وينك سمير كساب؟ عد يا شب…

حجم الخط

كتبت فيرا بو منصف في “المسيرة” – العدد 1696

 

مات؟ لم يمت. يعيش؟ لا يعيش! لا هو حي ولا هو ميت، بين بين! كيف تكون الحياة مرة على صقيع الموت وأخرى على دفء الحياة؟! من يقول، أو يدّعي أنه يعرف الإجابة النهائية عن السؤال يكون إما مخادعا أو متعجرفا أو عديم الإنسانية أو متواطئا. لا أحد. منذ 25 تشرين الأول 2013 لا أحد يعرف حتى اللحظة مصير الصحافي سمير كساب، والإجابة عن أسئلة مماثلة يبدو أنها صارت تعجيزية، ليس لشيء إلا لأننا في بلد مثل لبنان، لا هو جمهورية ولا هو مش جمهورية، لا هو دولة ولا هو مش دولة، بين بين، وكيف تعالج الـ بين بين شؤون أبنائها إذن؟ جوزف صادر. سمير كساب. المعتقلون المفقودون في جحيم بشار الأسد، هم الإجابة الفعلية الفاقعة عن كيفية تعاطي دولة الـ بين بين في هذه الملفات…

 

«مسخرة مسخرة لـ عم يصير معنا بقضية خيي، عم جرّب قدر الإمكان إسحب الموضوع من الإعلام حتى حافظ على حياتو إذا كان بعدو عايش» يقول شقيق سمير جورج كساب.

المفارقة أن المصور الصحافي الذي خرج بمهمة صحافية الى حلب، إبتلعته الأرض، إبتلعه الزمان والمكان، إبتلعه أكثر التكاذب والإهمال في التعاطي الرسمي الجدي بملف اختطافه، إبتلعته تلك العمالة غير المعلنة لنظام كافر مجرم ولم تتجرأ الدولة حتى اللحظة بتوجيه السؤال إليه، لا عن سمير كساب ولا عن مئات مئات اللبنانين المخفيين في أقبيته. كل ما يعرف أهل سمير عنه أنه كان عند «داعش»، عظيم. إنتهى «داعش» وانهزم كما يقولون فأين صار سمير إذن؟

أسوأ المشاعر تلك الحيرة في اختيار وجهة الدمع، أنبكي غائبًا لأنه مات أم نبكيه لأنه اختفى، أم نبكي حالنا الهائمة في ضياعها وفي ضياع دولة بأمها وأبيها وأبنائها، الذين أضاعت الكثير الكثير منهم، ولم تملك النبل والشجاعة الكافية والمسؤولية لتسأل عن جدّ عنهم. عبر الكثير من الأيام مذذاك اليوم المشؤوم، وبدا وكأن خبر سمير كساب نام في أحضان النسيان وغمرته خيوط العنكبوت، وإذ  فجأة وفي الآونة الأخيرة يتردد وبقوة خبر مقتله على يد إرهابيي «داعش»، مَن سرّب خبرًا مماثلاً؟ مَن علم به أساسًا ليسرّبه؟! هل في الخبر خطوط حقيقة، وأي قبس ضوء يخبر عن مكان سمير حيًا كان أم شهيدًا؟

«إنتشرت أخبار كتير متضاربة بالفترة الأخيرة وطلعت مش صحيحة على الإطلاق» يؤكد جورج، «توجهنا الى وزارة الخارجية لنعرف ما إذا كان لديها معطيات جديدة بعدما كنا عرفنا عبر مقربين من الوزير جبران باسيل أن لديه معلومات جديدة عن مكان سمير، فتبيّن لنا أنه لا يملك إلا تحليلاً شخصيًا عن مصير سمير إنطلاقا من أن ما عاد لـ«داعش» وجود في سوريا، وبالتالي من الطبيعي أن يكونوا قتلوا كل الرهائن، خصوصًا أنه لم يظهر أي أثر لسمير، أمر لا يبشّر بالخير، ما رجّح لدى باسيل إمكانية إستشهاده، من دون تأكيد هذه الفرضية. شو بقلّك؟ ضايعين؟ ضايعين ومش عارفين على مين نوجّه إهتمامنا لأن ما عنا مفاوض رسمي بهالقصة». وأكثر ما أغضب العائلة إيحاء بعض المسؤولين أحياناً بأنهم يملكون معطيات معينة عن مكان إختفاء سمير، ولما توجهوا إليهم بالسؤال تبيّن أنهم لا يعلمون شيئا «إنسحبوا منها بعدين لأن ما بيعرفوا شي، مسخرة بمسخرة يا الله، عم حاول إسحب الموضوع من التداول الإعلامي لأن خايف على حياة خيي اللهم إذا كان بعدو عايش، يمكن يكون ميت صحيح لكن بهالحالة على الكل إلتزام الصمت إذا ما عندن معلومة أكيدة ألف بالمئة».

 

لا أحد يستطيع أن يعيش مشاعر أهل مخطوف إلا أهل المخطوف أنفسهم. في لبنان آلاف العائلات تعيش هذه الحالة، منهم من ماتوا على طريق الإنتظار الموجع، ونكاد نقول حسن أن الرب أراحهم من عذاب لا متناهي، إذ ومنذ أكثر من أربعين عاما واللبنانيون يعيشون ماساة الخطف والأسر في سجون تعذيب النظام السوري. أن يكون الإبن مخطوفاً غائبًا بين الحياة واللاحياة ليس هو التعذيب وحسب، لعلها جهنم، أو لعلها درب صليب يحفرها المسيح لأجل هؤلاء وبعض من هؤلاء صار يسأل «عن جد ربنا تخلى عنا وعن شبابنا المعتقلين أو المخطوفين؟!» لا يتخلى الرب عن أولاده لكن أهل الأرض يتخلون عنه حين يعتنقون الشر، سمير كساب ضحية أبناء الشر أولئك، فهل فقدت أم سمير وأهله الأمل؟ «إمي ما فقدت الأمل وبتحاول تبيّن قوية قدامنا بس مع الوقت وبينها وبين حالها أنا أكيد انها عم تفقد الأمل شوي شوي، ونحنا منلحق نص ربع خبريي إذا حسينا إنو ممكن توصّلنا لخيط، بس وصلنا لمحل حسينا إنو صرنا متل أهالي المعتقلين بسوريا، سوريا بتنكر وجودن والدولة بتقول ما عندها معتقلين بسوريا ويللي تحرروا ما بعرف كيف من هونيك بيأكدوا وجود المئات من اللبنانيين، والأهل ناطرين بس للأسف ولا شي بيبشر بالخير».

المفارقة أن العام 2016 وصلت معلومة شبه مؤكدة للأهل بأن سمير موجود في منطقة دير الزور في سوريا، رآه أحدهم وأبلغ عنه، وفيما كان يجب على الدولة أن تركّز البحث في تلك المنطقة، لكنها وكما العادة لم تفعل شيئا، ولم تستفسر حتى عن تلك المعلومة، لتنطلق منها للبحث عن إبنها عند من كان يسيطر على تلك المنطقة آنذاك، وضاعت المعلومة في بحر الأحداث وما زال سمير تائهًا في المجهول.

 

لما انتشر خبر الإفراج عن نزار زكا، اللبناني الذي اعتقل ظلمًا في إيران منذ نحو أربعة أعوام بتهمة التجسس، وكما عُلم دخل على خط المفاوضات بقوة اللواء عباس إبراهيم، كما سبق وفعل عندما نفذ «داعش» و«النصرة» أسوأ عملية إختطاف لعناصر الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي منذ أعوام، وحصل ما حصل من مفاوضات، وأفرج عنهم واستشهد من استشهد منهم. إذن دخل مدير عام الأمن العام من جديد على خط المفاوضات. لما عاد زكا الى لبنان وذهب الى القصر الجمهوري لشكر الرئيس، قال اللواء إبراهيم ردًا على سؤال أحد الصحافيين عما إذا كان سيدخل على خط المفاوضات لإنقاذ سمير كساب، أجاب باقتضاب «سمير كساب في ضميري»، لكن عائلة كساب تقول إن لا معلومات حتى اللحظة لدى اللواء ابراهيم لينطلق منها الى خط المفاوضات «ولا مفاوض جدي لدينا لنصل الى رأس خيط ما، واللواء إبراهيم أعلنها صراحة إنو الدولة ما عندها أي معلومات، طيب إذا الدولة ما بتعرف أنا بدي أعرف؟ شو بقدر أعمل غير إني روح عند المسؤولين وإترجاهن وضل إترجاهن يسألوا وما ينسوا، وكلن يقولوا نحنا متابعين بس ما عنا شي جديد واضح» يقول جورج بغضب يقارب القرف واليأس من دولة سبق أن تخلت عن الكثير من أبنائها في معتقلات بشار الأسد، هل ستسأل بعد عن إبن في براثن «داعش»؟! «شو ممكن أعمل أكتر من هيك ما بعرف، لا الإعتصامات ولا التظاهرات ولا الإحتجاجات ولا التسكير بينفعن، ما بينفع شي مع هالدولة، حتى على الفايسبوك أو تويتر ما عدت أتجرأ أكتب كلمة كي لا يتعرض أخي لردة فعل ما إذا كان لا يزال حيا».

 

قد نقول جهنم ذاك الحريق الهائل الذي لا نهاية له، لكن في لبنان ثمة وجوه كثيرة لجهنم، أشد إيلاما بعد من النار. أهالي المعتقلين، المعتقلون أنفسهم في قبور بشار الأسد، أهالي المخطوفين الذين لا يعرفون خبرًا عن أولادهم. أهل سمير كساب صاروا من بين هؤلاء، يختبرون جحيم السؤال الذي لا إجابة عنه. هو جحيم الـ بين بين، لا حياة ولا موت، العدم. لا مكان ولا زمان، الفراغ. لا مفاوض ولا من يتفاوض معهم، هو الوجه الآخر للموت وشو العمل؟ «متل ما الله بيريد، تاركين القصة بين إيديه، رح نضل نسأل ونفتّش عن وميض أمل، عن مفاوض، عن دليل ياخدنا لسمير»، ويدخل جورج في صمته، وبين الكلمة والكلمة تلك التنهيدة الممتلئة من تعبها كمن تتقطع أنفاسه وهو يحرث ترابًا، لكن الأرض حيث يحرث لم تنتج حتى اللحظة ولا حبة قمح، والخوف أن يفرغ البيدر تمامًا ويأتي موسم الحصاد ولا يأتي سمير… وينك يا شب؟ كيف هيك اختفيت؟ عد سمير كساب ولتضحك من جديد عيون الوالدة… عد.

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل