رهبانية أقوى من الحلّ في زمن الإضطهاد

حجم الخط

كتبت “المسيرة” – العدد 1692

رهبانية أقوى من الحلّ في زمن الإضطهاد

البابا فرنسيس: وإن كنا قليلي الإيمان فربّنا سيخلّصنا

 

احتفل الحبر الرومانيّ البابا فرنسيس مع اليسوعيّين بليتورجيا شكر خاصّة أُقيمت في كنيسة «يسوع» el Jesu في روما يوم السبت السابع والعشرين من شهر أيلول 2014 لمناسبة الذكرى المئويّة الثانية على إعادة تأسيس الرهبانيّة التي ينتمي إليها، الرهبانيّة اليسوعيّة.

فقد تمّت إعادة تأسيس الرهبانيّة اليسوعيّة في السابع من آب العام 1814. لكنّ السابع والعشرين من أيلول هو موعدٌ آخر عزيز على قلب كلّ يسوعيّ. ففي مثل هذا اليوم من العام 1540صادق البابا بولس الثالث على مرسوم تأسيس رهبانيّتهم، وأبصرت جمعيّة رفاق يسوع النور بشكلٍ رسميّ حينها. وفي ما يلي نصّ العظة الكاملة كما وردنا نشرتها راديو الفاتيكان:

 

إخوتي ورفاقي في الربّ،

لقد عاشت رهبانيّتنا الّتي تحمل اسم ربنا يسوع أيّامًا عصيبة من الاضطهاد. وخلال قيادة الأب لورينزو ريتشي، «نجح أعداء الكنيسة في الحصول على أمر حلّ الرهبانيّة اليسوعيّة (البابا يوحنا بولس الثاني إلى الأب بيتر هانس كولفنباخ، 31 تموز- يوليو 1990) من خلال خليفتي إقليمنضُس الرابع عشر. واليوم، في ذكرى إعادة تأسيسها، نحن مدعوّن لنستعيد ذكرياتنا، مدعوّون لنحصد الفوائد التي أُنعِمَ بها علينا، بل والنِعَم الخاصّة بنا (ر.ر 234) وأنا أرغب القيام بهذا الحصاد معكم اليوم.

 

في زمن الضيق والفِتن، تملأ الأجواء سحابات من غبار الشكّ والمعاناة. فيصعب علينا حينها أن نتقدّم ونتابع المسيرة. تعصف بنا تجارب كثيرة، خصوصًا في زمن الضيق والمصائب: فنكفّ عن الحوار، ونسمح لأنفسنا بأن تنساق برياح الفتور واليأس، فنركّز جلّ تفكيرنا على حقيقة أنّنا مضطهَدون، ولا نرى الآخرين حولنا. في قراءتنا لرسائل الأب ريتشي، شدّني أمرٌ ما، وهو قدرته على تجنّب حقيقة أن يكون مهمّشًا بهذه التجارب الّتي عصفت برهبانيّته، وأن يوجّه اليسوعيّين، في ذلك الوقت العصيب، وفق رؤية أصّلتها في روحانيّة الرهبانيّة اليسوعيّة بشكلٍ أكبر.

 

لقد عضد الأب الرئيس العامّ السابق ريتشي اليسوعيّين ودعاهم إلى التمسّك بعضويّتهم في جسم الرهبانيّة ورسالتها بواسطة كتاباته في زمنٍ اشتدت فيه المِحن، وتعالت سحابات الشكّ أكثر فأكثر. وهذا أكثر ما أدهشني. ففي وقت الاضطراب والارتباك قد قام بتمييزٍ عميق. ولم يضيّع الوقت في مناقشة تلك الأمور الزائفة والشكوى، بل أخذ على عاتقه مهمّة الحفاظ على دعوة الرهبانيّة ورسالتها.

وقد قاد هذا الموقف اليسوعيّين كي يختبروا موت ربّنا وقيامته، إذ واجهوا حقيقة أنّهم سيخسرون كلّ شيء، حتّى هوّيّتهم العلنيّة. ومع ذلك لم يقاوموا مشيئة الله، ولم يقاوموا الصعوبات في محاولة لإنقاذ أنفسهم. فقد اختبرت الرهبانيّة – وهذا هو اللافت للنظر- الصراع حتّى النهاية من دون محاولة التقليل من شأنه. لقد اختبرت الرهبانيّة المهانة مع المسيح المُهان، وأطاعت حتّى الموت. لن تستطيع أن تخلّص ذاتَك من الصراع بواسطة المكر والمراوغة وحيل المقاومة. ففي خضمّ الصراع والمعاناة، آثرت الرهبانيّة اليسوعيّة أن تميّز مشيئة الله، من دون التملّص من الحقيقة المرّة بطرائق تعكس السلام الداخليّ الّذي عاشته.

