كتبت “المسيرة” – العدد 1695
المطران صفير بطريركاً:
لا تخف. آمن… إنه صوت الرب (2)
وصل مار نصرالله بطرس صفير الى السدة البطريركية في التاسع عشر من نيسان 1986، بعد خمسة وعشرين عامًا في الكرسي البطريركي، إختمرت خلالها تجربته، كما فهمه لمعنى المهمة البطريركية ولرسالة لبنان وفرادته، ولدور الكنيسة المارونية في لبنان والشرق. وقد جسّدت كلمته المرتجلة التي تلت إنتخابه، وخطبته في حفل تنصيبه بطريركاً في السابع والعشرين من نيسان نفسه، هذا الإختمار أو النضوج للمفاهيم البطريركية والوطنية والروحية في ذهنه. وفي استعادة لهاتين الخطبتين، يبدو أن خريطة الطريق كانت واضحة جدا بالنسبة الى مار نصرالله بطرس صفير، ولكن الأهم يظهر في شكل لا يقبل الشك أن البطريرك صفير، طوال حبريته البالغة خمسة وعشرين عامًا، تمسك بهذه الخطة ولم يحد عنها، لا بل نجح في تعميمها على اللبنانيين حتى أصبحت ثقافة وطنية وأقداسًا يستهيبها الجميع.
خطبة البطريرك الأولى بعد تنصيبه بطريركاً:
لم يبخل أبناء كنيستنا يومًأ بدمائهم
«وجعلوا عليه الصليب ليحمله وراء يسوع،
وكان يتبعه كثيرون من الشعب»(لوقا 23/26).
«صاحب الفخامة، أيها الأخوة والأبناء الأعزاء،
حيال المسؤولية التي شاء أصحاب السيادة إخواننا المطارنة السامي احترامهم، وفي مقدمهم صاحب النيافة والغبطة الكاردينال البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش الكلّي الطوبى، أن يُلقوها على عاتقنا بإلهام الروح القدس، في هذه الأيام المأسوية التي نعيشها منذ إحدى عشرة سنة، نجدنا كسمعان القيرواني الذي أتوا به ليحمل الصليب على ما ورد في إنجيل القديس لوقا: «وجعلوا عليه الصليب ليحمله وراء يسوع وكان يتبعه كثيرون من الشعب».
أجل إنّا لواعون ما نحن إليه مدعوون، وهو ما دُعيت إليه كنيستنا المقدسة وبطاركتها المجاهدون. غير أن ما يُخفف عنا ثقل الحمل، يقيننا أننا نمشي وراء يسوع وأن هناك كثيرين من الشعب يحملون معنا الصليب. وإذا كانت المسيحية، في كل زمان ومكان، شهادة لصليب المسيح، فإن كنيستنا المارونية قد أدت هذه الشهادة منذ نشأتها ولا تزال، ولم يبخل أبناؤها يومًا بدمائهم. ولعل في أيامنا هذه أكثر ما يكونون سخاة، حفاظاً على وديعة الإيمان والقيم التي بها دانوا ويدينون ويشاركهم اليوم في الإكتواء بنار المحنة الكبيرة، وما تسببت لهم من تهجير وتشريد وخطف وتقتيل، ولإخوان لهم أبرياء في المواطنية، من جميع الإنتماءات الدينية والطبقات الإجتماعية.
ومن رافق مسيرة البطاركة الموارنة في تنقلاتهم في الأودية والجبال، من يانوح والعاقورة الى إيليج وهابيل، الى وادي قنوبين ومجدل المعوش، الى الديمان وبكركي عبر ألف وثلاثمائة سنة على وجه الضبط، وقد تبوأ كرسي أنطاكية أول بطريرك ماروني هو القديس يوحنا مارون سنة ستمائة وست وثمانين، عرف أي صليب ثقيل حملوا وأي تضحيات جسام إرتضوا، ليجعلوا من هذا الجبل معقل إيمان، وقلعة حية، وحصن كرامة، وقدس أقداس حقوق الإنسان، وقد عايشنا من بينهم آخرهم عهدًا المثلث الرحمة البطريرك خريش أطال الله عمره، وشهدنا أي صليب حمله، وأية آلام تحمّل. غير أن حمل الكنيسة المارونية الصليب هو ما أخصب رسالتها شرقاً وغربًا، أوليس حمل الصليب ما تميّز به القديس شربل وطلب المشاركة في تحمّل الآلام مع المسيح، وما تفرّدت به الطوباوية رفقا وهذا خير ما يرجوه المؤمنون من نصيب على ما يقول بولس الرسول: «هذه منّة وُهبت لكم من الله، لا أن تؤمنوا بالمسيح وحسب بل أن تتألموا بسببه أيضًا وتحتملوا الجهاد». لكن الصليب أصبح لدى بعضهم مفرغاً من قوته.
لهذا يجب العمل على تعميق معناه عن طريق بعث نهضة روحية، يشارك في القيام بها شعب لبنان بأسره، ترمي الى نشر ثقافة الوسائل المتاحة، وعلى أوسع مدى وفي جميع الأوساط، العائلة والمدرسة والمجتمع، وفي جانب الأحداث والمراهقين والشبان البالغين. وقد وجد قداسة الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني في التثقيف الديني جوابًا على هذه الأسئلة المثيرة وهي ما معنى الحياة، ما هي قواعد الضمير والمجتمع الأدبية، ما هي القيم الحق. ولو كنا تمسكنا بالقيم الصحيحة لما وصلنا الى ما وصلنا إليه من سوء حال، وبات الكل يعرف أن الإنسان في لبنان قد أصبح، ويا للأسف الكبير، أرخص سلعة. وإن ما يساعد على بعث هذه النهضة إعادة النظر في الطقوس الكنسية لتسترجع أنفاس الآباء القدسين، وتنعش في النفوس روح إيمان، وتنظيم الإدارة الكنسية منها والمادية بالإستعانة بالوسائل الحديثة لوضع ذلك في خدمة الشعب المسيحي.
وهذه مسؤولية مشتركة بين الإكليريكيين والعلمانيين، ولهؤلاء دور كبير في الشؤون الإدارية خاصة، على ما أشار إليه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني. وقد شدد هذا المجمع على ضرورة تقاسم خيور الدنيا بقوله: «بينما لا تزال جماهير غفيرة فقيرة الى الضروريات، نرى بعض الناس، حتى في البلاد الناقصة النمو، يعيشون في الرخاء ويبددون المال بلا حساب». هناك البذخ والبؤس جنبًا الى جنب، وهذا ما رأيناه في بعض أوساطنا مما يعمل على توسيع الشق بين فئات المواطنين فيؤدي، لا سمح الله، الى الإنفجار الكبير. وقد باتت الحالة الاقتصادية تنذر بشر مستطير، ولا دواء لهذه الحالة إلا، بالإضافة الى حزم المسؤولين، بتضامن جميع طبقات المواطنين للعمل معًا على نشر العدالة الإجتماعية التي من شأنها، لا أن تساوي في الحقوق والواجبات بين أفراد الناس وحسب، بحيث لا يموت مواطن من جوع وجار له من تخمة، بل أن تضمن ما للجماعات في الوطن الواحد من حقوق، وتحملها على تأدية ما عليها من واجبات.
