المطلق.
انطلاقاً من هنا اسأل أين هو العالم العربي في التعليم الجامعي؟
العالم العربي ركب موجة تأسيس الجامعات فيما بعد. ولدينا اليوم في اتحاد الجامعات العربية أكثر من ثلاث مئة جامعة. الوضع أفضل من السابق. لدى الشعوب العربية همّ المعرفة. وتعتمد اللغات الأجنبية في العديد من الجامعات. بينما في ستينيات القرن الماضي قامت حملة لتعريب التعليم في الجامعات اللبنانية، وكانت جامعة الروح القدس المقاوم الأساسي لهذه الحملة. وكان للعلاّمة الراحل الأب إسطفان صقر دور أساسي في البرهان على أن التعددية اللغوية هي مصدر إغناء للإنسان. ربحنا المعركة. كانوا يريدون فرض اللغة العربية كلغة تدريس وحيدة انطلاقاً من اعتبارات تعصّبية خانقة. ولكن أين هي المراجع في اللغة العربية؟ للأسف الإنتاج العلمي باللغة العربية ضئيل جداً. في القرن التاسع حقّق “بيت الحكمة” في بغداد نقلة نوعية في المعرفة. حصل ذلك بفضل المسيحيين وبالتعاون مع المسلمين. حينها تم نقل العديد من الفلسفات اليونانية والهندية إلى اللغة العربية. للأسف غرق العالم العربي فيما بعد في معادلة النفوذ والصراع والحروب، مهمشا بذلك مسالة تحصيل المعرفة وتنوير الإنسان.
وما هو دور لبنان اليوم في التعليم الجامعي؟ هل لا تزال بيروت مركزا علميا في المنطقة؟
يمكن بناء جامعات فخمة جداً. وتجهيزها بأحدث التجهيزات. ولكن الموارد البشرية هي الأساس. هناك مشكلة أساسية في العالم العربي على هذا المستوى. لذلك نقول إن لبنان لا يزال “جامعة الشرق الأوسط”، كما هو أيضا “مستشفى الشرق الأوسط”. “النفط اللبناني” حتى اليوم هو الفكر.
هل اثّر ازدياد عدد الجامعات سلباً أم إيجابا على هذا المستوى؟
يمكن أن أعطي خبرتي من خلال عملي في لجنة المعادلات في وزارة التربية والتعليم العالي مدة أربعة عشر عاماً. وقد واكبت طفرة تكاثر عدد الجامعات في لبنان. المشكلة الكبرى في لبنان أن الصرامة العلمية والأكاديمية في وادٍ وبعض السياسيين في وادٍ آخر. نحن نعمل على وضع ضوابط علمية للمستوى الجامعي في لبنان. ولكن للأسف لا يلتزم بها بعض السياسيين.
والنتيجة…
النتيجة أن العديد من جامعاتنا هي أشبه بمدارس. الأمر الذي اثّر سلبا على سمعة التعليم الجامعي اللبناني. الأردن مثلاً بعث بمسؤول تربوي كبير منذ مدّة لتحديد الجامعات اللبنانية التي يمكن للطالب الأردني متابعة تحصيله الجامعي فيها. وحدّد فقط عشرة جامعات، بينها الكسليك طبعاً.
لماذا هذه الكلفة الباهظة؟
المعادلة بسيطة جداً. هل يقبل الأستاذ الجيّد أقل من ستة أو سبعة آلاف دولار كمرتّب شهري؟
وهل تعتبر أن قسط الطالب منطقي أن يكون 50 أو 60 آلف دولار سنوياً؟
لا. لا تصل الأقساط إلى هذا المستوى. عندنا مثلاً في الكسليك أعلى قسط هو في كلية الطب وهو لا يتجاوز الـ 17 ألف دولار سنوياً. أما في الاختصاصات الإنسانية فلا تتعدى الستة آلاف دولارا أميركيا. ونحن نقدّم العديد من المنح والمساعدات الجامعية. في جامعتنا حوالى 8 آلاف طالب. وقد بلغت قيمة المساعدات السنة الماضية 13 مليون دولارا أميركيا. ومن المتوقع أن تتجاوز المساعدات هذه السنة 15 مليون دولارا.
