وائل خير – فصل من كتاب “من يدحرج الحجر؟ مصير مسيحيي الشرق” – “المسيرة” – العدد 1697
مجلس كنائس الشرق الأوسط 1974
الموقف من الحرب ورواية لتجربة ذاتية من الداخل
تطوّر «مجلس كنائس الشرق الأوسط» من مكتب متواضع في جوار الجامعة الأميركيّة في بيروت لخدمة الطلاب إلى مؤسّسة ضخمة في العام 1974 حيث انضمّت إليه الكنائس الأرثوذكسيّة غير الخلقيدونيّة (الأرمن الأرثوذكس، الأقباط الأرثوذكس، السريان الأرثوذكس) والكنائس الأرثوذكسيّة الخلقيدونيّة (بطريركيّة أنطاكية، بطريركيّة أورشليم وبطريركيّة الإسكندريّة للروم الأرثوذكس) ومعظم الكنائس الإنجيليّة في الشرق الأوسط.
في العام 1990 انضمّت الكنائس الكاثوليكيّة، بما فيها الكنيسة المارونيّة، إلى المجلس كأسرة رابعة كاملة العضويّة.
الأمين العام الأول للمجلس كان القس ألبرت استيرو واستمرّت ولايته من العام 1974 حتى العام 1977.
المدّة الأطول لتولّي الأمانة العامة التي استمرّت 13 سنة، كانت للأستاذ كبرييل حبيب وهو من الحركيّين الذين أتوا رأسًا بعد المؤسّسين وتميّز، بالإضافة إلى كفاءات شخصيّة، بعلاقة وثيقة بالمطران جورج خضر تكاد تتطابق نظرتهما إلى قضايا الشرق الأوسط وإلى العلاقة مع الموارنة في لبنان وإن تميّز أسلوب كلّ منهما عن الآخر في التعبير عن قناعاته. في حين برز المطران خضر كمتشدّد في الدفاع عن كلّ ما يتعلّق بالأرثوذكسيّة، بدا حبيب أكثر مرونة واعتدالاً من مطران جبل لبنان إذ كان عليه ألاّ ينسى أنّه يمثّل مجلسًا يضمّ عددًا كبيرًا من الكنائس خلافًا للمطران الذي ينتظر منه أن يكون ممثّل كنيسته دون غيرها.
لكن على مستوى حرب لبنان كان التطابق تامًّا بين الموقفين. كان يرى الاثنان أنّ انتصار الفريق المسيحيّ في حرب لبنان انتصار للعدوّ التاريخيّ للأرثوذكسيّة، فيما لم يريا في انتصار الفريق الثاني هزيمة للمسيحيّين لعلّها بسبب المسوح التقدّميّ والعلمانيّ الذي كان يغلّف تصرّفات اليسار والفلسطينيّين في تلك المرحلة، ولتأثّر كلّ من المطران خضر والأمين العام حبيب بما كان رائجًا من «لاهوت التحرير» الذي صاغته وروّجت له كنائس الغرب.
كان من الممكن أن يبقى دور «المجلس» متواضعًا في التأثير على المسألة المسيحيّة في لبنان لولا اندلاع الحرب الأهليّة فيه، إذ إنّ الدمار الكثيف والتهجير الواسع دعا مؤسّسات الإغاثة الدوليّة، ومن بينها مؤسّسات الإغاثة التابعة للأمم المتّحدّة و«مجلس الكنائس العالميّ» و»المجلس الوطنيّ للكنائس الأميركيّة»، إلى الإسراع في إغاثة ضحايا الحرب. وكان «مجلس كنائس الشرق الأوسط» في طليعة من اعتمدته هذه المؤسّسات الدوليّة والكنسيّة للقيام بأعمال الإغاثة. وهكذا انتقل المجلس من مقرّ متواضع لخدمة الطلاب في جوار «الجامعة الأميركيّة في بيروت» إلى مؤسّسة ضخمة لها فروع في مختلف أرجاء لبنان وأيضًا في منطقة الشرق الأوسط، تشرف على خدمات الإغاثة.
كانت الأمانة العامّة لـ «مجلس كنائس الشرق الأوسط»، والأمين العام شخصيًّا، العنوان الأوّل لبعثات تقصّي الحقائق حول الحرب اللبنانيّة. كانت محطّتهم الأولى لقاءً مطوّلاً مع الأستاذ حبيب حيث يبسط لهم أسباب الاقتتال وينظّم برامج زيارتهم الاستطلاعيّة. وكانت مقابلة مستفيضة مع المطران خضر بندًا لا غنى عنه في جميع اللقاءات. طبعًا اشتملت لائحة الزيارات أشخاصًا على الجانب الآخر، غير أنّ الأفكار المسبقة للوفود لم تساعدهم على تقدير الحوار مع الفريق الذي يمثّل الجانب السياسيّ المسيحيّ. مثال ما زال يحضرني رغم توالي السنين.
طلب مني الأمين العام أن أصطحب وفدًا من ثلاثة أساقفة أوروبيّين لمقابلة شارل مالك والوقوف على تفسيره لأحداث لبنان. بعد انتهاء المقابلة وأثناء عودتنا إلى بيروت الغربيّة، كان أعضاء الوفد يقارنون انطباعاتهم. قال أحدهم ووافق الآخرون، إنّ عرض سنان برّاج كان أكثر إقناعًا من شارل مالك. ومع أن دوري كان مرافقة الوفد دون المشاركة في مداولاتهم، لم أتمالك عن التدخّل والتعليق. «ماذا تعنون أنّ سنان برّاج كان أكثر إقناعًا؟ أيمكن أن يكون السبب أنّ رأيه كان أقرب إلى قناعاتكم؟» لتقدير مغزى هذه الحادثة وقد مرّت السنون وبات برّاج ومالك في مكان آخر،
من ذكريات تلت الفترة والمتّصلة بالموقف المعادي للتيار العام المسيحيّ، أنّه في يوم انعقاد المجلس النيابيّ لانتخاب رئيس للجمهوريّة في 23 آب 1982، كان الأستاذ حبيب يستضيف وفدًا من كنائس الغرب في مكتبه في الأمانة العامّة للمجلس في مركزها المؤقت في مدرسة زهرة الاحسان في الاشرفيّة. لا بُدّ وأنه أدرك الحرج في حال انتخاب المجلس النيابيّ بشير الجميّل رئيسًا، وهو من كان حبيب في بسطه للمسألة اللبنانيّة يأخذ عليه أنّه كان يفرض سلطته على المجتمع المسيحيّ بالإرهاب ويرسي زعامته على القمع. ماذا لو أعلنت النتائج وانفجر موظّفو المجلس بالاحتفالات والتصفيق والرقص؟
أخذ الأستاذ حبيب جانبًا مايك نحّال وطلب منه أن يجول على المكاتب جميعًا ويطلب من الموظفين دون استثناء التزام الصمت.
«لا أريد أن اسمع صوتًا» قال الأمين العام لنحّال.
كان ذاك الجانب السياسيّ لدور «حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة» في الحرب اللبنانيّة والذي كان من المستحيل أن يكون له ذاك الأثر لو كانت «الحركة» فقط تنظيمًا أرثوذكسيًّا محلّيًّا شأن سائر المؤسّسات. ميزانيّة الأمانة العامّة نظّمت وموّلت جولات في أوروبا وأميركا للمطران خضر والأمين العامّ غابي حبيب لعرض القضيّة اللبنانيّة لمجموعات مسيحيّة أميركيّة وأوروبيّة. كان المحاضران الزائران يؤكّدان للحضور أنّ المسيحيّين في لبنان هم المعتدون ومرتكبي المجازر علمًا أنّ الاحصاءات أظهرت أن من بين كلّ عشر مدنيّين قتلوا في حرب لبنان، ثمانية منهم كانوا مسيحيّين.
من المفيد لاستكمال الصورة ذكر عملي في «مجلس كنائس الشرق الأوسط».
كنت محاميًا متدرّجًا عندما اندلعت حرب لبنان. توقّف العمل في المحاكم وسحب التداول بالقانون. كثير من رفاقي وصحبي بدؤوا في البحث عن عمل خارج لبنان. معرفة شخصيّة لي بغابي حبيب، إضافة إلى علاقة عائليّة تجمعنا بمؤسّس «حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة»، أدّت إلى طلب غابي مني معاونته في الأمانة العامّة بسبب خلفّيتي القانونيّة ومعرفتي لغات أجنبيّة. كان «المجلس» في صدد تأسيس مكتب لحقوق الإنسان على ما هي عليه الحال في مجالس الكنائس الأخرى.
كان انتسابي للمجلس حدثًا مفصليًّا في حياتي. أتاح لي عملي فرصة معرفة مسيحيّي الشرق الأوسط عن كثب. كما أنّ بدايات عملي في حقل حقوق الإنسان كانت بفضل المجلس الذي أتاح لي التعرّف على بعض نشطاء حقوق الإنسان العالميّين الذين اطّلعت على تجاربهم وأفدت من توجيهاتهم.
ما صدمني في حضوري الأول لمؤتمرات «مجلس الكنائس العالميّ» أنّ برنامج المؤتمر لا يذكر أي صلاة. لكنّه يضمّ إشارة إلى مصلّى لمن شاء الصلاة. كان «مجلس الكنائس العالميّ» بهذا يطبّق تراثًا علمانيًّا غربيًّا تأصّل في تلك الحضارة ولم يقتصر على مؤسّسات الدولة والمجتمع بل جرف حتّى المؤسّسات الكنسّية.
ممّا أفدت منه، وإن بمقدار أقلّ أهمّية لكنّه أكثر صلة بموضوع هذه الدراسة، كانت الفرصة التي أتيحت لي في إطار «مجلس كنائس الشرق الأوسط» للاشتراك في مؤتمرات «الحوار الإسلاميّ المسيحيّ» والتعرّف عن كثب بشخصيّات الحوار وأجوائه.
المعلومات حول «الحوار الإسلاميّ المسيحيّ» لم أستقها من قراءاتٍ أو مقابلات بل هي ثمرة تجربة شخصيّة لي إذ طوال ما يزيد عن الاثني عشرة سنة كنت في عداد المحاورين في ندواتٍ عقدت في جنيف وأثينا وتونس إلى جانب عشرات من اللقاءات تمّت في قبرص وبيروت.
تميّزت هذه اللقاءات دون استثناء بتكرارٍ لموقفين، الأول استعلائيّ والثاني استجدائيّ. الاستعلائيّ كان موقف المحاورين السنّة بالدرجة الأولى، ربّما بسبب استشرافهم لنصرٍ لهم قريب. أمّا المفاوضون الشيعة فكانوا أكثر اعتدالاً وتفهمًا لموقف المسيحيّين لعلّه بسبب محمولهم التاريخيّ كأقليّة مضطهدة، وأيضًا لتجربةٍ يسارية مرّ بها ممثّلوهم في شبابهم وضعتهم على اتصالٍ مع جانب من الفكر الغربيّ وهي سماتٌ برزت أكثر ما يكون في مداخلات السيّد هاني فحص والدكتور سعود المولى.
أمّا الفريق المسيحيّ فكان غالبًا ما يلوذ بالصمت باستثناء كبير المتكلّمين باسم المسيحيّين والأرثوذكس المطران جورج خضر الذي، كما اكتشفت فيما بعد، كان يقتدي بما سبقه الفاتيكان الثاني إليه في مخاطبة المسلمين باستعماله لغةً قرءانيّة في وصفه مكانة الله في الإسلام وتطلّع المسلم المؤمن ليوم الحساب.
من الشخصيّات التي اشتركت في الحوار الاسلاميّ المسيحيّ الأب يواكيم مبارك. كان الاب مبارك في طليعة اللاهوتيّين والأكاديميّين الموارنة. أقام الشطر الأوسع من حياته في باريس في الفترة التي سبقت الهجرات الجماعيّة إلى أوروبا. كان من ألصق تلامذة المستشرق الفرنسيّ الشهير ماسينيون به كما أنّ أطروحة الدكتوراه اختارها الأب مبارك عن الحلاّج. انطباعي، وقد جمعنا لقاءا حوار أحدهما في أثينا والآخر في قبرص، إنّه كان يعتبر أنّ ثقافته الإسلامية وموقفه السياسيّ المعادي لتوجّهات الأغلبيّة المسيحيّة في لبنان، كفيلان بخرق كلّ جدار يحول دون التلاقي الإسلاميّ المسيحيّ. أظنّه أدرك لاحقًا أنّ ماسينيون والحلّاج كانا عقبتين حالتا دون إعجاب المحاورين المسلمين به بدلاً من تقريب أطروحاته إليهم. كان للأب مبارك رؤيا تقوم على أنّ دور المسيحيّين الأوّل هو خدمة المسلمين عن طريق التضحية والمحبّة. كان يرى الإسلام على طريقه للفصل بين الشريعة والسياسة وعلى المسيحيّين واجب الدفع في هذا السبيل عن طريق التنازل والمواءمة. من اقتراحات الأب يواكيم مبارك لتوثيق اللّحمة بين الجانبين أن تعمد «الجامعة اللبنانيّة» إلى إسناد تعليم الإسلام إلى أستاذ مسيحيّ وتعليم المسيحيّة لأستاذ مسلم وهو أجراء، كان يقطع الأب مبارك في كتاباته ومحاضراته، إنّه كفيل بإزالة التشنّج والتوتّر التاريخيّ بين الفريقين. من إنجازات الأب مبارك مساهمته الكبرى في الدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة في الأوساط الأكاديميّة الفرنسيّة وأوساط الكنيسة الكاثوليكيّة وبالتحديد في مؤتمر عقد في باريس في 2 حزيران (يونيو) 1970 وكان نجماه الأب يواكيم مبارك والمطران جورج خضر.
ماذا عن الطرف المسيحيّ الغربيّ الذي كان يشترك في الحوار؟
أطراف الحوار من غير المحليّين الذين عرفتهم كانوا «مجلس الكنائس العالميّ»، و«مجلس الكنائس الوطنيّ» (الولايات المتّحدة) وممثّلي الحوار الإسلاميّ-المسيحيّ من قبل الفاتيكان.
ما كان أحد من ممثّلي أوروبا أو أميركا في الحوار يعطي انطباعًا بأنّه يعرف شيئًا عن الإسلام، أو أنّه يكترث بأن يعرف عنه شيئًا. كان دافعهم للحوار سياسيًّا. من التجارب التي تعلّمت منها الكثير كانت ندوة عقدت في أثينا في العام 1981 وترأّسها البطريرك اغناطيوس هزيم. ما إن افتتح الرئيس الجلسة حتّى طلب أحد مندوبي «مجلس الكنائس العالميّ»، ليوبولدو نيلوس الكلام. وزّع على الحضور كرّاسًا بعنوان Dhimmi People Oppressed Nations ولـمّا كان الكرّاس، كما المؤلف، مجهولين من الحضور، أوضح لنا السيّد نيلوس أنّ هذا الكرّاس يوزّع مجّانًا على نطاق واسع في جنيف وأنّ واضع الكرّاس سيّدة إسرائيليّة تدعى بات ياعور. عرفت فيما بعد أنّ السيّدة ياعور هي من مواليد الإسكندرية هاجرت إلى سويسرا وتجنّست بجنسيتها. أراد السيّد نيلوس أن يعرّفنا على محتوى الكرّاس فقرأ لنا فقرتين من مقدّمته وهي تقول أنّ على نواصي الشوارع في المدن الأوروبيّة أشخاصًا يسيرون على غير هدى يتملّكهم اليأس والقنوط. أخرجوا عنوة من بلاد استوطنوها منذ آلاف السنين وصنعوا حضارات فريدة كانت في أساس الحضارة الإنسانيّة الشاملة ومن أهمّ روافدها. إنّهم الأشوريّون والسريان والموارنة وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط.
مرّت الملاحظة دون تعقيب. لم يفت أحد منّا ما رمى إليه مندوب «مجلس الكنائس العالميّ». أراد أن يحذّرنا من أننا بإثارة مسألة تعرّض أقلّيّات الشرق الأوسط للإبادة واحتجاجنا عليها، نكون في موقع من يخدم السياسة الإسرائيليّة. الواجب إذًا، يتطلّب منّا الصمت والسكوت حتّى وإن كنّا نُهجّر ونُباد.
صدف أن جلست إلى جانب البطريرك هزيم أثناء العشاء. قال لي: «إنّك حديث العهد بهذه الأجواء. مسيحيّو الغرب يريدوننا أن نموت بصمت، دون حشرجة».
ممثلو الكرسيّ الرسوليّ كانوا أمرًا آخر، أبرزهم كان كاهنين من رهبانيّة «الآباء البيض» ومقرّهما القدس: الأب موريس بورمنز والأب ميشال لولون. كتابات الأب لولون ومداخلاته تميّزت بالشدّة على مسيحيّي لبنان، وكان محقًّا تمام الحقّ في التنديد بما قاموا به من انتهاكات مريعة أحيانًا بحقّ الآخرين أثناء الحرب اللبنانيّة. غير أنّ المأخذ الأكبر عليه كان ازدواج معاييره. تكاد لا تقف في كتاباته على نصرة لمسيحيّ ولو كان ضحية اضطهاد أو تهجير وحتّى إبادة.
العلمانيّون من المسيحيّين كانوا يختارون بعناية للمشاركة بالحوار. كانوا من المشدوهين بـ«تسامح» الإسلام على غير المسلمين في دار الإسلام. يكثرون من ترداد تعبير «تسامح» دون أن يقفوا على المدلول السلبيّ لكلمة «تسامح» على الطرفين. التسامح يعني تجاوز تطبيق ما هو حقّ للمتسامح في معاقبة المسيء واستبدال العقوبة بالصفح عنها. كأنّهم يقولون أنّ عدم دخولك الإسلام يوجب العقاب غير أن سعة صدر المسلمين يحملهم على الصفح عنك واحتمال إساءتك لهم. ما يلفت الانتباه أنّ المسيحيّين المعجبين بتسامح الإسلام يتركونه على المنبر ذلك أنّهم إن خلوا إليك وأنسوا لك، كان لهم رأي مخالف.
من الأمثلة التي تحضرني على ازدواجيّة مقولة المسيحيّين الشرقيّين وانفصام شخصيّتهم تجربة كانت لي في تونس. في مؤتمر عقد في سيدي بو سعيد دعت إليه مؤسّسة كونراد اديناور وجامعة تونس سنة 1982. كان بين المدعوّين رجل على درجةٍ رفيعة من الثقافة بعثيّ الانتماء حلبي الأصل يعمل رئيسًا للمعهد الدبلوماسيّ في بغداد آنذاك. كانت كلمته على غرار معظم المسيحيّين تكرّر لازمة التأكيد على علاقة مثاليّة وسمت علاقة المسلمين بالمسيحيّين منذ الفتح الاسلامي حتى كانت الحروب الصليبيّة فأفسدت تلك العلاقة. ممّن استشهد بهم الدكتور باسل يوسف لدعم مقولته، كان الدكتور إدمون رباط. عشيّة ذاك اليوم كنتُ أتمشّى خارج مبنى المؤتمر فلمحت الدكتور يوسف يتقدّمني ببعض خطوات، فاتجهت إليه وأكملنا السير معًا. قلتُ له «دكتور باسل أصغيت بانتباه إلى مداخلتك. لكن دعني ألفت نظرك إلى تطوّرٍ فاتكَ. إنّ الدكتور رباط لم يعد متمسّكًا بمواقفه السابقة إذ عنده برنامج على راديو «صوت لبنان الحر». كانت إذاعة لبنان الحرّ في ذاك الزمن إذاعةً تمثّل قمّة التطرّف تتكلّم باسم المسيحيّين في لبنان. غير أنّها كانت ضعيفة البثّ بحيث كنا نجد صعوبة في التقاطها حتّى في لبنان. فاجأني جوابه. قال: «أعرف ذلك». أبديت تعجبًا. «كيف يمكن أن تستمع إلى هذه الإذاعة الضعيفة في بغداد ونحن نجد صعوبة في التقاطها في بيروت؟». قال «اشتريت راديو ديجيتال من جنيف. ذاك هو السبب.» كانت تلك المرة الأولى التي أسمع بها عن راديو ديجيتال.
كان من الممكن «للحركة» أن يكون سجلّها اكثر رونقًا لو استقرّت على ما وضعت نصب أعينها عليه عند نشأتها وهو تأسيس الفروع وتعميمها على المجتمعات الأرثوذكسيّة، المناولة المتكرّرة، التعليم الدينيّ، مدارس الأحد، مخيمات الشباب والإصلاح الكنسيّ بما فيه تعزيز دور المجالس المليّة كما جاء في كلمة للأستاذ ألبير لحام في مؤتمر «الحركة» عام 1970 ، وأيضًا نشاطها ضمن «حلقة العائلات الأرثوذكسية». بدلاً من ذلك، انزلقت «الحركة» وراء «لاهوت التحرير» ومقرّرات «المجمع الفاتيكاني الثاني» و»الحوار الاسلامي-المسيحي «كما انحازت في إطار الحرب اللبنانيّة إلى الفريق الذي عادى المسيحيّين بحيث كان لهم أن يتوقّعوا أنّ هزيمة الكلّ لا يمكن أن تكون نصرًا للجزء. هو خطأ لم يبدأ بـ «الحركة» ولن ينتهي بها بل شاع في التاريخ وعمّ. ألم يكن ذاك خطأ سبقهم إليه فيليب دورليون ابن عمّ الملك لويس السادس عشر الذي انضمّ إلى الثوار وبدّل اسمه إلى فيليب ايغاليتي – فيليب المساواة- تملّقًا؟ لكنّ بدلاً من اعتلاء سدّة العرش كان مصيره اعتلاء سلّم المقصلة أسوة بقريبه.
المأخذ الأهمّ ليس سوء التقدير السياسيّ لقياديي «الحركة.» من المحال تجنّب الخطأ في العمل السياسيّ ذلك أنّ العناصر المؤثّرة لا يمكن حصرها وتتبّع تبدّلها. المأخذ الأول على «حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة» ذو طابع أخلاقيّ. كان على «الحركة»، خاصّة قيادتها التاريخيّة، أن تعلم أنّ وجودها ونشاطها وتألّق قيادتها ما كانت لتكون لولا لبنان. لكن أي لبنان؟ هل هو لبنان الطبيعة الجميلة والمناخ المعتدل؟ هل هو النظام الجمهوريّ البرلمانيّ؟ ليس الجواب هنا ولا هناك. تألّق «الحركة» ما كان ليكون لولا نظام يقوم على حريّة التفكير والتعبير، حريّة الطباعة والنشر. حريّة الاجتماع وإنشاء الفروع وعقد لقاءات دون تدخّل السلطات ودسّ مخبرين. إنّه لبنان الليبراليّ. لكن ما هو العامل الذي سبّب هذه الفرادة الليبراليّة في لبنان دون سائر المنطقة؟ سبب الفرادة كان العامل المسيحيّ الفعّال في لبنان ما قبل الحرب، ذلك أنّ هذه القيم هي نتاج حضارة وحيدة بين الحضارات التي تعاقبت على العالم. إنّها الحضارة الغربيّة التي كان المسيحيّون في الشرق أول من اتّصل بها وتقبّل مضامينها. وعند تأسيس الكيانات الحديثة وإسناد قيادة لبنان لهم، أدخلوها في صلب البنيان السياسيّ والقانونيّ وبقوا حماة لها ما ملكوا القدرة على حمايتها. والآن، وقد انحسر نفوذ المسيحيّين، باتت هذه الحقوق والحريّات مهدّدة. معرفة العالم الخارجيّ والعربيّ والمحليّ بمفكّري «حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة» تعود إلى مساحة الحريّة التي أمّنها لهم مَن لم يعترف «الحركيّون» بفضلهم. لو افترضنا أنّ المطران خضر انتخب مطرانًا على اللاذقية، ما هي فرصه في إلقاء المحاضرات حول المواضيع التي يختار وبالكيفيّة التي يشتهي؟ ما هي الصحيفة الواسعة الانتشار في سوريا التي تعطيه عمودًا أسبوعيًّا على صفحتها الأولى؟ أي دور نشر تطبع وتوزّع كتبه دون رقابة أو قيد. بمعنى آخر، هذا الرمز للاصلاح الأرثوذكسيّ ما كان ليُعرف لولا الحريّة التي تميّز بها لبنان بفضل مسيحيّيه.
هذا الموقف يذهب أبعد من خطأ سياسيّ في التقدير إذ لكلّ شخص الحقّ الخالص غير المنتقص في خياراته السياسيّة. لا أحد يملك سلطة التدخّل في القناعات الشخصيّة لأي كان. المأخذ الأخلاقيّ هو ما يثار على الشخص والمدرسة التي انتسب إليها. من مساوئ الأخلاق عدم اعتراف قيادات «الحركة» بفضل لبنان المسيحي على وجودهم وسطوع نجمهم، لا بل محاربة لبنان ذاك. ذاك هو المأخذ الأهمّ على مؤسّس والكثير من قياديي «حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة». كانوا من أبرز ثمار الليبراليّة المسيحيّة ومن أشدّ أعداء من استجرّها إلى الشرق وحماها. لإظهار السموّ الأخلاقيّ المقابل، أورد مثل الكاتب الروسيّ الكسندر سولجنيتسين في الثمانينات من القرن الماضي. شجاعة سولجنيتسين حدت به، وكان أثناءها مقيمًا في الاتحاد السوفياتي، إلى نشر رسالة مفتوحة إلى البطريرك الروسيّ بيمن معترضًا على رسالة البطريرك الفصحيّة التي أسهب فيها ببسط الحريّات التي ادّعى أنّ الكنيسة تتمتّع بها تحت الحكم الشيوعيّ. « كيف يمكن لمسيحيّ ألّا يكون صادقًا؟» تساءل سولجنيتسين في رسالته. كان بعدها أن نفت السلطات السوفياتيّة الكاتب حائز جائزة نوبل للآداب إلى خارج الاتحاد السوفياتيّ. كانت محطّته الأولى قصيرة في زوريخ استقرّ بعدها في الولايات المتحدة. وجدت الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة في الخارج ضالّتها في سولجنيتسين. هو معارض شهير للحكم الشيوعيّ إلى جانب مقامه الأدبيّ العالميّ، وهو أيضًا أرثوذكسيّ واجه الكنيسة في روسيا. عزمت الكنيسة الروسيّة في الخارج أن تدعو سولجنيتسين ليكون المتكلّم الرئيسيّ في المجمع (السوبر) الذي كان محدّدًا عقده في تلك الفترة. اعتذر سولجينيتسين عن الحضور وأرفق السبب في جوابه. «بعد خروجي من الاتحاد السوفياتيّ فقدت الحقّ المعنويّ في انتقاد الكنيسة الروسيّة».
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]