وما يصحّ على الصعيد الإجتماعي، يصحّ بحجة أولى على الصعيد الوطني. وسبيلنا في هذا المجال الى إسقاط الحواجز النفسية ثم المادية، وإعادة توحيد قلوب العباد وأجزاء البلاد، هو تضامن يكون وليد حوار صريح بين اللبنانيين بغية إعادة بناء الوطن على أسس سليمة لا يكون في ضوئها للبناني فضل على لبناني إلا بقدر تضحياته في سبيل لبنان، وإعادة بناء الدولة بالقضاء على سلطان الدويلات والإنفتاح على جميع العائلات الروحية اللبنانية، وعلى شرق وغرب، ولنا في ذاك إخوان لهم علينا مثلما لنا عليهم حق الأخوّة، وفي هذا لنا أصدقاء وينابيع ثقافة وإلهام، وأي ستار من الجهل سينسدل على جانب من عاصمتنا، إذا ما أقفل واحد من مصانع الرجال فيها، وأن العمل في هذا الإتجاه بالتضافر مع جميع الإرادات الطيبة هو ما يضعنا على طريق الخلاص. وأغلى أمانينا أن نتمكن من الإسهام في هذا العمل الخطير، ببركة صاحب القداسة الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني الذي خصّ وطننا بعطف أبوي كبير. ونسألكم يا صاحب السيادة، أنتم الذين تمثلونه في ما بيننا خير تمثيل، أن تنقلوا الى قداسته خالص محبتنا وشكرنا لم يبذله من مساعٍ حثيثة لإخراج وطننا من محنته. ونعتمد على خبرة صاحب النيافة والغبطة الكاردينا البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش الكلّي الطوبى الذي سيبقى إسمه في هذه الفترة العصيبة من تاريخ لبنان مرادفاً للمحبة والأصالة والإعتدال، وعلى مؤازرة إخواننا أصحاب السيادة السامي احترامهم، وفي طليعتهم سيادة المدبّر الرسولي، أخونا الجليل المطران إبراهيم الحلو الذي تولى شؤون البطريركية طوال شهر بجدارة وغيرة وفطنة، وبمعاونة الكهنة والرهبان والراهبات وجميع أبناء كنيستنا المارونية في لبنان وبلدان الإنتشار، ومساندة إخواننا الرؤساء الروحيين والمسؤولين على كل المستويات وجميع اللبنانيين.
وإننا نتوجه بعاطفة المحبة والشكر الى جميع الذين توافدوا على هذا الكرسي البطريركي، ليُعربوا عن مشاعرهم وتقديرهم لهذا المقام الذي كان وسيبقى دار لقاء جميع اللبنانيين وفي خدمتهم على اختلاف المشارب والمذاهب. ويطيب لنا أن نخصّ من بينهم أبناء الأبرشية البطريركية العزيزة الذين شاء الله، وهذه منّة منه كبيرة، أن نقضي في رعاية نفوسهم وشؤونهم الروحية خمسًا وعشرين سنة، فاتخذونا أبًا لهم، واتخذناهم أبناء أعزاء لنا بالروح، فعشنا معهم إهتماماتهم، وحملنا همومهم، وشاركناهم في الأفراج والأتراح، واستضافونا في بيوتهم من نهر إبراهيم الى العاقورة، ومن البترون الى تنورين، ومن زغرتا إهدن الى بشري، ومن دير الأحمر الى وادي الرطل، آملين أن يمدونا بصلوتهم.
أفلنا أن نعتذر إذا شكرنا لبني قومنا الأقربين في منطقة كسروان العزيزة التي نشأنا بين صخورها وتفيأنا ظلالها، وشربنا ماءها، وتنشقنا عبير الوفاء للمبادئ الصحيحة مع هوائها، ما يبدونه تجاهنا من مشاعر محبة خالصة. ولن ننسى، وكيف ننسى أبناء جميع المناطق اللبنانية من قرى الحدود بدءًا بعين إبل، مسقط رأس سلفنا الجليل، الى جزين مسقط رأس سلفه الذي رقّانا بوضع يده علينا الى كمال الكهنوت، من جزين آخر رموز لبنان الموحّد، مرورا بزحلة عروس البقاع وبالشوف وقراه الحزينة وأبنائه المهجرين في وطنهم، الى عكار، ولا سيما القبيات وجوارها منبت الرجال حماة العلم اللبناني، سائلين الله أن يباركهم جميعًا، ويُخفف عنهم عبء ما منه يُعانون، ويُعيد بلادنا الى ما لا تزال تصبو إليه منذ إحدى عشرة سنة كاملة من أمن وسلام واستقرار.
ونود أن نتوجه بعاطفة المحبة والتقدير الى جميع أبنائنا الموارنة في البلدان العربية والمهاجر حيث أصبح لنا أبرشيات ورعاة، كالولايات المتحدة وكندا والبرازيل وأستراليا، وحيث نأمل أن يكون لنا أيضًا. وإننا نضع بين يدي سيدة لبنان هذه الأماني العزيزة علينا وعليكم، سائلينها أن تستمد لنا من إبنها الحبيب سيدنا يسوع المسيح أن يجعل من أيام خدمتنا، أيام إيمان وطمأنينة وسلام.
ويُسعدنا أن نتوجه إليكم، يا صاحب الفخامة، بأصدق آيات الشكر، وأخلص عبارات الإمتنان لما خصصتمونا به من عاطفة نبيلة تجلّت في زيارتكم لنا فور انتخابنا بطريركاً، معربين بذلك عما تكنّون لهذه البطريركية من تقدير ومحبة، تسلسلاً إليكم عن الآباء والأجداد، وفي مقدمهم المرحوم والدكم الذي ما يزال ذكره حيًا في قلوب اللبنانيين. وفيما نتقدم من إخواننا الأجلاء أصحاب الغبطة والسيادة رؤساء الطوائف المسيحية بأخلص مشاعر المودة والإحترام، نمحض خالص الشكر أصحاب الفخامة رؤساء الجمهورية السابقين وأصحاب الدولة والمعالي والسعادة الرؤساء والوزراء والنواب الحاضرين والممثلين وجميع الرسميين من مدنيين وعسكريين. ويطيب لنا أن نشكر أصحاب السعادة ممثلي الدول الشقيقة والصديقة، ونخصّ معالي الوزير عصام النائب ممثل سيادة الرئيس حافظ الأسد، مؤكدين لكل منهم عزمنا الثابت على توثيق روابط المودة القائمة بين دولهم وشعوبهم وهذه البطريركية لخير الجميع.
ويسرّنا أن نتوجه بمشاعر الإمتنان والمحبة الخالصة الى إخواننا الأجلاء رجال الدين من جميع العائلات الروحية، لإحاطتهم إيانا في هذا اليوم بعاطفتهم الأخوية الكريمة. وبودنا أن نُعرب عن جزيل شكرنا لرجال الصحافة والإعلام والهيئات النقابية والشعبية، لما أظهروه تجاه هذا المقام البطريركي من مشاعر محبة وتقدير. وإننا لنتوجه الى جميع أبناء شعبنا اللبناني الطيب الذين جاؤوا أفرادًا وجماعات من كل أنحاء لبنان، متحمّلين مشقة السفر للوصول إلينا، ليُعربوا لنا تكرارًا عن محبتهم وتأكيد صلواتهم الى الله ليمنّ علينا بالتوفيق في خدمتهم وخدمة الكنيسة والوطن.
وفي الختام، وهذه أمنية جميع المواطنين الصالحين، نقول للمتقاتلين على جميع الجبهات ولمن وراءهم: أعلنوا، باللهم عليكم، نهاية الحرب رحمة بالناس، كفانا ما سقط من ضحايا. كفانا ما حل بنا من فواجع وخراب، ولنعد مخلصين صادقين الى التلاقي، فالحوار للخلاص من المحنة الطويلة. ويُسعدنا أن نستمطر على الجميع أغزر البركات، سائلين الله أن يرعانا وإياهم بعين عطفه، وينعم علينا بفجر نرتقبه بلهفة كبيرة، فجر الأمن والطمأنينة والسلام، آمين».
(انتهى)
إقرأ أيضاً: لا تخف آمن… إنه صوت الرب – 1
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]