كيف تميّزون الطالب المحتاج فعلياً عن غيره؟
لدينا مكاتب مختصّة بالمساعدات الاجتماعية. تعمل فيها مساعدات اجتماعية محترفات. يُخضعن كل طلب يُقدّم لهن إلى دراسة دقيقة وموثَّقة. وعلى أساسه يحدّدن نسبة المساعدة التي يستحقها الطالب.
وهل هذا يعني أن الجامعة في عجز؟
نحن نعيش أزمنة صعبة للغاية. إن أغلبية الطلاب يعانون ضائقة مادية خانقة. فمن واجبنا أن نكون بالقرب منهم ونخفف عن كاهلهم. إن هَمَّ تنشئتهم يفوق كل هَمٍّ.
وكيف تحقّقون الخطة التطويرية للجامعة؟
نحاول التوفيق بين التطوير والتحديث ومساعدة طلابنا. إن جامعة الكسليك تُعتبر من أهم الجامعات تجهيزا ومكننة وتنظيما. فكلية العلوم فيها كانت موضوعا متألقا في المجلة الفرنسية الشهيرة Architecture d’aujourd’hui نظرا لهندستها المبدعة وتجهيزاتها المتطورة للغاية. جميع هذه الإنجازات حققناها بتضحياتنا الذاتية. فالمشكلة أن بعض المتموّلين الكبار في مجتمعنا لا يساعدون بسخاء الجامعات اللبنانية الخاصة. إنهم يفضّلون المساهمة في تطوير جامعات أجنبية في لبنان تتلقى مساعدات ضخمة من الخارج.
هل المساعدات مبادرة من الاشخاص او من الجامعات؟
في بعض الاحيان نتّصل ببعض المتموّلين للحصول على دعم وتمويل. ولكن الامر ليس سهلاً. على خلاف ما يعتقد البعض، الجامعات الجدية والسخية على الأبحاث والجهاز التعليمي لا تّحقق أرباحاً. نحن مؤسّسة لا تبغي الربح. كل وفر تحقّقه الجامعة في نهاية العام الجامعي يعود إلى الطلاب من خلال تطوير الجامعة وتجهيز مختبراتها وكلياتها…
وهل لا يزال الدور المسيحي فاعلا على المستوى الجامعي؟
اليوم لم نعد أسياد “الساحة”. غير أننا لا زلنا فاعلين جدا ومرجعاً على هذا المستوى. في الماضي كان هناك الجامعة اللبنانية وبعض الجامعات ومنها الكسليك. بينما اليوم كل طائفة لديها جامعاتها بشكل او بآخر. وهذا جيّد. نحن فرحون أن تيّار المعرفة الذي كنّا في أساسه وصل إلى جميع مكوّنات المجتمع اللبناني. أصبح لديهم همّ المعرفة. والفيلسوف الألماني “كانت” يقول إن الانسان لا يكون إنساناً إلاّ بالتربية.
لننتقل من موضوع الإدارة الجامعية إلى معضلة التطرّف. ما هو دور التربية في الحد من التطرّف؟
العنف المنتشر اليوم هو “العنف المقدّس” الذي يختلف عن العنف الإيديولوجي. العنف المقدّس أخطر لأنه يكفّر الآخر ويقّرر إلغاءه من الوجود عبر اعتبارات دينية واهية وأقرب إلى الهذيان المرضي. ليس بالأمر البسيط أن يقوم انتحاري بتفجير نفسه بغية إرسال رسالة عبر أشلاء الضحايا البريئة إلى مراجع سياسية. أضف إلى ذلك قناعته أنه بفعلته هذه يشق الطريق إلى الجنّة! معادلة عجيبة غريبة تتعارض كليا مع أبسط مقومات المنطق السليم والإيمان الصحيح والمتزن. فالقرآن الكريم يحرص على أن يبين بشكل جلي أن الإسلام ليس بدين مستقل، بل هو آت من اليهودية والمسيحية، كما يظهر ذلك في الآية الثانية من سورة آل عمران: “نزَّل عليك الكتابَ بالحقِّ مصدِّقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبلُ هدىً للناس”. في مستهل كل سورة، يبدأ القرآن الكريم بالتعريف عن كيان الله عزَّ وجلّ، ضمن سياق الكتاب المقدس الذي يحدّد جوهر الله بالمحبة المطلقة، “باسم الله الرحمن الرحيم”. إنه الرحمة الإلهية والحنان اللامتناهي والرأفة المطلقة. من هنا، كلُّ تفسير لأي آية قرآنية لا ينسجم كليا مع التحديد القرآني لجوهر الله، يكون خارجا على الإسلام وتعاليمه.
