شارك الوزير السابق الدكتور خالد قباني في مؤتمر جامعة الحكمة عن “اللامركزية الإدارية الموسعة”، الذي أقيم بدعوة من رئيس الجامعة الخوري خليل شلفون، وبرعاية وليها رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر، وألقى محاضرة لطلاب وطالبات كليتي الحقوق والعلوم السياسية، في حضور شخصيات روحية وسياسية ونقابية وقضائية واجتماعية وأكاديمية.
تحدث قباني في جلسة بعنوان “التداعيات الأقليمية والدولية على مفهوم اللامركزية الإدارية الموسعة”، وأجرى مقاربة إقليمية حول اللامركزية الإدارية الموسعة وظروفها، وقال: “أدرك اللبنانيون في أعماقهم ومن خلال تجربتهم التاريخية الطويلة قيمة العيش المشترك في انتظام اجتماعهم السياسي ووحدتهم بحيث أصبح يشكل الضمانة الحقيقية لحريتهم وسيادتهم واستقلالهم. وجاءت مقدمة الدستور لتؤكد في كل بند من بنودها على اهمية العيش المشترك وتؤمن كل المقومات والضمانات لتحصينه وتعزيزه. والجدير بالذكر أن الاصلاحات التي تضمنها اتفاق الطائف، والتي أصبح معظمها جزءا من الدستور، جاءت لتحاكي المبادئ الأساسية والجوهرية التي شكلت مقدمة للدستور، ومنها الانماء المتوازن واللامركزية الإدارية، فنص اتفاق الطائف على اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة، والمقصود بالموسعة، رفع مستوى اللامركزية الادارية من مستوى البلدية إلى مستوى القضاء وما دون، وذلك لتمكين الجماعات المحلية من إدارة شؤونها الذاتية عن طريق مجالس منتخبة محليا (Autonomie) بهدف تحقيق الديموقراطية على الصعيد المحلي، ومشاركتها في إنماء المناطق، مع اعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصاديا واجتماعيا تحقيقا للعدالة”.
أضاف: “تتطلب هذه الخطة تجنيد جميع الطاقات والإمكانات البشرية وتهيئة الأطر الجغرافية المناسبة على مستوى الوحدات الإقليمية المختلفة لاستيعاب عملية التنمية الشاملة والمشاركة فيها، بحيث ينظر إلى إقليم الدولة كوحدة إنمائية متكاملة، وبما يحقق هدف الإنماء المتوازن، والذي يعتبر من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام، ومن هنا يتبين ما للامركزية الإدارية من آثار إيجابية على العيش المشترك. وهي بهذا المعنى تشكل عنصر وأداة جذب وليس أداة طرد. إلا أن الظروف الاقليمية والدولية المستجدة، ولا سيما ما يتم تداوله من إعادة نظر في خريطة الشرق الأوسط، وبالتالي إعادة هندسة الكيانات السياسية، بعد الأحداث الخطيرة التي ألمت بهذه المنطقة، ربما رسمت علامات استفهام حول موضوع اللامركزية الادارية الموسعة في لبنان، سواء من حيث مفهوم اللامركزية الادارية الموسعة أو من حيث تداعيات هذه الأحداث على هذا المفهوم”.