لم يكن الهدوء التامّ ما يُريح قلوبنا ويشبعها، بل السلام الحقيقيّ الّذي ينعم به الله علينا. على المرء ألّا يسعى وراء المساومات السهلة ولا حتّى التبريرات السطحيّة. وحده التمييز يحفظنا من اقتلاع جذورنا بشكلٍ فعليّ، من «الحلّ» الفعليّ لقلوبنا، الّذي قد يضربها من خلال الأنانيّة واتّباع العالم وفقدان بوصلتنا. ليكن رجاؤنا في المسيح، وفي المسيح وحده. لذلك اعتزّ الأب ريتشي وباقي الرفاق بتاريخهم بدل أن يندبوه، عالمين أنّ الحبّ وحده قادر أن يحاكم التاريخ، والرجاء أكبر من توقّعاتنا حتّى في أحلك الظلمات.

 

يتوجّب علينا القيام بالتمييز بنيّةٍ صالحة، ورؤية بسيطة. ولهذا السبب ذكر الأب ريتشي خطيئة اليسوعيّين في زمن الارتباك والحيرة حينها. فلم يدافع عن نفسه، أو أدّعى أنّه ضحيّة التاريخ، بل اعتبر نفسه أولاً وأخيرًا خاطئًا. في هذا الموقف بالذّات، الموقف الّذي ينظر الشخص إلى ذاته ويعتبرها خاطئة، يتجنّب وضع نفسه في موقف يقوم على قطبيّة الضحيّة والجلّاد. عندما نتصالح مع ذواتنا، ونعرف أنفسنا أنّنا خطأة، حينها نضع ذواتنا في الموقف الصحيح كي نتلقّى نِعَم التعزية من الرّوح القدس.

 

نستطيع أن نراجع مسيرة التمييز والخدمة هذه باقتضاب، تلك الّتي قاد من خلالها الأب ريتشي الرهبانيّة اليسوعيّة في أحلك الأزمنة الّتي مرّت بها. ففي العام 1759، دمّرت مراسيم «بومبال» الأقاليم البرتغاليّة التابعة للرهبانيّة اليسوعيّة. لكنّ الأب ريتشي آثر عيش الأزمة على اللجوء إلى الشكوى والسقوط في فخّ الإحباط. فقد طلب الصلاة من أجل الروح الصالحة، الروح المتسامية الّتي تقود كلّ دعوة صالحة، والطاعة الكاملة لنِعَم الله. وفي العام 1761، تقدّمت عاصفة الاحتجاجات ضدّ الرهبانيّة في فرنسا. حينها سأل الأب ريتشي أن نولي ثقتنا للرّب فقط. فقد أراد أن يطاوع وقت الشدّة ليكون زمن تنقية وشفاء داخليَّين في قلب الرهبنة اليسوعيّة. فمن شأن هذه الظروف أن تقودنا نحو الله، ونستطيع حينها أن نخدم مجده الأعظم. وأوصى دومًا بالصلاة، والسعي نحو حياة القداسة، وعيش التواضع وروح الطاعة. وفي العام 1760، عندما طُرِد اليسوعيّون الاسبان، تابع الأب ريتشي دعوته للصلاة. وأخيرًا، في 21 شباط «فبراير» العام 1773، قبل ستة أشهر فقط من حلّ الرهبانيّة، وفي اختباره العوز لكلّ عونٍ بشريّ، رأى يد الله الرحيم معه، الّتي دعت الّذين خضعوا للاختبار كي لا يثقوا إلّا بالله. على الثقة أن تنمو بشكلٍ خاصّ عندما تطرحنا الظروف أرضًا. فقد أولى الأب ريتشي غاية الرهبانيّة في تحقيق مجد الله الأعظم وخلاص النفوس المقام الأوّل في فترة رئاسته.

