في تشرين الأول 1969، أوهمت إدارة الرئيس نيكسون الاتحاد السوفياتي بأن “الرجل المجنون قد أصبح طليقاً” وذلك عندما أمر نيكسون القوات الأميركية بالتأهب التام للحرب العالمية، وأرسل 18 قاذفة بي-52 (B-52) مسلحة بقنابل نووية تفوق بقوتها أضعاف القنابل التي ألقيت على هيروشيما وناغزاكي، للطيران بالقرب من الحدود السوفياتية الشرقية لمدة ثلاثة أيام متتالية. وقد عمدت وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) إلى استعمال قنواتها لتصوير الرئيس نيكسون بأنه “غير عقلاني ومتهور” وذلك لإخافة قيادات الاتحاد السوفياتي وإيهامهم بأن نيكسون قادر ومستعد على أخذ الجميع نحو المجهول. وقد استخدمت إدارة نيكسون استراتيجية “الرجل المجنون” (The Madman Theory) بالتزامن مع حملات جوية عنيفة لإجبار الحكومة الفيتنامية الشمالية على التفاوض لإنهاء حرب فيتنام، وقد نجحت في ذلك، بغض النظر عما آلت إليه الأمور بعد فضيحة ووترغايت (Watergate) من نهاية غير متوقعة للرئيس نيكسون وللحرب في فيتنام.
أما الرئيس ترمب فهو يتبع بالفطرة سياسة تشبه إلى حد كبير سياسات “الرجل المجنون” المصطنعة. فهو أثبت بأنه لا يمكن التنبؤ بما سيقوم به، ولعل أكبر دليل على ذلك هو عملية تصفية قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، رجل إيران الأقوى ورمز التوسع الفارسي في الشرق الأوسط. قبل اغتيال سليماني تلقى الأميركيون وحليفتهم السعودية ضربات موجعة عدة طالت طائرة مسيرة أميركية من طراز “Global Hawk” (تبلغ قيمتها أكثر من 130 مليون دولار)، ومنشآت “أرامكو” النفطية السعودية وناقلات نفط في خليج العرب، ولم تكن أصداء الرد الأميركي الذي ادعى ترمب بأنه قد حصل من خلال هجوم إلكتروني (cyber attack) على منشآت إيرانية بحجم الرد الذي أعقب الهجوم على السفارة الأميركية في العراق حديثاً والذي أدى إلى اغتيال سليماني وعدد من القياديين في الحشد الشعبي العراقي.
فمنذ بدء حملاته الانتخابية رفض ترمب الدخول بتفاصيل الاستراتيجيات التي يعتزم اتباعها في حال وصوله إلى الرئاسة، وصرح أكثر من مرة للإعلام بأنه لن يفشي بخطته ولن يعطي أعداء الولايات المتحدة “رفاهية” معرفة ماذا يحضر لهم. وبغض النظر إن كان ترمب يملك فعلاً خططاً لا يريد البوح بها أو أنه لا يملك أي خطة على الاطلاق، فعنصر المفاجأة وعدم افساح المجال للخصم للتنبؤ بخطواته التالية تشكل ركائز الحرب النفيسة والاستراتيجيات العسكرية الناجحة، وهي جزء أساسي من استراتيجية ترمب للمفاوضات التي اتبعها بنجاح كرجل أعمال ولسنوات طويلة (The Art of the Deal).
وعلى الرغم من أن عدداً من المحللين والمؤرخين الأميركيين انتقدوا نظرية “الرجل المجنون” واعتبروها خطيرة وغير فعالة، وبعد الرد الإيراني الهزيل الذي استهدف قواعد للجيش الأميركي في العراق والذي لم يصب فيه أي جندي أميركي، وفي ظل أجواء من التهديدات ورسائل التهدئة المتبادلة، هل يكون قد نجح ترمب بطبعه الحاد والمتقلب في لجم الإيرانيين؟ وفي حال نجح ترمب في تجديد ولايته، هل يستطيع الإيرانيون تحمل تبعات الاستمرار في رفضهم للمفاوضات في ظل عقوبات خانقة وفي ظل خطر مواجهة عسكرية مع إصرار ترمب على عدم السماح للإيرانيين بالحصول على سلاح نووي؟ وهل ينجو النظام الإيراني من ولاية ثانية لترمب؟