وتابع: “في الفصل الأول عن مفهوم اللامركزية الإدارية الموسعة، تنطوي اللامركزية الإدارية على جوانب وأبعاد، تظهر مضامينها وجوهرها وتساعد على فهم حقيقة مكوناتها، والتي عادة ما يتناولها الدارسون والباحثون من جانبها الإداري، في حين أن اللامركزية تتضمن ابعادا ثلاثة البعد التنظيمي الإداري والبعد السياسي الديموقراطي والبعد الاقتصادي الإنمائي. ففي البعد التنظيمي الإداري للامركزية، ما من دولة في عصرنا الحاضر إلا وتعتمد نظاما لامركزيا، على الصعيد الإداري، إلى جانب النظام المركزي. وتقوم اللامركزية على تنظيم الجهاز الإداري في الدولة بشكل يسمح بتعدد أشخاصها الإدارية على أساس إقليمي، ومؤداها استقلال جزء من أرض الدولة بإدارة مرافقه ويكون للشخص الإداري اللامركزي في هذه الحالة اختصاص عام بالنسبة لهذا الجزء المحدد من أرض الدولة. ويفترض التنظيم الإداري تحديد العلاقة بين السلطة المركزية والسلطات اللامركزية المتمثلة بالمجالس المحلية، وبالتالي، توزيع الصلاحيات الإدارية بين السلطة المركزية، من جهة، والسلطات المحلية. من جهة ثانية، بما يحقق الاستقلال الذاتي للهيئات المحلية بإدارة نفسها بنفسها، دون المساس بوحدة الدولة، ذلك أن اللامركزية الإدارية وإن كانت تؤمن استقلالا ذاتيا للجماعات المحلية، إلا أنها تعيش في حضن السلطة المركزية، وعليه، يجب فهم اللامركزية على أنها ليست تبعية وليست استقلالا”.
وأردف: “بالنسبة إلى البعد السياسي – الديموقراطي للامركزية، تقوم اللامركزية على مشاركة المواطن في إدارة الشأن العام، وبالتالي، فهي ترتكز إلى قاعدة ديموقراطية مؤداها مشاركة الأهالي في القرار وفي إدارة شؤونهم الذاتية بأنفسهم من خلال الانتخابات، وقيام الدولة بتعزيز المناخ الديموقراطي في البلاد وتوفير مناخ الحرية الذي يكفل التعبير عن إرادة المواطن وإطلاق قدراته وإمكاناته وملكاته الفكرية والانتاجية. والانتخاب، على الصعيد المحلي هو شرط أساسي لتحقيق اللامركزية، لأن النظام اللامركزي هو امتداد للفكرة الديموقراطية على المستوى المحلي. هذا الانتخاب هو الذي ينمي مستوى معين من الثقافة الديموقراطية ويحقق قدرا من المشاركة الشعبية ويقوي الولاء الاجتماعي ويدفع المواطن إلى الاهتمام بالشؤون العامة وحمل المسؤولية”.
وأشار إلى أن اللامركزية بحد ذاتها نظام ذو طابع ديموقراطي، لاسيما إذا نظر إليها من زاويتها التاريخية والاجتماعية والسياسية، مضيفًا: “هي ليست نهجا أو أسلوبا من الأساليب الإدارية فحسب، ولكنها موقع اجتماعي لممارسة الحريات الديموقراطية على الصعيد المحلي. ولعل ألكسي دو تو كفيل هو خير من عبر عن وجهة النظر هذه، حين اعتبر أن اللامركزية مؤسسة ديموقراطية ومدرسة للحريات السياسية. فالعلاقة بين اللامركزية والديموقراطية إذن هي علاقة عضوية وليست علاقة عارضة أو سطحية، وهذه العلاقة أفرزت علاقة أخرى متممة، وهي علاقة اللامركزية بالانتخاب نظرا لارتباط الديموقراطية بفكرة الانتخاب. وعلى هذا الأساس تحكم البعد السياسي الديموقراطي للامركزية فكرتان، فكرة المشاركة في إدارة الشأن العام الإداري عل الصعيد المحلي وفكرة انتخاب الهيئات المحلية من قبل الجماعات المحلية”.
وتابع: “بالنسبة إلى البعد الاقتصادي – الإنمائي للامركزية، ذهبت مقدمة الدستور في تركيزها على الإنماء المتوازن للمناطق وأهميته في بناء الوطن ومستقبله، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، إلى حد اعتباره ركنا أساسيا من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام، ومن هنا نفهم عناية اتفاق الطائف باعتماد اللامركزية الادارية الموسعة. والإنماء المتوازن للمناطق يفترض أمرين، دور أساسي للدولة في القيام بعملية الإنماء المتوازن يؤكد على وحدة الدولة والمجتمع ويؤمن التوازن بين المناطق والفئات الاجتماعية. ودور للمناطق في عملية الإنماء يؤكد على مشاركة المناطق من جهة، وتكتمل بها الخطة الإنمائية الموحدة الشاملة للبلاد من جهة ثانية. وينطوي هذا البعد الاقتصادي والإنمائي للامركزية على فكرة التضامن الاجتماعي وعلى فكرة العدالة اللتان تعتبران ركيزة أساسية من ركائز بناء الدولة ووحدتها والسلام الاجتماعي، فضلا عما تنطويان عليه من تعزيز وتحصين للعيش المشترك واستقرار النظام”.
