كتب أوتل رزق في “المسيرة” – العدد 1603
بعد تسع سنوات على مبادرته الأولى “نهوض لبنان نحو رؤية اقتصادية واجتماعية ـ 2007″، وبهدف الخروج من واقع التجاذب بين محتج ومحتاج، ومن أجل الدخول في مجتمع الإخاء والرخاء، أتت مبادرة رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي الأستاذ روجيه نسناس الثانية بعنوان “نهوض لبنان نحو دولة الإنماء” ـ دار النهار، 2016، بتعاون ومساهمة مجموعة من الاختصاصيين والخبراء في الاقتصاد والقانون والسياسة.
يتوجه هذا الكتاب ـ المشروع الى المسؤولين السياسيين والى الهيئات الاقتصادية والى أصحاب العمل والاتحاد العمالي العام والنقابات وأصحاب المهن الحرة والمجتمع المدني، كما يتوجه الى كل مواطن لبناني، خصوصًا الشباب، “لكي نُقدِم جميعًا ومعًا على بلورة المعالجات حتى نتقدم باتجاه النهوض في الداخل، واستعادة دور لبنان ومكانته في القرن الحادي والعشرين”.
الكتاب يقدم في النتيجة اقتراحات للحل والخروج من الأزمة تتطلب جهدًا جبارًا وإرادة ثابتة في الإصلاح. فماذا عنها؟
أتت العقود الأربعة الماضية، أي منذ العام 1975 الى اليوم بأضرار كبيرة على لبنان. حرب متقطعة إنما هدامة على امتدد 15 عامًا، عاثت بالاقتصاد خرابًا ودمرت المجتمع والدولة بكل مظاهرهما، وقد فشل السلم الذي تلا الحرب في تلبية معظم المرتقبات الاقتصادية والسياسية. فالأعوام العشرون المنصرمة حتى العام 2015 شهدت تقلّص السيادة والحريات وانتشار الفساد، ونموًا اقتصاديًا خجولاً رافقته فرص عمل قليلة وزيادة في الدين العام لم يسبق لها مثيل.
أصبح الاقتصاد اللبناني ضعيفاً وغير منتج يُثقله دين عام هو من بين أعلى الديون في العالم بالنسبة الى إجمالي الناتج المحلي. لا يستطيع هكذا اقتصاد أن ينعش النمو أو يخلق فرص عمل كثيرة، أو أن يدعم الاستقرار السياسي والاجتماعي.
لم يكن الاقتصاد اللبناني قادرًا على تحقيق هذا النوع من الأداء حتى أيام ذروته، أي قبل العام 1975، عندما لم يكن على الدولة أي دين عمليًا وكانت مالية الحكومة متوازنة، وكان ميزان المدفوعات يسجل فائضًا بصورة شبه مستمرة. أما اليوم فالوضع الفعلي والمالي المتردي للاقتصاد وضعف البنى المؤسسية يحملاننا على القول بأنه أصبح من شبه المستحيل أن نترقب عودة النمو الاقتصادي القوي والتنمية الفاعلة. فلبنان في حاجة ماسة الى إجراءات جدية لإحداث تحوّل في اقتصاده كي يعود بالرخاء الاقتصادي على معظم اللبنانيين للأجيال القادمة.
لذا حان الوقت لعرض تفاصيل خطة عمل اقتصادية تعالج المشكلات اللبنانية الأساسية، ولهذه الخطة غرضان أساسيان: الأول هو وضع الاقتصاد اللبناني على طريق النمو المرتفع الذي يسمح للبنان بالنمو لمدة طويلة بمعدل مستدام أعلى منه في السابق. أما الغرض الثاني من الخطة فهو ذو طبيعة إنمائية ترتبط بتوزيع أفضل للدخل والثروة، وهذا بذاته ينشّط النمو الاقتصادي إنما يشكل أيضًا أساسًا للاستقرار السياسي والاجتماعي.
بغية تحقيق هذه الأهداف، تعمل الخطة على معالجة الضعف البنيوي الكامن في الاقتصاد اللبناني، وتقترح أيضًا سياسات اقتصادية من شأنها أن تدعم التعافي الاقتصادي في المدى القصير، كما أنه من أجل النمو والإنماء في المدى الطويل، يجب أن تركز هذه الخطة الاقتصادية أولاً على ثلاثة إجراءات أساسية تزيد إنتاجية الاقتصاد اللبناني بشكل مستدام، وهي:
-توفير التعليم الرسمي ذي النوعية الجيدة والكلفة المنخفضة، أقله حتى الصفوف الثانوية.
-إنشاء شبكة نقل واتصالات حديثة في مختلف أنحاء الوطن.
-إصلاح القطاع العام.
من شأن توفير التعليم الرسمي للجميع بكلفة متدنية ونوعية جيدة على الأقل حتى الصفوف الثانوية، أن يطلق مسيرة تعزيز مهارات العمل والإنتاجية الاقتصادية في لبنان. من الرسائل المهمة التي يوجهها هذا الإجراء أيضًا أن جميع الشباب اللبنانيين سوف تتسنى لهم فرصة متساوية لتحصيل الحد الأدنى من التعليم الجيد وبناء عليه، ليس إجراءً اقتصاديًا وحسب إنما أيضًا تدبير اجتماعي وسياسي يحمل رسالة مساواة في الفرص وتضامن بين المواطنين.
الإجراء الأساسي الآخر هو إنشاء شبكة طرق واتصالات (هاتف وإنترنت) حديثة في المناطق الريفية تسهّل الى حد كبير التنقل والاتصال بين المناطق النائية والمدن. يبدأ هذا المشروع مع سكة حديد حديثة وسريعة على طول الطريق الساحلية اللبنانية، وفي الوقت نفسه يجب وصل هذه السكة بطرق رئيسية يتم شقها أو تحسينها في الريف. الهدف الأساسي لهذا الإجراء المهم ليس فقط زيادة الإنتاجية الاقتصادية عن طريق تحسين الطرقات والاتصالات، ولكن الأهم هو توحيد السوق الوطنية وتوسيعها، وتنشيط الاستثمارات في القطاع السكني والأنشطة ذات الصلة، عندئذ سيبدي الناس والأعمال استعدادًا ليستقروا خارج بيروت وبعيدًا عن قلب لبنان، الأمر الذي من شأنه أن يحفّز التفاعل الاجتماعي والسياسي بين اللبنانيين، وهذا بحد ذاته هدف وطني مهم للغاية.
لطالما كان إصلاح القطاع العام في لبنان قضية حساسة جدًا بالنظر الى علاقته المباشرة بتوزيع السلطات السياسية والإدارية في البلاد، ولكن هذه الخطة الاقتصادية تتطلب إصلاحين أساسيين يتعلقان بالقضاء وحجم القطاع العام.
واضح تمامًا أن المشكلة الأساسية مع القضاء لا تكمن في طبيعة القوانين ولكن في عدم تطبيقها. فهناك دعاوى تنتظر سنين طويلة لبتّها في المحاكم، في حين أن الأحكام الصادرة في دعاوى أخرى كثيرة تعتبر منافية لوقائع القانون. هذا الوضع يثير الريبة الشديدة في عملية الاستثمار وتترتب عنه تكاليف اقتصادية مصطنعة كبيرة مع ارتدادات تحد من الاستثمارات الخاصة وتعوق النشاط الاقتصادي بصورة عامة. لذلك فإن إرساء آلية قضائية فعّالة حيث يخضع القضاة لتدريب جيد ويتقاضون رواتب معقولة ويجري البت في القضايا في مهل محددة، أمر ضروري للحصول على اقتصاد منتج.
بالنسبة الى حجم القطاع العام، فقد سجلت على صعيد الرواتب والأجور، وفي ما يتعلق بإجمالي الناتح المحلي، زيادة كبيرة بالمقارنة مع فترة ما قبل العام 1975. تبلغ فاتورة الرواتب في الموازنة حاليا نحو خمسة مليارات دولار، أي 10 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وواضح جدًا أن المردود الإنتاجي الذي يقابلها هو أقل بكثير مما يدل عليه مجموع النفقات. لذا، إن احتواء النفقات الحالية، وخصوصًا كلفة الدين والرواتب والأجور التي تساوي أكثر من ثلثي الموازنة، أساسي من أجل الإصلاح المالي. وفي ما يتعلق بالرواتب والأجور يجب مع الوقت العمل على تقليص عدد الموظفين المتقاعدين مع خفض العدد الإجمالي لموظفي القطاع العام عن طريق التناقص الطبيعي.
هذه الإجراءات، ولو كان تأثيرها الكامل على الاقتصاد لن يتبلور إلا في المدى الطويل، يجب المبادرة بتنفيذها في أقرب وقت ممكن، ومن شأنها أن تولّد في المدى القصير مرتقبات إيجابية مهمة لمستقبل الاقتصاد. بيد أن هذه النتائج الإيجابية الآنية ليست كافية ويجب دعمها بإجراءين إثنين قصيري الأمد يمكنهما أن يدعما الى حد كبير تعافي الاقتصاد اللبناني وخروجه من ركوده الحالي وهما:
*إعادة تمويل دين القطاع العام بأسعار فائدة أدنى ولفترات أطول.
*إعادة جدولة ديون القطاع الخاص للمصارف المشكوك في تحصيلها.
إن إعادة تمويل دين القطاع العام بفوائد أدنى وما ينتج عنه من خفض عبء الفوائد في الموازنة، أمر ممكن وعلى ارتباط مباشر بمصداقية الإجراءات الطويلة الأجل والشروع باكرًا في تطبيقها. وستعود المصارف بالتالي لتلعب بدرجة أكبر دورها التقليدي كوسيط عبر إعطاء مزيد من القروض للقطاع الخاص، وبذلك تشارك بحسب ما يمليه عليها واجبها في إنعاش النمو الاقتصادي.
أما بما يتعلق بإعادة جدولة ديون القطاع الخاص للمصارف المشكوك في تحصيلها، وذلك بدعم من مصرف لبنان، فيمكنه أن يزيد الأجواء الإيجابية ويساعد على التعافي الاقتصادي في المدى القصير قبل الحصول على النتائج المتوخاة في المدى البعيد.
هناك أزمنة يكون خلالها التغيير الجذري ممكناً، وخطة العمل الاقتصادية هذه لإنماء وازدهار لبنان يجب أن تبادر بها حكومة تفكر إصلاحيًا بكل ما للكلمة من معنى. فإذا أنجزت الإجراءات المذكورة آنفاً، قد يحفّز التغيير الاقتصادي الناجم عنها إصلاحات سياسية ضرورية لإنشاء مجتمع حديث ومنتج، حيث باستطاعة معظم المواطنين المساهمة في إنمائه وتشارُك المنافع.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]