وهل للتربية والثقافة والعلم دور في الحد من هذا التطرّف وقبول الآخر؟
بالتأكيد. إن مقالات الصحافي الكويتي الدكتور أحمد الصرّاف خير مثال على ذلك. فهي مدرسة في الانفتاح والعقلانية الجريئة والنقد البناء للثقافة العربية والإسلامية وقبول الآخر المختلف واحترامه في انتماءاته الأساسية.
كيف تقارب فلسفة الصيغة اللبنانية؟
في زيارتنا لتهنئة الرئيس العماد ميشال عون، تكلّمت عن “رسولية” الكيان اللبناني. البابا يوحنا بولس الثاني الذي كان يعرف جميع البلدان ويتكلم العديد من اللغات، اختار فقط لبنان ووضعه على المنصة العالمية للدول المتعدّدة ثقافياً ودينياً وحضارياً ليكون رسالة في العالم. لماذا؟ لأن لبنان منذ القرن السابع حتى يومنا الحاضر، هو مختبر إنساني رائد في إدارة التعددية وقبول الآخر كشريك. في حزيران سنة 622 م، هجر نبيُّ المسلمين مكة خوفا من تخطيط قبيلة قريش لقتله. فأتى إلى مدينة يثرب حيث كانت تقيم هناك جماعة يهودية كبيرة وجماعة نصرانية. مع هجرة الجماعة الإسلامية الأولى، بات لزاما تصور إدارة جديدة لشؤون المدينة. بعد مداولات ونقاشات، وقَّع نبيُّ المسلمين محمد مع اليهود والنصارى على ما سُمِّي آنذاك “ميثاق المدينة” أو “صحيفة المدينة” أو “دستور المدينة”. فكان أول نص مدني في العالم لإدارة مدينة متنوّعة دينياً، حيث نقرأ في مقدِّمته: “نحن على تنوّعنا الديني، نشكّل أمّة واحدة”. لكن بعد فترة سقط دستور المدينة، وفُرضت الشريعة الإسلامية. فما كان على الشرق الأوسط إلا أن ينتظر أربعة عشر قرناً لكي تعود الحياة إلى “ميثاق المدينة” بالـ “ميثاق اللبناني”. انه النظام الوحيد في هذا الشرق الذي يحترم كل الأديان ولا ينتمي إلى أي دين. لبنان هو الدولة الوحيدة في جامعة الدول العربية التي لا دين لها. وكذلك حرية الضمير، الواردة في الفقرة 18 من شرعة حقوق الإنسان، لا تُحترم في مجموعة الدول العربية إلا في لبنان، حيث بإمكان أيِّ أمرئ أن يعتنقَ الدين الذي يريد.
ما مدى نجاح التجربة اللبنانية هذه بخاصة في ظل الأزمة، أو الأزمات، التي يعيشها لبنان اليوم؟
العيش في أزمة دليل عافية سياسية. العيش في أزمة يعني وجود الحرية وديمقراطية الرأي. والحرية تتمظهر في اتخاذ المواقف المنتقدة للمسؤولين. لذلك طالبت بعض القيادات العربية في الماضي بحظر البرامج السياسية اللبنانية في دولها. خافوا من انتقال “عدوى” الحرية اللبنانية الى بلدانهم. وعشق الحرية هذه ليس حكراً على المسيحيين، فالمسلمون اللبنانيون شركاء أساسيون.
هل لديكم خوف على الحضور المسيحي في المشرق؟
لا مساكنة ممكنة بين الايمان المسيحي والخوف. أنا كمسيحي لم أعش الخوف يوماً. قلت مرّة لأحد الصحافيين المتشائمين تكوينيا، لو قُيّض لك أن تغطي أحداث جبل لبنان خلال حملة المماليك، هل كنت لتتوقّع في خيالك المجنح وتحاليلك الثاقبة أن هؤلاء الذين تعرّضوا للتنكيل والقتل والمجازر الرهيبة، سيكون لهم الكلمة الفصل في مستقبل لبنان في القرن العشرين؟ الواقع البشري لا يخضع دائماً للتحاليل العقلية. فهو أكثر تعقيداً. وفي نهاية المطاف، الكلمة الأخيرة لسيد التاريخ، الكلمة الأخيرة لمصدر الوجود ومصبه، الكلمة الأخيرة لله.
اليوم هناك حالة تطرّف في الشرق يلاقيها صعود للتطرّف في الغرب. ألا تخشى أن يدفع المسيحيون ثمن الصراع؟
ظاهرة العنف لصيقة بالكيان الإنساني. المتخصصون في دراسة الحروب اقتطعوا ثلاثة آلاف سنة من عمر البشرية. ورأوا ان بينها 271 سنة سلام فقط، والباقي حروب. غير أن سنوات السلام هذه كانت تحضيرا للحروب. فالتاريخ البشري مأساوي. ما هو مصير الإنسان؟ ليس في مقدور الإنسان أن يعطي جوابا عن هذا السؤال. إن الجواب القاطع والجازم لدى من هو في أصل الوجود ومصبه، لدى الله وحده. هذا هو إيماني. لذلك لا أقوم بمقاربة واقعنا المسيحي في لبنان والشرق خارج إيماني المسيحي. أنا برجائي المسيحي الذي يتضاعف قوة وصلابة في المحن والمصاعب، أنتظر أجمل الأيام في الأفق الآتي.
إذاً لا تخيفك حالة التطرّف؟
العنف هو هزيمة للإنسان. لأن الإنسان يتواصل مع أخيه الإنسان بالكلمة. هذا ما يميّزه عن الكائنات الأخرى. الكلمة اساس الوجود. “الكلمة صار جسداً”. من خلال الكلمة نلتقي كبشر. هي اساس التلاقي. إسكاتها واستعمال العنف هو هزيمة للإنسان. وهذا العنف لا يمارس ضد المسيحيين فقط، إنما أيضا وبخاصة ضد المسلمين. الإسلام هو في مخاض عسير اليوم. المسلمون أنفسهم يعترفون بأن لديهم مشكلة كبيرة بحيث أن أيّ مسلم قادر على أن يصدر فتوى بالقتل ضد من يشاء. ليس هناك من مرجعية دينية رادعة.
نحن في زمن “الكلمة التي تجسّد وصار أنسانا”. لو تجسّد يسوع في زماننا هذا ما كان ليقول للبشرية؟
عظمة الديانة المسيحية في مفهومها لله. إنه “الحب”. والحب هو خروج من الذات وإعطاء كل شيء للآخر. الله يخرج من ذاته ويعطي كل شيء لـ “الكلمة”. و “الكلمة” تخرج من ذاتها وتقدّم كل شيء للآب. والروح القدس هو من يعطيهما القدرة على الخروج من الذات. الله يحمل همّ الإنسان. هو صنيعته. وهو يحب صنيعته على الرغم من أن الإنسان حاول أن يحقق ذاته خارج مصدر وجوده. ضلال الإنسان الكبير عندما ينسى أن الآخر هو في أساس وجوده… الآخر هو الطريق إلى الذات. تجسّد يسوع وأخذ طبيعتنا البشرية ليعيد صياغتها مُجَدّداً في حضارة جديدة، هي حضارة المحبّة والغفران وقبول الآخر. عيد الميلاد هو عيد المصالحة الكبرى بين الكلمة والحدث.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]