كالحلم عبروا. اراقب ما قبل 17 تشرين الاول فأدخل في اليأس، في الضياع، في انعدام الثقة بلبنان واللبنانيين. استذكر ذاك الخميس 17 تشرين وكنا في الضيعة، وجلسنا حتى الرابعة صباحا الى شاشات التلفزيون نراقب ما يحصل ولا نصدق. هيدي ثورة؟ لا مظاهرة وبتخلص. يا جماعة هذه ثورة. لا لا هذه فورة غضب عابرة، اللبنانيون صاروا ثوار الفيسبوك فقط. وجاء اليوم الثاني والعاشر والخمسون، وها هي الثورة تبلغ المئة يوم من عمرها وقد فعلت ما عجزت عنه السنوات العشر الاخيرة ان تفعله.
في مئويتها المجيدة، صارت الثورة هي البند الرئيسي على جدول اعمال الفاسدين في السلطة، ما عاد بإمكانها تجاوز تلك الوجوه التي اجتاحت ساحات لبنان طولا وعرضا. أهم اهم انجازاتها انها عرّتهم بالكامل، صاروا وجوها بلا اقنعة، صاروا بلا ثياب ولو لبسوا افخرها، عراة يمشون امام عيوننا والثورة تمعن في تشليع مقاذيفهم. صارت الثورة كابوس السلطة تلاحقها اينما حلّت، في البيت والمطعم والمراكز العامة وحتى الجلسات الخاصة. حرمت الثورة السلطة النوم على حريرها كما اعتادت من سنين وسنين، حتى لو لم يعترفوا بذلك وعاشوا حال النكران كي لا ينصاعوا لصرخة الشعب.
في مئويتها المجيدة قد تقولون لم تنجح الثورة، والدليل تلك الحكومة البائسة التي انتجت، على الرغم من ارادة الثوار وصراخهم المتواصل في شوارع البلاد. صحيح لم تحقق الثورة بعد الحكومة المنشودة… بعد. اكرر الكلمة، فالثورة مستمرة، وكما كل ثورات العالم فيها ما فيها من تراجع او لنقل مد وجزر، بحسب الاحداث والمواقف.
ستقولون الثورة جنحت احيانا نحو العنف والشغب، بعدما كانت من ارقى الثورات على الاطلاق، اذ لم يشهد لبنان بتاريخه القديم والحديث على ثورة مماثلة. صحيح، لكن الثقافة والفنون والرقص والابداع والعرض المدني، وأكبر سلسلة بشرية تصل لبنان بشماله وشرقه بأيادي الثوار، وكل تلك الانجازات المبهرة التي كان لها وقعها المدوي في العالم كله، وليس فقط في لبنان، ادت في ما ادت بداية الى استقالة حكومة الرئيس الحريري.
صحيح انها خسرت الجولة الاخيرة اذ لم يصل دوي صراخها الى آذان السلطة الفاسدة، لان الأخيرة تحدّت شعبها فكانت تشكيلة الحكومة الجديدة غير المستقلة وغير المتخصصة والناتجة عن السلطة السياسية بالكامل وتحديدا حكومة 8 اذار بامتياز، لكن من يخسر جولة سيربح حربا، إذا ما استمر على عناده واصراره والثورة عنيدة عنيدة.
في مئوية الثورة اراقب المشهد، ليس في ساحات الثوار، انما في اوكار المسؤولين، اجل اوكار، ها هم مرتعبون مختبئون يخشون الاطلالات المباشرة على الناس، الا من خلف الشاشات. يخشون الذهاب الى المطاعم لان الثوار يتربصون، يخشون افتضاح فسادهم فيهرعون الى تمزيق كل ما يثبت ويدين.
تحولت الثورة الى كابوسهم اليومي، وها هم الان ينصبون الاسوار العالية بعلو البنايات الشاهقة امام مقارهم وامام مجلس النواب، ويضعون العوائق الحديدية والمكهربة، ويجلسون في ليلهم المظلم يخططون ويستنجدون ويخترعون أفضل الوسائل ليتمكنوا من دخول مجلس النواب، بعدما منعهم الثوار في مرة سابقة، فيقولون حينا نتسلل من الشمال وأحيانا من الشرق وبلكي من البحر، وبلكي بالبر وبلكي بالجو من يدري، فقد ينزلون بالباراشوت مثلاً هلعا من مواجهة الثوار.
اذاً هو الخوف، هذا أكبر انجازات الثورة، الخوف. صار الفاسدون يخشون الثورة ويصلّون ليل نهار لتخمد وتموت ويفعلون المستحيل لقتلها. مرة بإرسال الزعران، اخرى ببث الاكاذيب، واهم اساليب افشالهم للثورة هي الاذان الصماء عن سماع مطالبهم، فيظنون انهم بذلك يدفعون بالثوار الى اليأس والتراجع ونسيان كل ذاك النضال المستمر منذ ثلاثة أشهر، والعودة الى بيوتهم لتتحول الثورة الى رواية جميلة في كتاب الذكريات. سجن الثوار السلطة في خوفها فبدل المواجهة تحصنت داخل الاسوار العالية، سجنت نفسها في ظلمة الباطون وبقي الثوار تحت الشمس والليل احرار انقياء.
في مئويتها الجميلة وعلى الرغم من مشهد العنف في المواجهات بين الثوار والقوى الامنية، لا اجد الا ثورة تصرخ ألماً في شوارع لبنان، في ضمير سلطة من دون ضمير بالأساس، قررت ان تمارس الكبرياء المطلق امام الشعب، لتربح عروشها الزائفة وتكسر رأس الشعب، ولم يحصل، ولن يحصل اساسا، فجدران العالم كله لن تمنع صرخات الحق، اذ ان اكبر انجاز الثورة انكم اصبحتم اسرى الجدران والثورة حرة حرة في صراخها.