“المسيرة” – “كرمالكن” مكملين

حجم الخط

 

 

كتبت جومانا نصر في مجلة “المسيرة” – العدد 1678:

إلى موعد القداس السنوي في معراب انطلقنا لنتلاقى ونتحد بالصلاة مع أرواح شهدائنا في المقاومة اللبنانية. لكن هذه السنة سبقونا ليكملوا حكاية المجد والكرامة والبطولة.

كثر راهنوا على تأجيل الموعد بسبب الطقس الماطر، وكثر افترضوا أن الطريق إلى معراب في يوم قداس الشهداء ستكون مكللة بضبابية الفراغ والصمت بسبب الطقس والأمطار لكنهم نسوا أو لعل ذاكرتهم لم تحفر في ثناياها صور الشهداء الذين كانوا يقاتلون دفاعا عن وجودنا، عن وجودهم تحت المطر ومنهم من طمرتهم الثلوج وعادوا بأكاليل الغار إلى مثواهم الأخير.

خانتكم الذاكرة؟ نحن لا ولم تَخُنَّا يوما. إن ننسى لا ننسى والمشهد على الطريق المؤدية إلى معراب وفي الساحة التي سبقنا إليها الشهداء هذه السنة كانت كفيلة في إحداث صدمة إيجابية لكل المشككين والذين راهنوا على  أن الحلم انتهى… لا ما انتهى. كرمالكون في كل سنة نحضر هذا القداس بكل فخر وسرور إلا اننا هذه السنة نأتي فخورين مسرورين وراضين أيضا. راضون لأننا وعلى الرغم من نضالاتنا وتعبنا وكدّنا وتضحياتنا فهذه المرة الأولى التي نشعر فيها أننا أوفينا لكم جزءا ولو صغيرا من حقكم. كل ما نقوم به «كرمالكن» ومهما فعلنا سنبقى نشعر بالتقصير تجاهكم». بهذه الكلمات توجه رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع إلى الشهداء في مستهل كلمته التي كانت أشبه بخطاب رئاسي. كلمة عبقت فيها كل الكلمات التي اختصرت مواضيع الساعة على الساحتين السياسية والإقليمية. أما المواقف المتعلقة بتشكيل الحكومة والتطبيع مع سوريا والحصص الوزارية فوضعت النقاط على الحروف ومن له آذان فليسمع.

تحت وابل أمطار أيلول دخلت الحشود الساحة. حراس الساحات «ما ناموا من 24 ساعة». رجال الأمن والتنظيم الموزعين على الطرقات والمواقف المخصصة لنقل المدعوين وأهالي الشهداء كلهم كانوا هناك منذ ساعات الصباح الأولى. حتى أفواج الكشافة الذين وصلوا إلى معراب منذ السابعة صباحا لم يرف لهم جفن تحت وابل الأمطار. «قبل بليلة طلبنا من كل الأفواج إنو اللي مش مستعد يكمل معنا يصرّح عن ذلك وينسحب لأنو بس نوصل ع الساحة بكرا ما في مجال لخط العودة إلا بالحالات الإستثنائية. وكانت المفاجأة إنو ما حدا قرر ينسحب. صلينا المسبحة سوا ونمنا». ويستعيد قائد فوج كشافة الحرية جبرايل جعجع بعضا من الحوارات التي دارت بينه وبين عناصر الكشافة الذين لم تتجاوز أعمار البعض منهم السابعة»، سألتن: مين في ببيتو شهيد. وكانت المفاجأة إنو الكل رفعو إيدين. يمكن ما يكون شهيد من نفس البيت بس الكل، الكل في بقلبو أو ذاكرتو شهيد. بس شفت هالمشهد قلتلّن كرمالن بكرا بدنا نصلي وبدنا نوقف تحت الشتي لأنو هني ما سألوا عن حياتن وكانوا عم بيقاتلوا دفاعا عن وجودنا تحت الشتي والبرد والتلج والشمس الحارقة… والليلة وكل ليلة بدنا نصلي المسبحة كرمالن تا نكون مستحقين وأوفيا لعظمة شهادتن اللي تعمدوا فيا تا نبقى. وهيك صار».

لحظة دخول الدكتور جعجع الساحة انهمرت الأمطار. لعلها دموع أمهات الشهداء التي كانت تتساقط على أرواح فلذات أكبادهن، لتعمدنا نحن الواقفين في ساحة الشرف بالكرامة والعنفوان. حاول أحد رجال الأمن أن يواكبه بالمظلة، لكنه أصر أن يصل إلى المقعد المخصص له تحت المطر. «هيدا المشهد زاد رفاقنا بكشافة الحرية عنفوان وصلابة، وخبطة قدمهن ع الأرض كانت أكثر من هدارة»، يقول جعجع.

«كرمالن» كان فعلا محطة تاريخية هذه السنة واستحقت المناسبة شرف الشعار. حتى موكب الكهنة والرهبان كان لافتا ومميّزا لحظة دخولهم الساحة حيث مشوا تحت المطر وصولا إلى المذبح الذي تميّز هذه السنة بديكور روحاني لافت. «كرمال هالشباب والصبايا اللي واقفين بالساحة تحت الشتي والعواصف، كرمال  أمهات الشهداء اللي حاملين تعب ووجع وحزن العمر ع كتافن وواقفين تحت الشتي، كرمال هالأطفال والكشافة اللي إلن من الصبح تحت الشتي، وكرمال كل شباب الأمن والقوى الأمنية، كرمال شهداءنا، بدنا نطلع صف واحد تحت الشتي متلنا متلن وهيك صار». قالها أحد الكهنة. «عشت يا أبونا» .

«كرمالكن» ما كان مجرد شعار هذه السنة. حتى الطبيعة انحنت إجلالا كرمال أمهات الشهداء اللواتي حضرن مثقلات بهموم العمر والفراق والحزن والوجع على فلذات أكبادهن. «كرمالكن» كان الرهان على تحدي كل ظروف الطبيعة التي عكست حقيقة إنو مش هينة تكون «قوات». ونجح الرهان. «كرمالكن» وكرمال كل نقطة دم شهيد وإسم حفر على لوحة الكرامة لم يسأل طفل أو شاب أو صبية أو رجل أمن عما سيكون حاله في اليوم التالي. «بس كانوا ينزلوا هالشباب ع ساحات القتال كانوا سئلانين عن شتي أو تلج أو شوب؟ ليش بدنا نسأل اليوم؟» هو لسان حال الجيل الطالع المعمّد بعنفوان القضية وعصب «القوات». هذا العصب الذي تفجر بعد انتهاء القداس الذي ترأسه مدبر عام الرهبانية اللبنانية المارونية الأب طوني فخري ممثلا صاحب الغبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي وعاونه لفيف من الكهنة من خلال المشهدية التي بدأ العمل عليها قبل أشهر عديدة وتضمنت نشيدا تكريميا للشهداء مقسما إلى أربعة أجزاء يجسد الجزء الأول منه مجد لبنان والحقبة الزمنية التي بدأت مع مسيرة مار يوحنا مارون إلى العام 1975. والجزء الثاني بعنوان»عيون ما بتنام» ويحاكي الحقبة الزمنية الممتدة من تاريخ 13 نيسان 1975 بداية الحرب اللبنانية إلى حين تسلم الدكتور سمير جعجع قيادة الحزب. أما جزء «توحّدوا الرايات» فيحاكي الحقبة الزمنية الممتدة من تاريخ تسلّم الدكتور سمير جعجع قيادة «القوات اللبنانية» مرورا بمرحلة الإعتقال إلى حين الإفراج عنه عام 2005. والجزء الرابع والأخير بعنوان «تاريخ ما بيخلص» ويحاكي الحقبة الزمنية الممتدة من تاريخ خروج الحكيم من المعتقل إلى الحقبة الزمنية الحالية التي يعيشها لبنان.

الفكرة وقعها رئيس جهاز الأنشطة في حزب «القوات اللبنانية» إيلي يحشوشي والكلمات للشاعر نزار فرنسيس وغناء التينور إيليا فرنسيس والفنانة ريتا بو صالح. والمقدمة مستوحاة من نشيد «القوات» للفنان الياس الرحباني والقطعة الكلاسيكية لـ»شايكوفسكي». وتولى جهاز الأنشطة تنفيذ الديكور وترجمة أفكار الفكرة التي اجتمعت في نشيد اختصر كل الحقبات وعظمتها.

المشهد في طريق العودة لم يكن أقل عظمة. أمهات الشهداء عدن مع صور فلذات أكبادهن المبللة بدموعهن ودموع الطبيعة التي أبت إلا أن تشاركهن عظمة تلك المناسبة.. كرمالن قطعن المسافات سيرا على الأقدام بملابسهن السوداء المبللة بأمطار العز والعنفوان وصولا نحو الباصات التي أقلّت أهالي الشهداء من الموقف الذي خصص لهم في جونية قرب كازينو لبنان. أطفال رجال شبان وشابات وزراء نواب مسؤولون كلهم عادوا مبللين بأمطار الكرامة ولم يسألوا. وكرمالكن.. مكملين!

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]

 

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل