احتفل قدامى الحكمة بيروت بيوبيل مئة سنة على تأسيس جامعتهم (جامعة قدامى الحكمة) خلال احتفال حاشد رعاه رئيس أساقفة بيروت وليّ الحكمة المطران بولس مطر في فندق هلتون- حبتور، شارك فيه أبناء الحكمة من الوزراء والنواب والقضاة ورجال القانون والفكر والأعمال وقادة أمنيين وعسكريين وأبناء الحكمة الذين تبوأوا مراكز متقدمة في المجتمع ، إضافة إلى عدد من قدامى الحكمة الذين أتوا من بلاد الإنتشار للمشاركة في هذه المئويّة الأولى لتأسيس جامعتهم وكانت مناسبة كرّم فيها المطران مطر ورئيس المدرسة الخوري جان بول أبو غزاله ورئيس جامعة القدامى المحامي فريد الخوري، أبناء الحكمة الذين مضى على تخرجهم نصف قرن فتسّلموا ميداليّة اليوبيل الذهبي.
وأحيا الإحتفال غنائيًا ابن الحكمة الفنان يوري مرقدة ومجموعة من الفنانين.
بدأ الاحتفال اليوبيلي بالنشيد الوطني اللبناني وبنشيد الحكمة وبكلمة لعرّيف الاحتفال نائب رئيس جامعة قدامى الحكمة المحامي رشيد الجلخ، جاء فيها:
من يستطيع استجماع شتات الأيام وإعادة رسم الوجوه والأزمنة في لحظة استذكار الفرح والسعادة، من يستطيع استعادة إشراقة الصباح وغروب المساء في اختلاجات القلوب المفعمة حناناً وشوقاً إلى سالف الأيام.
هي الخواطر المرتسمة في البال، يا صاحب السيادة أيها الحفل الكريم، في تواصل الليلة مع قرن مضى، يوم تلاقى رجال كبار أسسوا جامعة خريجي مدرسة الحكمة – بيروت آمنوا بوحدة الوطن ورسالة “الحكمـة”، وقد رأوا فيها ضوء الحقيقة كمنارات البحار ونفحة حرية شفافة كعطور الأرض في وشاح السماء.
مئة عام، “كيوم أمس الغابر وكهجعة من الليل” على ما يقول صاحب المزمور.
مئة عام دوّنت على مختلف مراحلها أسماء، مواقف، مناسبات، واقترنت بوجوه وعيون شعّت إيماناً ترافق على الدوام، وحتى يومنا هذا، بصلاة يومية تتلو فعل إيمان بالوطن وبنيه، بوطن هو نقطة زيت في سراجنا وحبّة قمح في معجننا.
فإذا كانت ذكرى التأسيس منعقدة الأواصر على زمان ومكان محددين، فلا يمكنها سوى الإقتران مستقبلاً بأجيال هي على الدوام في امتحان ميمون لطموح يجسّد همسة الضياء وترياق الأمل، فإلى الطالع من السنوات مفعمة بأعراس موصولة في معارج الخير والمحبة والوطنية والحق.
ثمّ ألقى المحامي فريد الخوري كلمة جاء فيها: هو شرفٌ عظيمٌ ومسؤوليّةٌ كبرى، أن تكون رئيسًا لقدامى الحكمة، في مئويّتها الأولى، فجامعة القدامى ليست مؤسّسةً عابرةً، أو جمعيّةً كسائر الجمعيّات، بل هي توأم لبنان الكبير، إذ إنّ ولادة الأولى تزامنت وولادة الثاني، فقد أخذت جامعة القدامى عهدًا على نفسها، بأن تصون لبنان، وتحرسه، وتكون ذخيرته، فلم يناد الوطن أبناءه يومًا، إلّا وكان الحكمويّون في طليعة الملّبين، في زمن السلم كما في زمن الحرب، فرجالات الحكمة لم يتوانوا عن تقديم الغالي والنفيس في سبيل وطنهم، حتّى إنهم لم يبخلوا بدمائهم من أجل الحفاظ على كرامة الوطن التي تشرّبوها على مقاعد الدراسة، ففي الدستور الحكمويّ، الوطن يعلو على السياسة والسياسييّن، وينزّه عن النزاعات الطائفيّة ايا كانت .
وبعد مئة عامٍ على ولادة جامعة قدامى الحكمة، لازال الدستور الحكمويّ هو نفسه، لم يعدّلْ ولن يعدل، في زمنٍ أصبحت فيه كلّ الثوابت عرضةً للاهتزاز، غير أنّ مبادئ الحكمة متأصّلةٌ فينا متجذّرةٌ، لا تقوى عليها عاتيات الدهور، فالوطن دائمًا سيبقى الأولويّة وسيبقى ولاؤنا له، بعيدًا من كلّ النزاعات الجانبيّة، وسنكون سنده وسوره وقلعته، كما علّمتنا مبادئنا الحكمويّة!
نعم نحن قدامى الحكمة، نحن تلامذتها وطلّابها وحرّاسها، نحن قدامى لكنّنا مجدّدين ومتجدّدين، ونعلم علم اليقين أننا ثابتون هنا، لا يلغينا غيابٌ أو رحيل، فبذور الحكمة نابتةٌ أينما كان، وأمانة هذه الجامعة ستبقى دائمًا بأمان.
فتحيّةً وألف مبروك في هده الامسية المباركة إلى كلّ حكمويٍّ، يحمل في دمائه خضار الأرز وعناد الشمس، وصفاء السماء، فبكم تستمرّ الحكمة، ومعكم تنمو!
والحكمويّ ليس طالبًا فحسْب، إنّما هو معلّمٌ ايضًا، معلّمٌ يحمل في قلبه ولسانه تعاليم الحكمة لينشّئ أجيالًا تتشابه مبادئًا وتختلف إبداعًا، وإنتاجًا، لتكون الثروة الحقيقية لهذا الوطن الحبيب.
إليكم، أساتذتنا في الحكمة، ألف شكرٍ وبحر عرفانٍ بالجميل، أنتم الذين أبحرتم بنا إلى شاطئ الأمان، أنتم ميزان هذه السفينة، غائبين وحاضرين، وسنبقى للجميل حافظين، إلى أبد الآبدين!
ولا يمكن أن ننسى كلّ رؤساء مدارس الحكمة الذين تعاقبوا على تولّي رئاسة مدارسها، فكانوا للأمانة حافظين، فبالرغم من الصعاب، أبت الحكمة إلّا أن تزدهر وتتفرّع، لتحضنّ أكبر عددٍ من الأبناء، وكلّ ذلك بفضل حكمة رؤسائها الفاضلين، فتحيةً لكم، ورحم الله من غاب منكم، وحفظكم بسلامه وأمانه!
أمّا لوليّ الحكمة في مئويّة قداماها سيادة المطران بولس مطر، فشكرٌ ذهبيّ لخمسين عامًا ونيف، رافق فيها الحكمة، كاهنًا ورئيسًا وأسقفًا راعيًا للعائلة الحكمويّة، فأمّ البنين لها الحيّز الأكبر في قلب راعيها الّذي لم يغفلْ عنها يومًا، فكانت حاضرةً في صلاة الصبح كما في صلاة المساء، لأنّ سيادة المطران بولس مطر، لم يكن راعيًا تقليديًّا في حبّه للحكمة، بل كان الأب الحنون، والمدافع الأوّل عنها، كما كان في زمن الصعاب، مخلّصها وحاميها، فالحكمة بالنسبة إليه هي ضمير الوطن ووجدانه، لذا أخذ على عاتقه صون هذا الضمير، والمحافظة على هذا الوجدان، وعلى خطى المؤسس المطران الدبس مشى، فأزهرت الوزنات وأزهرت الحكمة كربيع أرضٍ مبتسمةٍ في وجه الشمس.
الشكر الكبير والعميق لكم سيّدنا، ومحبّةٌ راسخةٌ رسوخ السنوات المئة من تاريخ وطنٍ صانه أبناء الحكمة، وحرسته قلعته الخضراء.
ومن مسافة مئة سنةٍ، ومن على هذا المنبر، وأمامكم سيّدنا، أقول بلسان كلّ حكمويّ مع الحكمويّ جبران، متوجّهًا إلى هذا الوطن الصغير الذي هو الحكمة:” ليذهبْ كلٌّ منّا في طريقه: أنا نحوك وأنت نحوي”.
ثمّ ألقى الخوري جان بول أبوغزاله كلمة جاء فيها: يعود الفكر إلى مئة سنةٍ خلتْ، يسترجع عبر الّذاكرة مؤسّسين متوثّبين بالطّموح، ملتحفين العزيمة، متدثّرين الإخلاص لمعهدٍ صنع أجيالاً ورصّع سماء الوطن بنجومٍ متلألئة.
الشّمس لا تظْلم في ناحيةٍ إلاّ وتضيء في ناحيةٍ ثانية، فأنتم خرجتم من الحكمة مدرسةً، وعدْتم إليها عبر جامعة قداماها، فأضحيتم أزهارًا ربيعيّةً يفوح عبقها مصافحًا الشّفق.
من ينابيع الإخلاص سقتكم الحكمة، وبالجدّ والمثابرة تعهدتكم حتّى أيْنعتم بأشهى الثّمار، وعبقْتم بشذى الأزهار. واليوم وقد غزا الشّيْب المفارق بقيت “أمّ البنين” فتيّةً وهي ساهرةٌ أبدًا على دوام العهد بينها وبين أبنائها.
هذا اللقاء الليلة، وما أجمله لقاءً، هو لقاء فرحٍ، فالكلّ في عيدٍ، وهو شكلٌ من أشكال صلة الرّحْم. فمهما كثرت مشاغل الحياة ومهما تبوّأتم من مناصب لا تنسوا أنّ للحكمة الأمّ دورًا أساسيًّا في فرادتكم.
جامعة قدامى الحكمة حضورها مميّزٌ بين مثيلاتها من جامعات القدامى، وهي مدعاة فخرٍ واعتزازٍ لنا. مئة عامٍ وما زالت تشقّ طريقها وسْط الأمواج المتلاطمة العاتية يدفعها إيمانٌ لا يتزعزع بقدسيّة رسالتها، رسالة الحكمة. هي أمانة المطران المؤسّس يوسف الدّبس، ألتربويّة والوطنيّة الجامعة، والمستمرّة اليوم مع سيادة المطران بولس مطر السّامي الاحترام، بهدْيٍ من إخلاصه وتفانيه في الحفاظ على هذه الأمانة منذ ما يقارب نيّفًا ونصف قرنٍ.
اليوبيل المئويّ اليوم محطّةٌ بارزةٌ تدلّ على خدمةٍ طويلة الأمد، وعلى صدقٍ في التّعاطي وثقةٍ بالنّفس وبالآخر على أساسٍ من المحبّة الحقيقيّة والتّضامن الأخويّ. هذه صفاتٌ نهلتموها من الحكمة وأنتم على مقاعد الدّراسة فمهرتكم بالتميّز.يوبيلكم هو دعوةٌ لكلّ فردٍ منكم إلى تحرير طاقاته لتكون مداميك حجارةٍ بها تبنى أسس اليوبيل المئويّ الثّاني.
مهما تكلّمنا فمسيرة مئة عامٍ لا تتّسع الصّفحات لتدوينها ولا تختصر بكلماتٍ. ولعلّ في الأجيال التي تخرّجت وتتخرّج تباعًا ما يعد باستمرار مسيرة جامعة القدامى ليبقى الوشاح الأخضر قلادةً على عنق كلّ فردٍ منكم، وكلّ يوبيلٍ وأنتم بألف خير.
كلمة الختام كانت لراعي الإحتفال المطران مطر جاء فيها: مساء الخير جميعاً يا أهل الحكمة الأحباء، فرحٌ عظيم أن نلتقي هذا المساء في مئويّة لولادة جامعة خريجي الحكمة ونحيي في الوقت عينه، وهذا سرّ المئويّة، المئويّة الأولى لمجيء اغناطيوس مبارك مطراناً على بيروت 1919. هو المؤسس الثاني بعد الدبس، جاء المطران الدبس بعد الحرب سنة الستين وتشرذم اللبنانيين وخلافهم بعضهم مع بعض فقال: نبني لبنان من جديد على المحبة والتقارب بين جميع الطوائف اللبنانيّة. فكانت الحكمة جمعاً لهذه الطوائف، على أسس من العلم والأخلاق والوطنيّة والمحبة. وكانت الحكمة مشروعاً ناجحاً نجاحاً كبيراً. الحكمة ليست مدرسة عاديّة، هي مدرسة من أجل وطن، والمؤسس قال إنّي أريدها لخير الأنصار الشرقيّة لكل الشرق. وكان يأتينا طلّاب من سوريا والأردن وسواها لينالوا العلم والوطنيّة من هذا المعين الصافي. بنيت الحكمة زمن العثمانيين للتحرر من العثماني ولبنيان أوطان جديدة قي الشرق على أسس من المواطنة والمساواة بين الجميع. ولهذا المطران يوسف الدبس أراد للحكمة أن تفتح مدرسة للحقوق، المدرسة الأولى للحقوق في لبنان هي الحكمة.
لماذا؟ لأنه يريد أن يعي اللبنانيون حقّهم بالسيادة. حقوقهم كبشر، حقوق الانسان في هذا الشرق المظلم آنذاك والمتخلّف، فبرزت الحكمة، جامعة المسلمين والمسيحيين في وطنية واحدة وكان هذا التحدّي الأكبر. هل يمكن لمسلمين ومسيحيين أن يبنوا معاً أوطاناً مشتركة؟ أم لا؟ هذا كان تحدي المطران الأول يوسف الدبس، ننحني أمامه اجلالاً، لأن هذا التحدي هو تحدي لبنان كلّه ولولا الدبس لما وصل الحويك سنة 1920 إلى المطالبة بلبنان الواحد الموحّد على أساس لاطائفي، كان يقول طائفتي لبنان. يوسف الدبس هيّأ للحويّك. المرحلة الثانية مرحلة المطران مبارك.
وبعده المطران زيادة ووصولاً إلينا بنعمته تعالى. المطران مبارك أعاد البناء وأعاد بناء جامعة خريجي الحكمة لما وصل وقال: الحرب الكونيّة الأولى خربت لبنان، ثلثنا مات جوعاً وثلثنا هاجر وكمّلنا بالثلث الثالث الباقي، وكان البناء وكان معاونة فرنسا لنا ولكن على أساس أنها عابرة عندما استاءت الأمور، المطران مبارك وقف ضدّ فرنسا من أجل استقلال وطنه، والحكمة استقبلت البرلمان اللبناني سنة 1943 عندما الرؤساء كانوا في راشيا معتقلين. في مدرسة الحكمة تمّ التلاقي بين اللبنانيين على أساس استقلال وطنهم لا شرق ولا غرب وكان الميثاق الوطني الذي تعرفونه.
مدرستهم عاصرت لبنان وأنتم فيها خميرة هذا الوطن. المرحلة الثالثة بعد الطائف. اليوم، أين نحن اليوم؟ اسمعوني. نحن على ثوابت الحكمة، نريد وطنناً مستقلاً له سيادته الكاملة وفي الداخل وطن شراكة حقيقية وطن محبّة. أضافت الحكمة أمراً أساسيّاً على الميثاق الوطني في حياتنا، الميثاق الوطني ربما كان قد بني على أساس مناصفة أو معادلة أو توازن. الحكمة قالت لا توازن فقط مع المسلمين والمسيحيين بل محبّة ووحدة، حافظوا عليها أنتم يا خميرة لبنان.
في هذا الزمن نحي معكم روح البطريرك صفير ونصفق له. كان لي شرف الخدمة خمس سنوات قبل أن نعود إلى أبرشية بيروت وكان الرجل الكبير ساهراً ويريد استقلال وطنه وسيادته وقال لي: أدحنا الجبل بالمخرز يوم بعد سنة بعد سنة. ولكن في الداخل عمل على مصالحة اللبنانيين لأن لا لبنان بدون لبنانيين موحدين الوحدة مع التنوع والتنوع مع الوحدة. لا أخبرك شيئاً بل أقول لكم عن روح الحكمة التي رافقت لبنان هي روح لبنان. اليوم صارت الحكمة 6000 تلميذ وجامعة من 4000 طالب ناجحة صاعدة بإذنه تعالى للخدمة عينها وللوطن عينه. افخروا بما عملت الحكمة ساعدوها تساعدكم ونكمل معاً المشوار ان شاء الله مع اجل لبنان معافى سيد حر مستقل متصالح في الداخل يكون مثل ومثالا لكل العرب وكل أهل المنطقة. وأخيراً أقول لكم، هذا الحجر الذي رذله البناؤون واسمه لبنان، صار اليوم رأساً للزاوية في كل الشرق اما أن يكون الشرق على صورة لبنان فيحيا واما أن يكون الشرق على غير صورة لبنان فيموت ونريد له أن يحيا.
عاشت الحكمة عشتم أيها الأحباء جميعاً، جددوا المشوار مع الحكمة يا قداماها، عشتم وعاش لبنان.