كمن يقف على خط الزمن يستمهله استراحة. زنّر الشهداء المكان فكان الطوق جمرًا وشتاء. الجمر حارق لكن غِمر المحبة يطفىء لهب اللحظة، الشتاء يبلل الوجوه الثياب الهندام المقاعد، كل شيء وأي شيء، طافت السماء على الحضور وكأن الشهداء ارادوا الإعلان عن حضورهم الشخصي المتدلي من السماء بحبال الشتاء، أتراهم كانوا هم ذاك المطر الذي لخبط الكثير في تلك الإحتفالية التي كانت لتكون استثنائية رائعة لجهة التنظيم، لولا ذاك الضيف المعطّر بايلول؟ اقول لم يكن مطرًا ماء نعمة طوفة ايلول وحسب، كان نثر ورد على رؤوس عرسان السماء، كان المطر زلغوطة الأمهات وهن يحتفلن بهؤلاء العرسان، ودبكة الاباء كانت بدأت فوق نعش أبيض يرقص ذبيحًا من الم، فصارت ترتيلة وأنشودة عنفوان وصرخة وطن لم يبق وطنًا الا لانهم شهدًا، لانهم هم الشهداء يا بلادي…
“انا ابني شهيد” صرخت ام احدهم، “انا ابني هون عم يتمشى حدّي انا شفتو، ليكي ايديه كيف مسحت الشتي عن وجي، راسي مرفوع مرفوع كتير، ليكي نقطة المي كيف بللت رموشي بس رموشي حاملين دمو ودمو بقلبي نهر ما بينشف الا تـ يسقي بلادو من هدير الكرامة ” وذهبت تحت المطر تصلي، يا خالتي خدي هالشمسية، “ابني مات تحت التلج بجرد عيون السيمان وهو طالع ع زحلة وانا بدي خاف من نقطين مي؟” ووقفت مع الكل تحت المطر تصلي، تغمض عينيها وتقفل قبضة يدها وتضمها الى صدرها وتناجي الغائب الحاضر، ثم تفتح عينيها تحت وابل مطر وهي تبتسم، هو يحادثها، بالتأكيد يفعل، خفت وابتعدت عنها، نظرت في وجوه امهات اخريات، آباء اخرون، يا الهي ذات الوجوه المبللة من وجوه الابناء، ذات البسمة حين يمسح الشهيد وجه من يشتاق اليه، نظرت الى الحكيم، لماذا تبتسم يا رجل وانت في حصار المطر؟! يا سخيفة، يا قليلة الايمان، هو في حوار مباشر مع رفاقه، مع البشير والكل…
بدأ الاحتفال تحت الشماسي، دخل كشافة الحرية مكشوفًا تحت السماء مباشرة، ينهمر المطر غزيرًا فوق رؤوس الصبايا والشباب، جنود اللحظة لم يبالوا، وكأن الشتاء نسمة عابرة، توجهوا الى المذبح يحملون البيارق، يخبطون الارض بدعسات ثابتة، نحن كشافة الحرية نحن الانتظام والايمان، شهداؤنا جابهوا عواصف الطبيعة والبشر وكانوا لأجلنا المتراس والقربان والذبيحة، ولتكن اول شتوة لهم عطر اللقاء، واكملوا الخطوات وكل خطوة ارض صلبة فوق ارض الايمان…
وقف الرفاق تلك الامسية تحت المطر، ومن قال المطر عدو؟ من قال المطر نقمة؟ من قال ان المطر سيؤخّر وصولهم الى اجمل اللقاءات على الاطلاق؟! حضروا وملاوا مقاعدهم، وبدل الهروب منه صفقوا له، صفقوا للمطر فرحًا جذلا كالاطفال، كمن يراه للمرة الاولى من طول غياب، نحن فقط نفعلها، نصفّق للمطر، نغني له انشودة ايلول، ونرقص رقصة الشتاء وتتكسر تحت اقدامنا حبيبات النعمة، يا الله اي رفاق هؤلاء، اي شهداء انتم يا رفاقي الذين لا اعرفكم بالوجوه، انما برابط الدم والاسماء وتلك الحكاية التي اقرأ واقرأ واقرأ عنها، واحاول ان اكتب بعضا من سطورها لأحشر نفسي في حكاية بطولة ما ولا استطيع، ومن انا لافعل اساسا، انتم شهداء وانا لست سوى قلما يسطّر بعضا من حالكم وكل حبي وفخري بكم ولا اكثر…
هدأ المطر فجأة حين انطلقت تلك الاغنية التي تروي سيرة المقاومة منذ يوحنا مارون حتى اللحظة، استكانت السماء قليلا على وقع حكاية المقاومة في الاغنية، شو هالغنيي الحلوة، “غنيي حلوة؟ يا بنتي هيدي مش غنيي هيدي صلا، هيدا نشيد، هيدا تاريخنا، ليكي ابني شو مبسوط ” مين ابنك يا عم؟ “كل هالاسامي المدروزين هون هني ابني، اقعدي حدي، وقفي التصوير بدو يحكي الحكيم” وحكى الحكيم، وجه رسائله في كل الاتجاهات، قاطع متل السيف، واضح كالشمس، ناصع كما الشهداء، محق كما القضية، انتقد الفاسدين، قل أنّبهم، وجه سهامه للمعطلين والطامعين والشغوفين بالسلطة على حساب لبنان وكرامته وتقدمه، واجه معرقلي تشكيل الحكومة مخاطبا الشهداء “انتو ما استشهدتو تـ نطمع نحنا بوزارة او بمنصب، انتو استشهدتوا كرمال الدولة ونحنا كرمالكن بدنا نكفي ببناء الدولة”، رفض التطبيع مع نظام بشار الاسد تحت حجة عودة النازحين ورفض عودة الاحتلال السوري من باب التطبيع والنازحين، ووجه رسالة انسانية عميقة لحزب الله “نحنا ما النا الا بلدنا وأرضنا وولادنا، رجعوا ع لبنان، رجعوا ع كل المستويات وبكل المعاني وبتلاقونا ناطرينكن”، لم يكن رئيس حزب يخطب في محازبيه، ولا رفيقا صديقا ابا اخا، كان رئيسا يحكي وجع بلاده بتلك البسمة الساخرة من حين لاخر، هي البسمة التي تغلّف وجع القلب، وجع الحكيم بلاده، قلبه الوطن، دقات القلب الشهداء، لم يكن خطابا في قداس شهداء، كان وطنا يتأرجح على ازماته الشديدة، يدور حول نفسه في المأزق، وجاء رجل يحكي ويحاول ان يداوي واذ بالجحيم يفتح كل ابوابه في وجهه. لم اكن استمع الى سمير جعجع رئيس القوات اللبنانية، استمعنا الى مسؤول وطني كبير عابر للطوائف والمذاهب، ازمته الوحيدة وطنه، حبه الوحيد وطنه ، خوفه الوحيد الكبير اللامتناهي وطنه، وأنسأل بعد عن عيانة في ايلول اختارت قداس الشهداء لتبللنا بالحب، والشهداء من حولها في رقصة المطر ينشدون وطنا لاجله صاروا هم وطن القديسين والشهداء؟ ترنختوا بهالقداس؟ إي يا ستي وقرّب ليي شهيد ورجعني ع البيت مبلولة بالكرامة…