ما لا شك فيه أن العملية العسكرية التي بدأتها تركيا، منذ يومين، شمال شرق سوريا، ستعيد خلط الأوراق على الساحة السورية. علماً أن عملية “نبع السلام”، كما أطلق عليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هي الثالثة داخل الأراضي السورية مع مجموعات سورية مسلحة مدعومة من أنقرة بعد عمليتي: “درع الفرات” في آب العام 2016 على مدينة الباب السورية ومحيطها، و”غصن الزيتون” في كانون الثاني العام 2018 على مدينة عفرين ومحيطها.
منذ بدء الأحداث في سوريا العام 2011 وتحولها إلى ساحة للصراعات الدولية والإقليمية، سعى أردوغان إلى حجز مقعد أساسي لتركيا فيها، وعمل على أن يكون لبلاده موطئ قدم داخل الأراضي السورية، تحقيقاً لطموحاته بلعب دور فاعل على الساحة الشرق ـ أوسطية واستعادة الدور التركي القديم في المنطقة. وما ساعده على ذلك، موقع تركيا الاستراتيجي، أضف إلى ملايين النازحين الذين اتخذوا من الولايات التركية ملجأ لهم.
يريد أردوغان أن يثبِّت أنقرة شريكة أساسية إلى جانب اللاعبين الآخرين (روسيا والولايات المتحدة وإيران والاتحاد الأوروبي والدول العربية) في رسم مستقبل سوريا، وهو دعم على غرار الآخرين فصائل سورية مسلحة في مواجهة النظام السوري الذي تمادى في البطش بالشعب فانتفض عليه، وفي مواجهة “قوات سوريا الديمقراطية” وعمادها الأساسي قوات “حماية الشعب الكردية”.
وتهدف أنقرة من وراء العملية الأخيرة في شمال شرق سوريا إلى إقامة “منطقة آمنة” أو “منطقة عازلة” على الجانب السوري من الحدود معها ووصلها بالمنطقة المحاذية لمحافظة إدلب، بعمق يتراوح بين 30 و40 كيلومترا وعلى امتداد يقدر بنحو 460 كيلومترا، لفصل مناطق سيطرة المقاتلين الأكراد في سوريا عن الحدود التركية. ويؤكد أردوغان أن عملية “نبع السلام” هي ضد تنظيم الدولة الإسلامية والوحدات الكردية وحزب العمال الكردستاني، وهدفها إزالة ما وصفه بـ”الممر الإرهابي” الذي يحاولون إقامته جنوب البلاد وإحلال السلام في المنطقة، مضيفا أنه “بفضل المنطقة الآمنة التي سنقيمها، سنضمن عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم”.
وعلى الرغم من الإدانات شبه الشاملة للعملية التركية من مختلف دول العالم، خصوصاً الفاعلة والمقررة والمتدخلة في سوريا، بالإضافة إلى الدول العربية، يرى مراقبون أن “ثمة غض نظر عن التحرك التركي، بمستويات تختلف من طرف إلى آخر بحسب المصالح والأهداف. ومن الطبيعي، بنظر هؤلاء، أن تواكب القوى العالمية هذه العملية بحذر شديد، خشية أن تكون بداية فصل جديد من فصول الحرب المستعرة في سوريا منذ العام 2011، وتفلت الأمور نحو منزلقات غير محسوبة”.
وتشير مصادر مراقبة لموقع “القوات اللبنانية” الالكتروني، إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب كان سحب القوات الأميركية في المنطقة وأعاد توزيعها على قواعد أخرى عشية بدء العملية. وتقول “صحيح أن ترمب حذر أنقرة من أننا (سنمحو اقتصاد تركيا اذا قضت على الأكراد)، لكنه أضاف (إذا تخطت الحدود)، أي تخطي حدود تأمين المنطقة الآمنة والذهاب أبعد لتصفية الحسابات مع الأكراد والانتقام منهم، وهذا ما لن تقبل به واشنطن باعتبارهم حلفاءها ولا توافق على وصف أنقرة لقوات سوريا الديمقراطية وقوات حماية الشعب الكردية بالإرهابيين، نظراً للدور الكبير والأساسي الذي لعبوه في القضاء على تنظيم داعش وسقوط آلاف المقاتلين من صفوفهم في مواجهته”.
وتضيف المصادر أنه “من المبكر الجزم بما سينتج عن عملية نبع السلام التركية، فهي لا تزال في بدايتها. وترى أن النتائج مرهونة بالتطورات الميدانية وبتبلور مواقف الأطراف منها، خصوصاً (موسكو وطهران)، كما بالمدى الذي سيذهب إليه أردوغان في عمليته، وما إذا كانت طموحاته ستدفعه إلى تخطي التفاهمات الضمنية خلف الكواليس. بالإضافة إلى مدى صمود القوات الكردية وقدرتها والدعم الذي يمكن أن تحصل عليه للثبات في المعركة والحفاظ على مكتسباتها الجغرافية، أو أنها ستقبل بالتراجع في حال حصولها على ضمانات حاسمة بعدم التعرض لمناطقها الأساسية”.
وتأسف المصادر المراقبة “لأن العنصر الأبرز الغائب عن الفعل في كل هذه المسألة والقابع في مقاعد التلقي، هو سوريا ذاتها، بسبب النظام الذي وضع ختمه على تحويلها مجرد ساحة صراع ونفوذ بين القوى العالمية والاقليمية، وجعل من الشعب السوري وقوداً من مئات آلاف الضحايا والجرحى وملايين المهجرين، لتغذية مصالح هذه القوى وللتشبث بالكرسي على دماء شعبه”.
من جهته، يعتبر مدير “مركز المشرق للشؤون الإستراتيجية” الدكتور سامي نادر، أن التصعيد الحاصل في شمال شرق سوريا والعملية العسكرية التي تنفذها القوات التركية هناك، “حدودها إقامة حزام أمني”. ويرى أن “هذه المنطقة مرشحة لتكون منطقة آمنة ممتدة إلى عفرين بحيث تعمل أنقرة على إعادة اللاجئين السوريين إليها لاحقاً. وبذلك تكون تركيا قد أمَّنت شريطاً حدودياً عازلاً بينها وبين الأكراد، ما يسمّيه البعض منطقة (سنّستان)، مشابهة للمنطقة الآمنة التي أقامتها روسيا جنوب إدلب”.
ويضيف المحلل الاستراتيجي ذاته، أن “المنطقة الكردية قد تضيق مساحتها، بعدما كان الأكراد توسعوا في السابق شرق الفرات إلى بعض المناطق السنية، وربما يتراجعون اليوم قليلاً، لكن خسارتهم لن تكون كبيرة، فالمهم أن تبقى الأمور على ما هي عليه ويتم احترام حدود اللعبة. وبرأيي، هذه التطورات تحصل بتنسيق دقيق أميركي ـ روسي، كتهيئة أو توطئة للحل السياسي اللاحق بعد تثبيت الجغرافيا على أرض الواقع”.