 

وبقيت الرهبانيّة اليسوعيّة، على رغم أنّها واجهت حلّها، أمينةً للغاية الّتي من أجلها وُجدَت. لذلك وجّه الأب ريتشي نداء لجميع اليسوعيّين، كي يحافظوا على روح الخدمة، والوحدة، والطاعة، والصبر، والبساطة الإنجيليّة، والرفقة الحقيقيّة للرّب. فكلّ شيء ما عدا ذلك هو فانٍ. فالشعلة الّتي ما زالت مضّطرمة في قلوبنا، والّتي تسعى لتحقيق مجد الله الأعظم، تلّفنا لتمحّصنا، وتنقّينا من كلّ تهاون، وتجعلنا نركّز على الغاية الأسمى الّتي من أجلها خُلقنا. فتارةً تجعلنا ننتشر، وتارةً أُخرى تقلّص من حجم رسالتنا وفق ما يراه الرّب لصالح كنيسته ورهبانيّته الصغيرة.

 

وعلى هذا النحو اختبرت الرهبانيّة اليسوعيّة الحلّ غير العادل، واعتبرته ذبيحة سألها الرّب أن تقدّمها، وعلى لسانها نشيد طوبيّا، فتضرّعت بقلبٍ منسحق: «عادِلٌ أَنتَ، يا ربّ وأَعْمالُك كُلُّها عادِلَة وطُرُقُكَ كُلُّها رَحمَةٌ وحَقّ. أَنتَ تَدينُ العالَم. فاذكُرْني الآنَ، يا ربُّ، وانظُرْ إِلَيَّ ولا تُعاقِبْني على خَطاياي ولا على جَهالاتي وجَهالاتِ آبائي. لِأَنَّنا خَطِئْنا إِلَيكَ ولَم نُطِعْ وَصاياكَ. فأَسلَمتَنا إِلى النَّهْبِ والجَلاء والمَوت إِلى الأُحْدوثَة والأضْحوكَةِ والشَّتيمة في جَميعَ الأُمَمِ الَّتي شَتَّتَّنا بَينَها.» ويُختتم هذا النشيد بالطلب الأهمّ: «لا تعرِضْ، يا ربّ، بَوَجْهِكَ عنِّي». (طوبيّا 3: 1-4،7د).

بعدها أرسل الله روفائيل ليُزيل الغشاوة البيضاء من عينيّ طوبيّا، كي يرى مجدّدًا النور الإلهيّ. الله حنون شفوق، وتاجه هو الرحمة… الله محبّة، فهو يحبّنا ويُخلّصنا. الطريق المؤدّية إلى الحياة تبدو أحيانًا ضيّقة ووعرة، ولكن إن عشنا المحنة في ضوء الرحمة الإلهيّة فهي تنقّينا بنارها، وتهبنا التعزيات، وتُلهب قلوبنا، وتحبّبنا الصلاة.

 

وقد ألهبت الروح قلوب رفاقنا في زمن الحلّ بالحماسة، وخدمة ربّنا، فملأتهم بفرح الرجاء، وثبّتتهم في الشدائد، وساعدتهم في المواظبة على الصلاة (راجع الرسالة إلى أهل روما 12: 13). وهذا شرفٌ لرهبانيّتنا، لكنّنا لا نمدح فضائلها هذه، إذ هذا واجبٌ وحقٌّ علينا على الدوام.

«لنتذكّر تاريخنا، فرهبانيتنا لم توهَب نِعمة الإيمان بربّنا وسيدنا يسوع وحسب، بل أن تتألّم معه أيضًا من أجل تحقيق قصده (الرسالة إلى أهل فيليبي 1: 29) ونحن بدورنا نتذكّر ذلك بشكلٍ جيّد».

 

إنّ سفينة الرهبانيّة اليسوعيّة قد تقاذفتها الأمواج في مسيرتها، وهذا ليس بمدعاةٍ للاستغراب. فسفينة بطرس هي أيضًا تتقاذفها الأمواج اليوم. وقِوى الظلام قريبة منّا على الدوام، والتجذيف بهذه السفينة لطالما كان صعبًا ومُتعبًا. وعلى اليسوعيّين أن يكونوا خبراء وشجعان في التجذيف (البابا بيوس الخامس): جذّفوا إذًا! جذّفوا وكونوا أقوياء، حتّى وإن كان هذا العمل ضدّ مجرى الرياح. فنحن إن جذّفنا نقوم بهذا لخدمة الكنيسة. جميعنا نجذّف! نحن نجذّف، ونجذّف معًا، حتّى البابا يجذّف مع سفينة بطرس… وعلينا أن نصلّي كثيرًا ونقول: يا ربّ انقذنا! يا ربّ انقذ شعبك». فربّنا، وإن كنّا قليلي الإيمان، سيخلّصنا. ليكن رجاؤنا في المسيح! لنرجو المسيح دومًا!»

 

لقد أعاد سَلَفي البابا بيوس السابع تأسيس رهبانيتنا، فكانت الرهبانيّة حينها مكوّنة من رجالٍ شجعان متواضعين في شهادتهم للرجاء، والمحبّة، والابداع الرسوليّ… وهذا ما قاد البابا بيوس السابع إلى طلب إعادة تأسيس جمعية رفاق يسوع، كي يدعم رسالته لتلبية حاجات العالم المسيحيّ بشكلٍ دائم، دون تفرقة بين عرقٍ أو أمّة. لذا، سمح لليسوعيّين الّذين ظلّوا حتّى عهده في شتات العالم – والشكر يعود للممالك اللوثريّة والأرثوذكسيّة- كي يتوحّدوا مُجدّدًا في جسمٍ رسوليٍّ واحد.

 

ونظّم الرهبان اليسوعيّون أنفسهم على الفور، ووضعوا رهبانيّتهم الصغيرة في تصّرف الكرسي الرسوليّ، وبسخاء «تحت راية صليب ربّنا يسوع المسيح، ونائبه على الأرض». (الصيغة التأسيسيّة، 1). وواصلت الرهبانيّة اليسوعيّة نشاطها في الوعظ، والتعليم، والخدمات الروحيّة، والبحوث العلميّة، والعمل الاجتماعيّ، والعناية بالفقراء والمتألّمين والمهمّشين.

 

واليوم، تعمل هذه الرهبانيّة تحت وطأة الظروف المأساويّة الّتي يواجهها اللاجئون والنازحون بحرصٍ واجتهاد، فتسعى بروح التمييز والفطنة الروحيّة التوفيق بين الخدمة والإيمان، وتعضيد العدالة وفق التعاليم الإنجيليّة. وأنا اليوم أوكّد توجيه سَلَفي البابا بولس السادس في المجمع العامّ الثاني والثلاثين، الّذي سمعته بنفسي حينها: «في أيّ مكانٍ في الكنيسة، حتّى في أصعب المواقف وأكثرها تحدّيًّا، في مفترق الطُرق بين الإيديولوجيّات المتصارعة، في المواجهات الاجتماعيّة… في كلّ مكان مازالت فيه رغبات البشر تواجه رسالة الإنجيل الحيّة، كان وسيكون هناك يسوعيّون للخدمة».

 

في العام 1814، في زمن إعادة التأسيس، كان اليسوعيّون قطيعًا صغيرًا «رهبانيّة صغيرة» [بحسب وصف القدّيس إغناطيوس دي لويولا مؤسّس الرهبانيّة. لكنّها عرفت كيف تستثمر، بعد خبرة الصليب، في الرسالة الأعظم، ألا وهي نشر نور الإنجيل حتّى أقاصي الأرض. هذا الشعور الّذي يتوجّب علينا أن نختبره: «مشتّتين للرسالة». إن هوّيّة اليسوعيّ، هي أن يحبّ الله، ويحبّ أخاه ويخدمه، فلا يُظهر المثل بما يؤمن وحسب، بل بمن يرجو، وبمن يضع ثقته وإيمانه المُطلقَين (راجع الرسالة الثانية إلى طيموتاوس 1: 12). إذ يرغب اليسوعيّ بأن يكون رفيق يسوع، وأن تسكنه مشاعر المسيح نفسها.

 

إنّ البراءة البابويّة التي وقّعها سَلَفي البابا بيّوس السابع، والّتي أعاد من خلالها تأسيس رهبانيتنا في بازيليك «مريم الكبرى» في السابع من آب أغسطس العام 1814، هو المكان نفسه الّذي أحتفل فيه أبونا المقدَّس إغناطيوس بأوّل قدّاس له، عشيّة عيد الميلاد العام 1538. والآن نسأل سيدتنا، وشفيعة رهبانيّتنا مريم العذراء، أن ترعى جهودنا في خدمة ابنها الوحيد، فتحفظنا وترعانا على الدوام.

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل