كتب د. وائل خير في “المسيرة” – العدد 1694
مار نصرالله بطرس صفير
بطريرك الحرية
لم يكن اللقاء الأول واعدًا. كان الى الخيبة أدنى.
بعيد اعتلائه السدّة طلبنا مقابلة مع غبطته للتعارف وتقديم أنفسنا كمدافعين عن حقوق الإنسان. عيّن المونسنيور ميشال عويط لنا موعدًا قريبًا. كان قرب الموعد بداية طيّبة تفاءلنا بها.
حرصنا أن نكون في الصرح في الوقت المحدد. قادنا المونسنيور عويط بهدوء الى مدخل القاعة الكبرى.
اشار لنا بيده للدخول والإنتظار ثم توارى. أخذنا أماكننا عن يمين ويسار الكرسي البطريركي وانتظرنا ونحن شاخصون الى مدخل القاعة الرئيسي حيث خيّل لنا أنه سيدخل منه منتصب القامة بأبّهة وجلال مسرحي كعادة رؤساء الكنائس، غير أن بابًا جانبيًا على الطرف الجنوبي من القاعة يفتح من دون صوت ويدخل منه البطريرك متجهًا نحو كرسيه. كان متوسط الطول بل الى القصر أدنى، ثم إنه كان منحني القامة مطرقاً أثناء توجّهه نحو مقعده. فإن رفع نظره، جال في الحضور بنظرة خاطفة فيها خفر مع شيء من الضيق كأني به يقول «أتمنى لو تركوني وشأني. ما لي ولمشاكلهم.»
وقفنا عند دخوله وتوجهنا إليه لإلقاء السلام وتقديم أنفسنا. جلس بعدها وعقد أصابع يديه على وسطه واستعدّ لسماع ما جئنا له. عرضنا عليه أوضاع حقوق الإنسان في لبنان وانتهاكات السلطة لها. إلتزم الصمت وكان من حين لآخر يحرّر أصابعه ويحرّك يمناه قليلاً الى اليمين ويسراه قليلاً الى اليسار كأنه يقول «مع الأسف لا يمكن فعل شيء.»
ظهر المونسنيور عويط أمام باب القاعة ثانية، فعلمنا أن اللقاء قد انتهى. إستودعنا غبطته فنهض ورافقنا الى منتصف القاعة وعاد أدراجه فيما استمرّينا نحن في الإتجاه المقابل. لا أذكر أني وزملائي تبادلنا إنطباعاتنا. ليس في تلك المقابلة ما يستدعي التعليق. قدرنا أن يكون على رأس الكنيسة في أحلك ظروف لبنان شخص على هذا الضعف وعدم الإكتراث.
أثبتت الأيام كم كنا على خطأ. كان للبطريرك طريقته الخاصة في التنديد بما يعتبره إنتهاكات لحقوق الإنسان. لم يكن صاخبًا في دفاعاته بل سعى وراء إحقاق الحق بهدوء لكن بفعالية. حسبك أن تتذكر أنه في ميلاد 1996 أقفل البطريرك أبواب الصرح رافضًا تقبّل التهاني بالعيد للمرة الأولى في تاريخ البطريركية. كان القرار موجهًا للمسؤولين وسائر أولياء القرار من سوريين ولبنانيين، بسبب الإعتقالات الواسعة في صفوف الشباب الذين غصّت بهم سراديب وزارة الدفاع. قال لي غبطته لاحقاً إن عددهم فاق 1200 شخصًا، الرقم الذي رفعه كهنة الرعايا الى الصرح.
لم يطل الوقت حتى ثبت للجميع أنَّ إنْ كان للمظلوم ملاذاً، فذاك هو البطريرك صفير. حتى أهالي الأصوليين الإسلاميين من الضنّية وطرابلس وبيروت الذين لم تنصفهم الجهات القضائية اللبنانية بل احتجزتهم لسنوات من دون أن تقوم حتى بالتحقيق معهم، إنسابوا مرارًا الى بكركي يستجيرون بالبطريرك صفير على ما شاهدت بعيني وتولّت وسائل الإعلام بثّه المرة تلو الأخرى.
من أبرز ما صدر عن البطريرك تصريح أحدث دويًا كبيرًا حمل الكثيرين من المسؤولين الى التقاطر على بكركي للإستيضاح. أعلن البطريرك «أننا مع العيش المشترك القائم على الحرية. لكن إن وضعنا ازاء الخيار بين الحرية والعيش المشترك، إخترنا الحرية». هذا تصريح على درجة كبيرة من العمق النظري والجدوى العمليّة. ثمة تمييز بين الإطار والمحتوى، بين الجوهر والعرض أو بين «النفس والعالم» إن استعرنا تعبير المسيح. الجوهر أهم من الشكل. هل من حكيم يرمي باللؤلؤة ليحتفظ بالصدفة؟ ثم من الناحية العمليّة على كل المسؤولين عن مكوّنات العقد الاجتماعي اللبناني أن يتقّيدوا بهذه الضوابط. إن لم يقم العقد بينهم على المساواة والحرية وسائر مقوّمات الدولة الحديثة، يفقد العقد معناه ويتداعى مبناه. فإن استمر النظام من دون ذاك الجوهر، تحول العيش المشترك الى عقد عبودية وتبعيّة. أليست العبودية عيشاً مشتركاً بين العبد والسيّد؟ قيمة العيش المشترك ليست بشكله الخارجي، بل بالقيم التي يقوم العيش المشترك عليها.
على الرغم من توالي السنين على قول البطريرك صفير هذا، ما يزال حيًا في صدور كل من ذكرته لهم، حتى أن الكثير يقاطعونني ليتلوه بحرفه. كأن «الناس يحفظونه مثل الأبانا». أرى فائدة كبيرة لجميع اللبنانيين إن استعادوا هذا القول وأكثروا من ترداده، إذ هو سبيل الى الحيلولة دون استئثار مكوّن من مكوّنات لبنان بحقوق ليست لهم.
من مظاهر شخصيّة البطريرك صفير أيضًا تفهّمه للنكتة. سأبسط إثنين منها جرتا بحضوري والثالثة رويت لي. كنت أنتظر موعدي مع البطريرك صفير في الصالون المحاذي للقاعة الكبرى. أثناء الإنتظار قدّمت الضيافة لي. بعد دخولي القاعة الكبرى بقليل مر بي ثانية حامل القهوة. اعتذرت وقلت «شكرا شربت أثناء الإنتظار.» إلتفت إليّ البطريرك وقال: «أش عليه؟ خد لك فنجان تاني». قلت لغبطته: «سيدنا كيف طالع عليكم هالصيت إنتو أهل كسروان؟» فضحك البطريرك.
المرة الثانية كانت في خضمّ الأوضاع الصعبة التي مرت على المسيحيين في لبنان. قرأنا في الصحف أن مؤتمرًا سياسيًا ودينيًا سوف يعقد في الفاتيكان للتداول بشأن لبنان. ذكرت الصحف أعضاء الوفد الذين، باستثناء البطريرك، كانوا ممن لم يؤثر عنهم إهتمامهم بمستقبل المسيحييّن. وضعنا كتاباً ووجهناه الى غبطة البطريرك لم يخلُ من قسوة افتتحناه باقتباس من سفر أرميا الذي ينتقد بشدة رجال الدين. حملت الكتاب الى بكركي وأودعته لدى المونسنيور عويط. نتائج المؤتمر كانت أبعد ما تكون عن توقعاتنا. لا شك أن براعة البطريرك كانت وراء ذلك التبدّل. أخذنا موعدًا مع البطريرك ضّم جميع موقّعي الخطاب. وفي حضرة البطريرك أبديت الإعتذار من غبطته لتسرّعنا بالحكم وللإستعارات التي استلّيناها من سفر أرميا. ثم التفت الى الحضور وقلت: «الآن تتوجهون واحدًا واحدًا الى سيدنا، تقبّلون يده وتعتذرون منه، خاصة أنت يا بيار عطاالله». ضحك البطرك لقولي طويلا.
الإشارة الثالثة لحب البطريرك للنكتة جرت بينه وبين الأب أنطون حدّاد كاهن غزير الذي جمعته به صداقة عمر، إذ ربما كانا زميلي دراسة. دعا البطريرك الأب حداد الى الغداء يومًا في بكركي. بعد الفراغ من الطعام قال البطريرك للأب حداد «قوم يا بونا أنطون نتمشّى شوي». أجابه الأب حداد: «عشو المشي يا سيدنا؟ قد ما الغدا كان ثقيل؟»، اذ المعروف عن البطريرك تقّشف في المأكل والمشرب والملبس والسيارة والموكب وكل ما تعلّق بالحياة الدنيا. كان البطريرك صفير وما زال، يعيش الحياة الرهبانية التقليدية التي اشتهر بها رهبان الكنيسة المارونية.
لكن السمة الأبرز في شخصية البطريرك صفير، مد الله بعمره، هي ليست في أي مما ذكرنا. إنها الحيّز الأقل شهرة من شخصه، إنه صفير اللاهوتي. لا يعبأ الإعلام بالجانب اللاهوتي من شخصية البطريرك صفير، ذلك أن القرّاء والمشاهدين ينشدّون الى مواقف البطريرك من الأمور المباشرة ذات الطبيعة السياسية. من شاء التعرّف إلى الجانب اللاهوتي من شخصيته، وبكامل قناعتي هو الجانب الأكثر إشراقا من دون التقليل من رفعة الجوانب الأخرى، عليه أن يقرأ مجموعة «عظة الأحد. خواطر روحية ومواقف وطنية». يقف القارئ على سياق يكاد لا يختلف في كل عظة من عظات البطريرك. في كل منها سياق ثلاثي: حدث غالبا ما يكون سياسيا، تفسير هذا الحدث على ضوء الكتاب بعهديه القديم والجديد، واختتام العظة بربط الحدث وتفسيره الكتابي بالرجاء المسيحي»؟
يقول البطريرك في عظة له من الديمان في 16 تموز 1989 «لا يسرج سراج ويوضع تحت سرير، بل على مسرجة، ليرى الداخلون نوره. نردد هذا القول الكريم عندما نغوص بالنظر في أعماق هذا الوادي المقدّس الذي كان، منذ صدر النصرانية، آهلا بالحبساء والنسّاك والمطارنة والبطاركة الذين كانوا، في عهودهم، سرجًا مضيئة، لم توضع تحت أسرّة بل على منارات، وظلّت مضيئة في مهب العواصف ووسط المحن والنكبات. وهم الذين اعتصموا بهذه الأودية وتوطّنوا في هذه الجبال، وحفظوا الإيمان ونقلوها إلينا ليبقى الشعلة التي تضيء الطريق عندما تكتنفنا الظلمات، على ما هي عليه الحال اليوم. وظلّت الى جانب شعلة الإيمان شعلة الحرية متقدة في هذه البقعة من العالم. وهم تحمّلوا ما تحمّلوا لينقلوا إلينا الشعلتين، ويورثونا ما لهذا الوطن من خصائص وميّزات وما تكّون له مع القرون من تراث هو عندنا الأثمن مع الحرية.»
مد الله من عمرك سيدي البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، بطريرك الحق الذي يحرر.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]