الانتفاضة التي يشهدها لبنان وثورة الشعب التي يعبر عنها في الشارع انعكاس طبيعي لشهوة التسلط والتحكم التي تتميز بها تلك الطبقة الحاكمة والمتجاهلة لصراخ المواطن المتألم والمحروم.
إنها مشهدية شعب ضاق ذرعا من حكام لم يظهروا سوى الفساد والانحطاط الاخلاقي ولا يزالون يتشبثون بمواقعهم ومناصبهم ومحاصصاتهم. ففساد الحكام كما يقول الفيلسوف افلاطون يؤدي الى نشوب صراع بين الطبقات، فينقسم الشعب الى طبقتين: الاغنياء والموسرون والفقراء المعوزون. فلا يلبث الفقراء ان يثوروا على الاغنياء والمتسلطين لإسقاط نظام حكمهم الاوليغارشي وليؤسسوا مكانه حكماً ديمقراطياً يتميز بالحرية والمساواة.
فهذا التوصيف الافلاطوني يجد أبهى تجلياته في ما يحصل اليوم من انتفاضة للشعب على ارض الواقع. وقد فشلت الطبقة الحاكمة للبنان من الاغنياء والموسرين في اقامة حكم عادل يستجيب لحاجات الشعب ولا سيما الطبقة المحكومة، وامعنوا في فسادهم وافسادهم لقسم من الشعب اتبعهم على مصالحه وادان لهم بالولاء، فيما الاكثرية الصامتة تنكوي يوميا بألم الحرمان والحاج والفاقة.
نعم انها انتفاضة الجياع
نعم انها انتفاضة الناس ضد الألم، ذلك الالم الذي سببته الشهوة، شهوة الحكم والتحكم برقاب الناس. شهوة التسلط على مقدرات البلاد والعباد وتحوير استخداماتها لخدمة الازلام والتابعين على حساب خدمة الشعب وتأمين ابسط حقوقه في الكرامة الانسانية والعيش المقبول.
شهوة قضت على الثقة بين المحكوم والحاكم فاتسعت الهوة الى حد الطلاق الكلي، بحيث بات من الملح اعادة تأسيس مفهوم السلطة والحكم على اسس ابيقورية تبعد الالم وتضمن السعادة لشعب يستحق الحياة.
تلك الانتفاضة التي قلبت مقاييس ومفاهيم جامدة في الحكم وادارة البلاد على مدى سنوات وسنوات، تارة تحت شعار فارغ من مضمونه كالديمقراطية التوافقية وتارة تحت عباءة الطائفية والمذهبية، وطورا تحت ستار المعادلات الاقليمية والدولية وموازين قوى واهمة.
تلك الانتفاضة التي تحاكي فكر ارسطو في علاقة القوة بالفعل. القوة المادية التي تبقى غاشمة ان لم يصاحبها فعل وهي سلاح الحاكم المتسلط. والفعل الذي يمكن المحكوم من تحويل تلك القوة الى طاقة انتاج بدل ان تبقى قوة غير منتجة عقيمة لا تصلح ولا تصحح ومتقوقعه في حماية الظالمين والفاسدين.
سنوات عجاف من الامعان في مصادرة حقوق المواطن. سنوات عجاف من المتاجرة بالدين العام والمؤتمرات والمانحين والمساعدات لم يرى الشعب منها الا مزيدا من الفاقة والعوز وتدهور الخدمات والتقديمات المعيشية والحياتية والاجتماعية.
سنوات عجاف من اللامبالاة التي باتت نهجا لا اخلاقيا لدى معظم الطبقة الحاكمة.
بالأمس، أنّبهم مطران بيروت بولس عبد الساتر في عظة عيد مار مارون، فبادروه بالتصفيق ومن ثم الانتقاد، بدل ان يخجلوا من انفسهم ويعترفوا ويتوبوا، ولو بعد حين كما تاب اولاد يعقوب بعد نكرانهم رمي اخوهم يوسف في الجب لعقود، متلذذين في غيهم وفي انكارهم لواقع الجريمة الكبرى التي اقترفوها والتي يستنسخها حكام لبنان بحق الشعب.
نكران الملكة ماري انطوانيت صراخ الثوار الجائعين على ابواب الباستيل واقتراحها عليهم اكل البسكويت بدل الخبز، لم يكن عبثيا وصف افلاطون للحكام بالطبقة الذهبية ووصفه العمال بالطبقة النحاسية، واعتباره ان فضائل العفة والشجاعة والحكمة والعدالة تبني الجمهورية.
فأين نحن من عفة الحاكم؟ وأين نحن من حكمة السلطة؟ وأين نحن من شجاعة قول الحقيقة؟ وأين نحن من العدالة الاجتماعية؟ انها الشهوة القاتلة والتي اودت بوطن وشعب الى المجهول.