كتب نجم الهاشم في “المسيرة” – العدد 1698
في الثالث عشر من أيلول 1985، وفي الذكرى السنوية الثالثة لاغتيال الرئيس الشيخ بشير الجميل، نشرت جريدة “الجمهورية” تحقيقاً تحت عنوان: “هكذا حصل اغتيال الرئيس بشير الجميل… ملف التحقيق الكامل مع حبيب الشرتوني”. وسألت: “لماذا لم يحاكموه بعد؟”. ونشرت أيضًا محضرًا للتحقيق مع نوال الشرتوني، شقيقة حبيب، ومحاضر ومستندات مختلفة.
ما استدعى التوقف عند هذا الموضوع والعودة الى ما نشر، الأمور التالية:
*الذكرى السنوية السابعة والثلاثون لاغتيال الشيخ بشير وبقاء نقاط كثيرة لم تكشفها التحقيقات.
*إن جريدة “الجمهورية التي صدرت تلك السنة كانت لصاحبها (نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية والدفاع لاحقاً) الياس ميشال المر، وموالية لرئيس “الهيئة التنفيذية لـ”القوات اللبنانية” آنذاك، الوزير الحالي إيلي حبيقة.
*إن التحقيقات الأولية مع منفذ عملية الاغتيال حبيب الشرتوني حصلت كلها في “جهاز الأمن” الذي كان مسؤولاً عنه إيلي حبيقة نفسه، وبالتالي لا يعرف إذا كان هذا التحقيق المنشور تضمن كل الاعترافات عن ملابسات جريمة الاغتيال والذين شاركوا في التخطيط لها.
*إن نشر هذا التحقيق حصل بعدما كان تم تسليم الشرتوني الى الدولة اللبنانية في 30 نيسان 1983، ليبدأ معه المحقق العدلي القاضي سعيد ميرزا تحقيقاته الرسمية. وقد رفض الرئيس ميرزا الإفصاح عن أي تفاصيل تتعلق بالملف بعد الإتصال به، معتبرًا أن كل ما لديه قاله في القرار الإتهامي، وأنه يعتصم بالصمت لأن الملف بات في عهدة القضاء وانتهت المحاكمة فيه.
*إن هذا التحقيق ليس رسميا ولكنه يتضمن معلومات أخذ المحقق العدلي بالبعض منها، بعد إعادة إستجواب الشرتوني، وأغفل أخرى على قلتها، ولكنه أضاف إليها تفاصيل ومعلومات جديدة ربما كانت أخذت من حبيب الشرتوني لدى التحقيق معه في جهاز أمن “القوات”، وربما أغفل ذكرها. ومن هذه المعلومات مثلاً كيف تم بيع البناء الذي حصلت فيه عملية التفجير من جدّ حبيب الشرتوني الى حزب الكتائب، بالتزامن مع التحضير لتنفيذ عملية التفجير، ووجود شخص آخر تعاون مع نبيل العلم لم يتم التوصل الى تحديد هويته.
*إن المحقق العدلي سعيد ميرزا أصدر قراره الإتهامي في هذه القضية في 29/10/1996، أي بعد 14 عامًا على عملية إغتيال الرئيس الجميل، وبعد عامين على حل حزب “القوات اللبنانية” واعتقال قائدها سمير جعجع، وذلك في ظل عهد الوصاية.
*التحقيق لدى جهاز أمن “القوات” كما القرار الإتهامي يحصر التهمة بحبيب الشرتوني وبنبيل العلم، وإن كان تم ذكر أنه لم يتم تحديد الجهات التي كان يتعامل معها نبيل العلم.
*إن الملف أصبح من الماضي، خصوصا بعدما أنجز المجلس العدلي برئاسة القاضي جان فهد المحاكمة في هذه القضية وأصدر حكمًا غيابيًا بالإعدام على حبيب الشرتوني ونبيل العلم (بسبب عدم تأكيد حصول وفاته رسميًا) في 20 تشرين الأول 2017.
*على رغم ما ورد في التحقيقين القواتي والقضائي، ثمة خفايا كثيرة لا تزال تكتنف لغز التحضير لتنفيذ عملية الإغتيال، خصوصًا في ما يتعلق بالجهة التي كان ينسق معها نبيل العلم.
*إن نشره في جريدة “الجمهورية” هو المستند الوحيد المتوفر ـ رسميًا ـ عن التحقيقات التي حصلت مع الشرتوني داخل “القوات”.
ومن هذا المنطلق نعيد نشر هذا التحقيق كما كان، مع تحديد ما أضافه عليه القرار الإتهامي وما أغفل عنه.