وأشار إلى أن قرار الإنماء، هو قرار سياسي، وهذا يعني أنه من مسؤولية الدولة، وعلى عاتقها تقع عملية البناء والإعمار والإنماء، ولكن هذه العملية لا تكتمل إلا بمشاركة المواطنين جميعا ومختلف القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في تحمل هذه المسؤولية. ولفت إلى أنه لا يجوز إهمال البعد الاقتصادي في اللامركزية لأن هذا الإهمال يؤدي إلى التفاوت بين المناطق في حال عدم قيام السلطة المركزية بضبط عملية التنمية على المستوى الوطني.
وتحدث عن “تداعيات الظروف الاقليمية والدولية على مفهوم اللامركزية”، مشيرا إلى أن ما جرى ويجري على الساحة الاقليمية، وليس بعيدا عما يجري على الساحة الدولية، من احداث وتطورات أثرت على كيانات الدول ووحدتها السياسية في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، ووصلت إلى دول أوروبية، ما برر طرح هذا الموضوع، وما أثار الهواجس والمخاوف، حول تطبيق اللامركزية الادارية الموسعة في لبنان، وتعثر تحقيق هذا البند الاصلاحي الذي نص عليه اتفاق الطائف منذ ما يزيد عن العقدين من الزمن. وقال: “بعض الدول الاوروبية عرفت نماذج من الانظمة اللامركزية التي تجاوزت النطاق الاداري ولامست الحدود السياسية، وعرضت وحدة هذه الدول ومركزيتها للخطر، وعرفت في فقه القانون الاداري والسياسي باللامركزية السياسية او بنظام المناطق السياسية او بأنظمة الحكم الذاتي، وهي ما زالت تثير في هذه البلدان الكثير من المشاكل والمخاوف على وحدة الدولة وكيانها السياسي، وهذا ما دفع واضعو اتفاق الطائف عند البحث في اللامركزية الادارية على التأكيد على وحدة الدولة”.
وقال قباني: “أحاط اتفاق الطائف، الذي ركز على العيش المشترك وجعله جوهر وجود لبنان، وحدة الدولة وطبيعة النظام السياسي الديموقراطي البرلماني، بضمانات دستورية نص عليها الدستور اللبناني وفقا لهذا الاتفاق، شكلت حماية لميثاق العيش المشترك وتحصينا لوحدة الدولة، بحيث لا تسمح لأية تداعيات قد تحدث، اقليميا أو دوليا، على أن يكون لها أي أثر على مفهوم اللامركزية الادارية في لبنان او على مضمونها أو أبعادها، على النحو الذي تضمنه ورسمه اتفاق الطائف، فجاء في المادة الأولى من المقدمة على أن لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضا وشعبا ومؤسسات، وأن هذه الوحدة تتعزز بالانماء المتوازن، ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا”.
وشدد على أن اللامركزية الإدارية الإنمائية، من جهة، تعطي للأهالي حق المشاركة في إدارة شؤونهم الذاتية وتنمية مناطقهم، في إطار وحدة الأرض والشعب والمؤسسات، أي في إطار وحدة الدولة وقيام السلطة المركزية الجامعة بمسؤولياتها الوطنية، ومشاركة سياسية ديموقراطية حقيقية، من جهة ثانية، تقوم على مبادئ الحرية والحق والعدالة والمساواة في إطار نظام سياسي برلماني.
وختم قباني: “يتكامل الشأن الإداري الإنمائي الاقتصادي والشأن الدستوري السياسي، ليشكلا معا نواة دولة مستقرة ومزدهرة وآمنة”.