شغلت قضية تسديد لبنان سنداته السيادية الأجنبية “يوروبوند” والتي تبلغ قيمتها 2.5 مليار دولار (1.2 مليار تستحق في 6 آذار، و600 مليون دولار في نيسان و700 مليون دولار في حزيران)، اهتمام المسؤولين والمواطنين على حد سواء في كيفية التعاطي مع هذا الاستحقاق، وانعكاسات الخيارات المختلفة على الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي المختنق.
وبرزت وجهات نظر مختلفة بين المسؤولين حول ضرورة تسديد الديون المستحقة في مواعيدها، حفاظاً على سمعة لبنان وخوفاً من إرسال إشارات سلبية إلى المجتمع الدولي والدول والصناديق المانحة، وانعكاس التخلف عن الدفع مزيداً من التصنيف الائتماني السلبي، من جهة، وبين قائلين بالدخول في مفاوضات مع المصارف لتمديد آجال الاستحقاقات ريثما يتحسن الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي للدولة، من جهة أخرى.
كما أثارت الإجراءات التي بدأت المصارف بتطبيقها، إذ عمدت إلى فرض قيود قاسية جديدة على سحب الودائع، بحيث انخفضت إلى 200 أو 300 دولار كل أسبوعين لأصحاب الودائع التي تقل عن 100 ألف دولار، بعدما كانت 200 أو 300 دولار كل أسبوع، مخاوف لدى المودعين حول مصير ودائعهم، بالإضافة إلى تأثير ذلك على سعر الدولار في السوق الموازية لدى الصرافين. علماً أن المصارف لم توضح حتى الساعة الأسباب التي دفعتها إلى “خنق السحوبات” أكثر، بعدما سادت أجواء في الأيام الماضية عن توجه لرفع سقف السحوبات، ما أثار علامات استفهام بحاجة إلى توضيح وتطمين.
الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور لويس حبيقة، يرى أنه “لا يمكن للبنان ألا يدفع سندات يوروبوند المتوجبة عليه في تاريخ استحقاقاتها المعروفة، ولا يمكنه إلا أن يلتزم بذلك. أما إذا وافق الدائنون على تأجيل تواريخ الاستحقاقات، فلا مشكلة في ذلك بالطبع”. ويعتبر أنه “من الأفضل أن يدفع لبنان استحقاق آذار المقبل البالغ 1.2 مليار دولار، على أمل أن يكون وضع البلد قد تحسن بعد 6 أشهر وفي تواريخ الاستحقاقات اللاحقة، ولا نعود بحاجة إلى أحد”.
ويؤكد حبيقة، لموقع القوات اللبنانية الإلكتروني، أنه “من الخطر جداً على سمعة لبنان وكل اللبنانيين عدم الوفاء بديوننا، بغض النظر عمن هو في السلطة أو خارجها، لأنه بذلك لبنان بأكمله سيكون متخلفاً عن القيام بواجباته، وسينعكس ذلك على المجتمع اللبناني ككل”، معرباً عن أسفه لأن “من يطالبون بالامتناع عن دفع التزاماتنا، لا يتحلّون بروح المسؤولية”.
ويلفت إلى أن “حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أعلن أن احتياطي مصرف لبنان يبلغ 38 مليار دولار، منها 30 مليار دولار نقداً”، ويشير إلى أنه دُفع منها نحو ملياري دولار. بالتالي يبقى أكثر من 27 مليار دولار نقداً، ولا بأس بدفع 1.2 مليار قيمة استحقاق آذار فلن يكون لها تأثير علينا، وذلك يمنحنا فرصة لالتقاط الأنفاس في الأسواق، بمعنى أن لبنان حتى في عز أزمته وظروفه الصعبة يقوم بتسديد مستحقاته ويفي بالتزاماته وواجباته”.
ويقول إن “وفاء لبنان بالتزاماته يتيح له فرصاً إيجابية للاستدانة في المستقبل”، مشدداً على أن “من أصعب الأمور التي لا يمكن إعادة تصحيحها هي السمعة، فمتى فُقدت أو مُسَّت لا بعود بالإمكان تلميعها”. ويضيف، “نحن كبلد بحاجة للاستدانة في السنوات المقبلة، وحتى لو أتينا بقديسين ليحكمونا اليوم، لا يمكن إلا أن نستدين، فالعجز في الموازنة باق لسنوات طويلة. وبالتالي إن تخلفنا عن تسدين ديوننا اليوم وفقدنا سمعتنا لن يقرضنا أحد في المستقبل، ونكون كمن يطعن نفسه بسكين في ظهره، “.
ويقدّم حبيقة قراءته لمسألة قيام المصارف بخفض إضافي لسقف السحوبات للمودعين، ويعتبر أن “قسماً من الإعلام لا يملك إلماماً بالعلوم الاقتصادية. فيقولون مثلاً إن المصارف لا تسمح للمودعين بالسحب من ماكينات الصراف الآلي إلا نصف ما كانت تتيحه في السابق، إذاً هناك خطر على الودائع، وهذا غير صحيح”.
ويوضح أنه “يمكن للمواطنين سحب المبالغ المسموح بها، والدفع من خلال بطاقات الإئتمان أو الشيكات لتلبية الكثير من احتياجاتهم”، لافتاً إلى أن “المشكلة فقط عند من لا يملك بطاقات ائتمان أو دفتر شيكات”.
ويضيف أن “العالم اليوم يسير باتجاه عدم التعامل بالمال النقدي (كاش)، فيما المجتمع اللبناني لا يزال مجتمعاً تقليدياً على هذا الصعيد ويعتمد كثيراً على استعمال المال النقدي”. ويعتبر أن “الأزمة الحالية يمكن أن تشكل مناسبة لنا جميعا كمجتمع لبناني لمواكبة العصر في هذا المجال، وتحديث نظامنا النقدي والمصرفي بشكل يتناسب مع الوضع العالمي، فنحن مجتمع متأخر نقدياً ولأننا كذلك نعاني من الأزمة أكثر بكثير مما يجب”.
ويلفت حبيقة إلى أن “كثيرين تأقلموا مع هذا الواقع المستجد، إذ كانوا مثلاً قبل الأزمة يستخدمون المال النقدي لتلبية احتياجاتهم بنسبة 80% فيما باتوا اليوم يستخدمونه بنسبة 20%”. وإذ يعترف أن “هناك مشكلة لأن المصارف لا تملك دولارات ورقية كافية نقداً”، يرى أن “الإعلام يخلط بين عدم تأمين الـ(كاش) للمودعين وبين أن ودائعهم في خطر”.
وفي حين يشدد على “ألا علاقة للأمرين ببعضهما البعض”، يقول مطمئنا إنه “على الناس ألا يخافوا ولا يضيعوا ولا ضرورة لهذا الهلع، المسيَّس في مكان ما”، مؤكداً أن “الودائع في لبنان ليست بخطر أبداً وهي محفوظة بنسبة 100%، لكن المصارف لا تعطي (كاش) لأنه لم يعد يدخل إلى البلد بالمعدلات السابقة، فيما قسم مهم من الناس يحتفظون بالـ(كاش) في بيوتهم”.