بعد 37 عامًا على عملية إغتيال الشيخ بشير الجميل، لا تزال هناك أسرار كثيرة لم يتم الكشف عنها. لقد صارت القضية ملك التاريخ، ولكن السعي الى الحقيقة الكاملة هو الذي يستوجب البحث عن هذه الحقيقة لتكوين الرواية الكاملة. أين هي هذه الحقيقة؟ وأي فصول لا تزال مجهولة؟
– نهاية العام الدراسي 1978 ـ 1979، أي خريف 1979، عاد الشرتوني الى لبنان، وبعد شهرين إتصل بالعلم والتقيا في اليوم نفسه في مركز الحزب في فردان، ثم تناولا طعام الغداء في منزل العلم بحضور زوجته سهام رشيد عازار. وتظهر هذه العلاقة الشخصية حرص العلم على أهمية تجنيد الشرتوني من دون أن يكون هناك شخص آخر يربط بينهما لإعطاء هذه العلاقة السرية التامة. وقد علم الشرتوني خلال هذه المرحلة أن العلم صار مسؤولاً عن شعبة الأمن في الحزب القومي بعد أن كان عميدًا للداخلية، كما يذكر القرار الإتهامي، وأنه بقي في الأمن حتى اجتياح 1982. ربما يتعلق هذا الأمر بانكشاف دوره في قضية إغتيال الرئيس بشير الجميل وتواريه عن الأنظار، والخلافات الداخلية في الحزب، خصوصًا ما يتعلق وقتها بإعلان رئيسه إنعام رعد عدم علم الحزب بمخطط الإغتيال، وبالتالي إكتشاف أن العلم كان يعمل أمنيًا لصالح جهة ثانية غير حزبية.
– لم يطلب العلم من الشرتوني زيارته في مقر الحزب بل في منزله. إستمرت لقاءاتهما حتى شتاء 1981، عندها علم العلم أن حبيب يقيم في الطابق الثاني من البناء الذي يملكه جده لأمه نعمان صابر في الأشرفية ـ شارع ساسين. وفي هذا الإطار، لا ترد معلومات دقيقة عما إذا ما كان جده يقيم في هذه الشقة في الطابق الثاني قبل انتقال عائلة حبيب للإقامة فيها، ولكن من الثابت تقريبًا أن العلم بدأ يتداول مع حبيب في موضوع تردد الشيخ بشير الى بيت كتائب الأشرفية إعتبارًا من هذه المرحلة. العلم إستفسر من الشرتوني الذي أكد له المعلومات، فطلب العلم التوسع فيها وبعد ذلك بدأ الشرتوني المراقبة. ويعني ذلك أن عمل العلم مع الشرتوني على هذه التغطية بدأ بعد محاولة إغتيال بشير في العكاوي في 23 شباط 1980، وعلى رغم إنكشاف أمر المحاولة وتوقيف المتهمين فيها نزيه شعبيا وجوزف كازازيان وميلاد موسى، وبعد ذلك بدأ الإنتقال الى مخطط تنفيذ عملية أمنية جديدة ضد الشيخ بشير.
– أواخر عام 1981، طلب العلم من الشرتوني نقل متفجرات ووضعها في منزل جده على أساس أن يتولى شخص آخر تفجيرها. هذه المعلومات بالتواريخ ترد مفصلة أكثر في القرار الإتهامي، ذلك أنها بقيت عامة وغير دقيقة في معلومات أمن “القوات” المنشورة في جريدة “الجمهورية”. وربما كان العلم يريد إشراك حبيب تدريجيًا في عملية إغتيال الشيخ بشير على أساس أن يقتصر دوره في البداية على نقل المتفجرات فقط. وخلال تلك المرحلة كان حبيب إنتقل مع عائلته الى منزل خالته يولاند صابر زوجة جاك صابات في محلة دير الناصرة، وأصبح منزل جده خاليًا، وبالتالي لم يوافق حبيب على طلب نقل المتفجرات لوضعها في منزل جده.
– خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1982، عادت عائلة حبيب الى منزل جده نعمان، وبقي مفتاح منزل خالته معه، بعدما كانت سافرت مع عائلتها الى قبرص. علم العلم بالأمر، فعاد الى طرح فكرة نقل المتفجرات ووضعها في شقة جده وطلب من حبيب معلومات مفصلة عن المبنى والمقيمين فيه.
– زوّد حبيب العلم بالمعلومات التالية حول البناء: الطابق الأرضي يشغله حزب الكتائب. الطابق الأول فيه شقتان، شقة غربية يشغلها دياب كريِّم وعائلته، وشقة شرقية تطل على شارع ساسين يشغلها روبير شاهين وعائلته. والطابق الثاني شقة واحدة تشغلها عائلة حبيب مع جده لأمه مالك العقار نعمان صابر. الطابقان الأول والثاني لهما مدخل مستقل من شارع ساسين بخلاف الطابق الأرضي الذي له مدخل خاص.
– طلب العلم من الشرتوني أن يدخل الى بيت الكتائب بعد ظهر يوم ثلاثاء عندما يحضر الشيخ بشير الجميل لجمع معلومات حول ما يحصل داخل بيت الكتائب أثناء حضوره. خاف حبيب واكتفى بالمراقبة. بعد ذلك أبلغ العلم الشرتوني أنه كلف شخصًا آخر حدد له مكان جلوس الشيخ بشير الى أقصى اليمين بالنسبة الى الداخل إليه، ويجلس الى طاولة في أقصى القاعة الرئيسية للقسم مع حدود الغرفة الغربية الأخيرة.
– من هو هذا الشخص؟ القرار الإتهامي يذكر أنه “شاب لبناني من كفرشيما أو بلدة الحدت عمره حوالى 25 عامًا خلال عام 1982، معتدل الطول أبيض البشرة، بديناً كان يشغل منصبًا ما في حزب الكتائب اللبنانية أو في صفوف “القوات اللبنانية” في ذلك الوقت”. هذا التحديد لا ذكر له في معلومات أمن القوات. ولا يذكر القرار الإتهامي كيف تم الحصول على هذه المعلومات. أما ما تقدمه هذه المسألة، فهو أن العلم كان يعمل على أكثر من مسار لتنفيذ عملية إغتيال الرئيس بشير الجميل من دون أن يخلط بين مصادره. فبحسب التحقيقات المنشورة لا يظهر ما يشير الى أن حبيب كان على إطلاع على هذا الأمر، كما أن الشخص الآخر لم يكن على علم بقناة الإتصال بين العلم والشرتوني. وقد سطر المحقق العدلي مذكرة تحرٍ دائم لمعرفة شركاء العلم الآخرين ومعرفة كامل هوية هذا الشاب اللبناني. وهذا الأمر لا يزال أحد أسرار التحقيق التي لم يتم اكتشافها أو الكشف عنها.
– سأل العلم الشرتوني عن هوية شاغلي الشقة الغربية في الطابق الأول، فأكد له أنها عائلة دياب كريِّم، وطلب منه وضع رسم لطريقة الدخول الى هذه الشقة، وكان ذلك بعد بدء المفاوضات مع أصحاب العقار وشاغليه لإخلاء الشقق ليتملكه حزب الكتائب رسميًا وقبل أن تتم عملية إخلاء هذه الشقة في أول حزيران 1982 قبل بدء الإجتياح الإسرائيلي. القرار الإتهامي يشير الى أن جان ناضر مسؤول الكتائب في الأشرفية بدأ مفاوضات شراء كامل البناء في العام 1979. ولذلك، إن قرار الإغتيال لم يكن مرتبطاً بحصول هذا الإجتياح بل كان مسارًا كاملاً بدأ مع صعود نجم الشيخ بشير الجميل قائدًا عسكريًا وسياسيًا منذ بداية الحرب. وهذا القرار لم يكن مقتصرًا على الشيخ بشير وحده، بدليل تعرض الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل لمحاولات إغتيال عديدة تمت بالطريقة نفسها تقريبًا.
– في شباط 1982، توظف حبيب في شركة تمام للإعلانات في الحمرا، وبات يتردد بشكل تلقائي الى منزل العلم. التحقيقات المنشورة تذكر أن هذا الأمر حصل بطريقة عادية. قرأ الشرتوني إعلاناً في صحيفة حول طلب التوظيف، إتصل بالشركة وأجرى مقابلة فقبلوا توظيفه. ولكن في النتيجة تمكن من إستثمار هذه الوظيفة لتغطية إنتقاله المتكرر الى بيروت الغربية، وبالتالي تأمين الغطاء للقاءاته مع نبيل العلم، خصوصًا أن هذا التطور تزامن مع وضع خطة التفجير والإغتيال موضع التنفيذ.
– أوائل آذار 1982، بعد إلمام نبيل العلم بتفاصيل البناء، تم التفاوض مع روبير شاهين حول بدل إخلاء الشقة التي يشغلها في الطابق الأول، فطلب 400 ألف ليرة. إعتبر حزب الكتائب أن هذا المبلغ كبير.
– بعد ذلك، جرى التفاوض مع عادل كريِّم إبن السيد دياب. بعد مفاوضات إستمرت أسبوعين، تم الإتفاق مع حزب الكتائب على أن يتقاضى مبلغ 130 ألف ليرة والتعهّد بإخلاء الشقة في مدة أقصاها 30 حزيران، وتسلم الشك بهذا المبلغ في 11 آذار 1982. وبالتالي، هل كان النجاح في الإتفاق مع شاغلي الشقة الغربية حيث ستوضع العبوة مجرد مصادفة؟
في المحصلة النهائية المتعلقة بموضوع إستملاك العقار، أخلت عائلة كريِّم الشقة في أول حزيران وبقيت عائلة شاهين. وفي إحدى جلسات الإستجواب يذكر حبيب الشرتوني أن جده نعمان صابر ووالدته وخالاته تقاضوا مبلغ مليوني ليرة بدل قيمة العقار، ولكن هذا الأمر ترافق مع السماح لعائلة حبيب بالبقاء في الطابق الثاني ريثما يعودون الى منزلهم، وهذا الأمر أيضًا لم يمنع حبيب من تفجير المبنى قبل أن تخليه عائلته، وهذا ما دفعه الى الإتصال بشقيقته نوال قبل التفجير لإخراجها من المنزل، وكان السبب الرئيسي في اكتشاف ضلوعه في عملية التفجير واعتقاله في 16 أيلول في منزل خالته في الناصرة.
– في نيسان 1982، بعد حصول الإتفاق مع عائلة كريِّم، طلب العلم من الشرتوني خريطة للبناء تظهر فيها مواقع الأعمدة والجسور. وجد حبيب خريطة وسلمها الى العلم الذي قام بدراستها مع أشخاص آخرين لا يذكرهم التحقيق ولم يعلم بهم الشرتوني، كما يظهر من التحقيقات المنشورة، وقد أبلغ العلم الشرتوني بعد ذلك أن أفضل مكان لوضع المتفجرات هو في متوسط الشقة الغربية فوق المكان الذي يجلس فيه الشيخ بشير عند دخوله الى قسم الكتائب وبعد بدء الإجتماع، وقد أعلم حبيب مشغّله نبيل العلم في بداية حزيران بأن عائلة كريِّم قد أخلت الشقة التي باتت فارغة. واللافت أن هذه الشقة وحدها هي التي أُخليت وهي المكان المختار لوضع المتفجرات. واللافت أيضًا أن حبيب كثف لقاءاته مع العلم بعد هذا التاريخ وبدأت ترتيب عملية نقل المتفجرات والصواعق على مراحل بعد بدء الإجتياح الإسرائيلي في 6 حزيران.
– إتفق نبيل وحبيب على نقل المتفجرات وإبقائها أمانة في الأشرفية لاستعمالها لاحقاً. وبدأ حبيب تسلمها على دفعات. الدفعتان الأولى والثانية تسلمهما من منزل العلم وكانت بين 3 و5 كيلو. ثم تم نقل كميات أكبر تسلمها حبيب من مرآب بناية في شارع المكحول ونقلها الى بيت خالته في الناصرة. بحسب المعلومات المنشورة، كانت عملية النقل تتم بطريقة غير آمنة تمامًا في تابلو سيارة والد حبيب أو تحت المقعد الخلفي. ولكن اللافت أن هذه العمليات كانت تحصل بين المنطقتين الشرقية والغربية، وحتى بعد دخول الجيش الإسرائيلي الى بيروت. فهل كان الشرتوني يتمتع بما يمكن أن يشكل له غطاء في حركته؟ هل كان حبيب يخدم في أحد مراكز الكتائب في الأشرفية، بدليل معرفته ببعض الشباب في مركز البرجاوي؟ حتى أنه بعد عملية التفجير كما يقول في إفاداته، إلتقى بعض “رفاقه” الذين طلبوا منه أن يحرس معهم، وأنه قال لهم إن بدلته العسكرية نسيها في سيارة والده. هذا الأمر أيضًا يبقى سرًا من الأسرار التي لم يكشف التحقيق عنها.
– بعد وصول الجيش الإسرائيلي الى بيروت، كان حبيب الشرتوني يتنقل بين بلدته شرتون ومنزل خالته ومنزل جده في الأشرفية ومكان عمل والده في بيروت الغربية، وكان يتصل بطريقة شبه يومية بنبيل العلم. وخلال النصف الأول من تموز نقل المتفجرات والصواعق من منزل الناصرة الى منزل ساسين من دون أن يثير الشبهات ووضعها على المتخّت، وما كان بعد إتفق مع العلم على وضع العبوة في الشقة الغربية في الطابق الأول لاغتيال الشيخ بشير، كما جاء في إفاداته المنقولة على رغم أن كل ما كان يقوم به مع العلم كان يشير الى هذا الأمر.
(يتبع)
إقرأ أيضاً: التحقيق في اغتيال بشير الجميل… أي أسرار لم تُكشف بعد؟ -1
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]