كميل وزلفا شمعون: النمر والأميرة… لبنان العصر الذهبي ومواسم العز ـ 1 ـ

حجم الخط

كتبت نجاح بو منصف في “المسيرة” – العدد 1622

كان يا ما كان رئيس لجمهورية لبنان اسمه كميل نمر شمعون، عرفناه أولا رجلا من رجالات استقلال لبنان وصار سفيرا، نائبا، ووزيرا… وكانت “الثورة البيضاء” التي نصبته رئيسا، مفتتحا عهدا ليس ككل العهود ورئيسا ليس ككل الرؤساء، ولأن وراء كل عظيم امرأة كانت “الست زلفا”، لبنانية أولى ليست ككل اللبنانيات الأول… هو عهد ذهبي لا زالت حكاياته من حكايات زمن جميل، نسج بحنكة وسحر ذاك النمر وبأناقة ورقي تلك الأميرة، عزًا وازدهارًا وأضواء، هو عهد وجمهورية ورئيس وسيدة أولى، أقيما ملكا وملكة على قصر ووطن فحلقا به عاليا، أراداه مملكة للأحلام… فنًّا، ثقافة، جمالا وبحبوحة، بنيا خططا وأرسيا أسسا لذاك اللبنان، ومرت عقود وأجيال ولا زال كل جمال من ذاك اللبنان مما غزلته أيدي ذاك النمر وتلك الأميرة راسخا متمددا، ونتذكرهما متلازمين غير منفصلين حكاية وراء كل حكايات مواسم العز والإشعاع في لبنان.

ثلاثون من السنوات مرّت على رحيله، ولم ينطفئ نجمه، هو 8 آب 1987 تاريخ محفور على صفحات تاريخ لبنان الحديث، يوم رحل “الرئيس” كميل شمعون، اللاعب الأقوى على الساحة اللبنانية على مدى أكثر من نصف قرن، رحل صانع التاريخ وصار ركنا من أركانه وسطورا نافرة على صفحاته، لكن الزعيم الكبير،  قفز فوق السياسة، تخطى سطور التاريخ، وأبى إلا ان يكون الغائب الحاضر أبدا  في إنجازات ومشاريع كبيرة لنهضة أرساها عهده وما زالت ماثلة في حاضرنا تتألق حتى اليوم نوافذ مضيئة وسط ظلام دامس…

نتذكره.. نتذكر لبنان كميل شمعون والست زلفا، نعبر منه الى حكاياتهما لبناء ذاك اللبنان، وتحت رسم لذاك “الساحر” الذي «لوّع» عذارى عصره. يروي لنا وريث ذاك البيت الكبير دوري شمعون ما رآه وسمعه ولمسه في ذلك العهد وكيف كان الرئيس يقرر ويطلق مشاريع لبنان أراده سويسرا الشرق. وكيف كانت تلك السيدة تلهمه… وكان لهما ما أرادا، لبنان مملكة عز وازدهار وواحة فن وثقافة ما زالت أصداؤها تتردد بين هياكل مدينة بعلبك، في أضواء كازينو لبنان، في هتافات المدينة الرياضية، في قفزات نسائنا الى عالم السياسة، في كل إنجاز وإبداع توّج لبنان أولا في هذا الشرق وأهّله لأن يقارع الغرب.

 السياسي “الكاريزماتي” الساحر

عن ذاك “الرئيس” وأميرته، قيل الكثير الكثير حكايتهما كانت من قصص الأحلام، قيل لو لم يكن كميل شمعون رئيسا لكان واحدا من أشهر نجوم هوليوود، السياسي “الكاريزماتي” الساحر، الذي عرف كيف يكون حينا “ذئبا” وحينا “حملا”، كان يدغدع أحلام نساء كثيرات، إنكليزي الأناقة، يبهر محادثيه، رجالا ونساء، بلياقته، بتواضعه، بطرافته وقفشاته المهضومة وحتما بذاك الذكاء الحاد، وتلك الثقافة المشبعة تاريخا وأدبا وشعرا، لكن ثمة من كان يجاريه ويقارعه جمالا وأناقة وثقافة “هي النجمة الثانية” كما يسميها ابنها ومن غيرها الست زلفا.

هي زلفا نقولا شمعون، وإليكم  كيف وصفها يوما زوجها الرئيس في كتاب أهداه لها، وصدر بالفرنسية سنة 1963 عن دار غاليمار في باريس، قائلا: “كانت تجمع إلى النعومة الأساسية شجاعة لا حدّ لها، وافتخارا على بساطة ورباطة جأش أمام الصعاب. هذه الخصال لم تخنها أبدا، أو بالأحرى لم تخطئ أبدا بالنسبة لي، على رغم بعض أخطائي الكبيرة التي كنت مسؤولا عنها، وعلى رغم حياتي السياسية المضطربة (…) في 30 كانون الأول من سنة 1930، وسط نهار ماطر (ويقال إن المطر يجلب الحظ) تزوّجنا. كان الاحتفال بسيطا وحميما، حضره لفيف من الأهل والأصدقاء. كنت أرتدي طقما رماديا فاتحا. أما هي، فكانت ذات بياض طهري، في ثوب إكليلها الطويل”… تزوجا، وبدأت الأسطورة!

تحت رسم “الرئيس” المذيّل بتوقيع فنان روسي، يجلس دوري شمعون وراء مكتبه، ويسترسل حديثا بضحكة واسعة مشبعة بفرح الذكريات، عن حكايات “الرئيس” و”الست” والقصر بعيدا عن السياسة، حكايات عز وفن وثقافة وكثير من الألق والـ”غلامور”.

يقول “حين انتخب كميل شمعون رئيسا للجمهورية، البلد كانت “خام”، كان الرئيس الثاني للجمهورية بعد الاستقلال بعد بشارة الخوري، الذي “نزعها” برغبته بالتجديد لعهده، خالف الدستور وكانت ردة الفعل قوية ضده، ليصل كميل شمعون بكل خبرته ومهارته السياسية والديبلوماسية وشبكة علاقاته الواسعة مع رجال أعمال وسياسة واقتصاد في البلد وخارجه، وما يتمتع به من شعبية كبيرة ومصداقية في هذه الأوساط”.

ويتابع شمعون الابن “إجا وجاب معو هالثروة التي يملكها، وانطلق الى وضع المشاريع الإنمائية والعمرانية والصناعية وأيضا الفنية والثقافية والسياحية”. ويخبرنا ان كل مشروع كان يخطط له بدقة ويخصص له فريقا من الاختصاصيين لدراسته ودرس جدواه، فإن تأكد له أنه مشروع ناجح ومثمر يعطي الضوء الأخضر فورا لتنفيذه، ولا يكتفي بذلك بل يلاحقه حتى النهاية، فكان يضع حجر الأساس لإطلاقه ومع إنجازه سيواكب حفل افتتاحه وتدشينه، ما خلق في البلاد جوا تشجيعيا كبيرا للاستثمار وإطلاق المشاريع مسهِّلا أمامها المعاملات الإدارية لتثمر مشاريع إنمائية ومناطق صناعية وتربوية ورياضية ضخمة، لا زالت الأساس والقدوة لكثير من المؤسسات حتى أيامنا هذه.

ويلفت دوري شمعون الى ان والده تقلد مسؤولية قيادة البلاد بعد مشوار طويل تدرج فيه سفيرا فوق العادة للبنان وسوريا في لندن، فنائبا فوزيرا، وعلى هذا دخل القصر الرئاسي متمرسا في السياسة كما في النضال والمقاومة السياسية ضد الانتداب الفرنسي، وعززت ذلك شبكة علاقات جيدة وقوية مع المجتمع الدولي.

كل هذا شكل رصيدا قويا له ليصل به ومعه الى الرئاسة رجلا قويا حاملا رؤية ومشاريع إعمار للبنان أراده الأفضل، بهذا انطلق شمعون وأرسى فعلا لعهد ازدهار وبحبوحة تمددت ثماره الى عهود تلته، وحتى السبعينات يوم بدأ الدمار وانهارت البلاد، لكنها ما تمكنت من تدمير مشاريع كميل شمعون.

مشاريع ومشاريع للبنان أفضل

وفي تفاصيل لا تتسع لها مجلدات، يقول دوري إن والده أرسى لدولة جديدة حملت عناوين جديدة، فهو أول من أدخل قانون سرية المصارف الذي أسس وشجع على إنشاء مصارف كثيرة في البلاد فازدهر القطاع المصرفي، والنتيجة، صارت بيروت المركز التجاري والمالي الأهم في المنطقة، واكتسب النقد اللبناني مناعة وقوة.

وفي المقابل، كان عدد من دول المنطقة  يشهد توتراً أمنياً وانقلابات سياسية، ما دفع بعض المستثمرين العرب إلى تحويل أموالهم إلى لبنان هرباً من التأميم، لما كان لبنان يتميّز به من اقتصاد حر، وقطاع مصرفي نوعي. وبهذا ساهمت الفورة النفطية في دول الخليج العربي في ضخ رساميل ضخمة في السوق اللبناني، الذي شهد فترة ازدهار اقتصادية، وفورة عقارية وعمرانية، ونظاماً خدماتياً وتحسناً في الأوضاع المعيشية، عززه وضع الليرة اللبنانية القوي.

هذه الظروف اجتذبت رجال الأعمال اللبنانيين للاستثمار في مشاريع سياحية ضخمة كان بينهم نجيب صالحة الذي أطلق أحد أضخم المشاريع السياحية آنذاك، فأسس شركة الفنادق اللبنانية الكبرى العام 1953 برأس مال بلغ خمسة ملايين ليرة، في شراكة مع يوسف بيدس وخليل صحناوي ونقولا بسترس. كما بوشر ببناء فندق «فينيسيا» الشهير في العام 1955.

وكان كازينو لبنان

وكرت سبحة المشاريع السياحية لتتوج بوضع حجر الأساس لبناء كازينو لبنان على أجمل موقع في خليج جونية، ليصبح خلال سنوات قليلة من أفخر الكازينوهات وأشهر المعالم السياحية في الشرق الأوسط وفي العالم.

فذاك الرخاء والازدهار الاقتصادي الذي شهده لبنان في ذاك العهد، عززته الواردات السياحية المهمة المتأتية من ألعاب الميسر التي كانت ناشطة في مراكز الاصطياف، وبعض فنادق العاصمة، وكانت هذه الألعاب ممنوعة في الدول العربية المجاورة. وبناء عليه، صدر عام 1954 قانون قضى بحصر ألعاب الميسر في كازينو لبنان من دون سواه. وانطلق العمل على بناء كازينو لبنان، وضع شمعون حجر الأساس، وكان افتتاحه على عهد الرئيس فؤاد شهاب ليرسّخ مكانته سريعا كأول واضخم مركز ترفيهي في منطقة الشرق الأوسط.

بيروت عاصمة عالمية

وعلى رغم الظروف السياسية الصعبة التي رافقت عهد كميل شمعون خصوصا على المستوى الإقليمي، كل ذلك لم يثنه عن المضي في إنجازاته الإصلاحية والحضارية على المستوى الداخلي، فانتقل لبنان معه الى عصر الحداثة والازدهار، ويعترف الجميع ان لبنان وعاصمته بيروت تحديدا أصبحت خلال وبعد عهد شمعون غيرها ما قبله. صارت عاصمة عالمية، قبلة الشرق والغرب، سياحة، اقتصادا، إنماء وإعمارا، فنا وثقافة وإشعاعا حضاريا.

ولعهد ابن دير القمر يسجل، وبدفع من اللبنانية الأولى، انه كان أول من يمنح المرأة اللبنانية حق الاقتراع، ما دفع أحد الصحافيين لنشر مقال قال فيه “إذا كان بشارة الخوري قد حرر البلاد من النير الأجنبي، فإن كميل شمعون حرر المرأة اللبنانية من نير اللبناني”..

ولكميل شمعون يسجل، وفي معركته ضد الفساد، إقرار قانون الإثراء غير المشروع (من أين لك هذا)، وغيرها الكثير من التشريعات الاقتصادية والإصلاحية  والإنمائية. فعلى عهده، انطلقت معظم الصناعات اللبنانية من الأقمشة والحديد والإسمنت وغيرها، ولبيروت كانت حصة الأسد، لتفاخر على زمانه بتطوير مطارها، بانشاء الإذاعة اللبنانية في الصنائع، بإنارة مداخلها بالنيون، بإنشاء شبكة التليفون الأوتوماتيكي، و.. و.. وأيضا بإنشاء مدينة كميل شمعون الرياضية، وقصة هذه المدينة يرويها دوري شمعون “كانت خطوط الميدل إيست بصدد فتح خط الى روما فدعيت شخصيا الى الافتتاح، ومن بين المراكز التي أخذنا لزيارتها مدينة رياضية أثارت إعجابي، فطرحت على والدي فكرة إنشاء مدينة شبيهة في لبنان، كعادته لم يتردد، طرحها على فريق مختص انطلق فورا نحو تنفيذها لتشيّد في مقر مطار بيروت القديم عام 1956، وكانت أول مدينة عربية ليس في بيروت وحسب بل في كل العالم العربي”. – (يتبع)

الصور من أرشيف “المسيرة” وشفيق رزق  

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل