كتب المخرج يوسف ي. الخوري في “المسيرة” – العدد 1704
قال لي يومًا الرئيس سليمان فرنجية: «روح قلّو لو كنت قادر كنت رحت لعندو مشي تا أوقاف عا خاطرو وراضيه! قلّو ما بيسوى جفا هالقد، يجْي لعندي اشتقتلّو». مَن هو هذا الرجل الذي افتقده الرئيس فرنجية إلى هذا الحدّ؟ هو نفسه الذي أربك العميد ريمون إدّه يوم ألمح أنّه يؤيّد المرشح الياس سركيس ضده في الانتخابات الرئاسيّة. وهو نفسه الذي قاطع إجتماعات الجبهة اللبنانيّة بسبب الأضرار التي ألحقها شباب الكتائب وشباب الأحرار بكنيسة مار شربل عنّايا أثناء تعاركهما في محيطها، فاضطر الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميّل للإعتذار منه علنًا لاسترضائه. وهو نفسه الذي أخرج رهبانه من غرفهم في الكسليك ليُسكنوا مكانهم مهجّري الدامور والجيّة. وهو نفسه الذي أراد كمال بيك جنبلاط الإجتماع به سعيًا لوقف نزيف الدمّ في لبنان، لكنّ جنبلاط قُتل قبل أسبوع من موعد اللقاء. وهو نفسه الذي خابره الأمام موسى الصدر عشية سفره إلى ليبيا ليقول له: «أنا فهمت كل شيء، وأتمنى أن نلتقي فور عودتي من ليبيا ونعقد معًا مؤتمرًا روحيًّا ننبذ خلاله كل خلافاتنا لمصلحة بلدنا». لكنّ الإمام رحل ولم يعدْ.
كنّا قلة من المقرّبين منه أواخر حياته، ولم يستطع واحد منّا إقناعه بكتابة مذكراته. كنّا نقول له المذكرات فرصة لا تُعوّض كي تنصف نفسك من الإتهامات الجائرة بحقّك، لكن هو كان لسان حاله «أَترُكُ هذا الأمر للأجيال القادمة، إذ ما الداعي لإنصاف نفسي بينما أنا لا قدرة لي على تغيير حرف واحد من ماضيّ».
رحل منذ تسعة عشر عامًا ولم يبقَ لي منه اليوم سوى ما حفظناه عن ظهر قلب، وليساعدني الله أن أظهِر صورته الحقيقية إكرامًا لذكراه وعربون شكر لما مَنّ عليّ به من ثقافته وحنكته.
إنّه الأباتي شربل القسيس!
هو قارئ متبصّر في السياسة
يوصّف الأباتي شربل القسيس أزمة الشرق الأوسط بشكل بسيط لكن عميق. يقول: «في الشرق الأوسط، يوجد أربع دول وخمسة شعوب. الدول هي لبنان وسوريا والأردن وإسرائيل، وكلّ منها تضمّ شعبها الذي يحمل هويتها. هناك شعب خامس يعيش في هذه المنطقة ولا دولة له، هو الفلسطيني الذي هَجّره الإسرائيليّون من أرضه عام 1948». وعليه يخلُص الأباتي القسيس إلى أنّ أزمة لبنان لن تنتهي، والشرق الأوسط لن يرتاح، قبل أن تصبح هناك دولة للفلسطينيين. أمّا قراءته لحلّ مشكلة الشعب الخامس، فأنقلها كما أوردها صديقه الباحث في الفكر السياسي د. نبيل خليفة في كتابه «خمسون سنة في خدمة الكلمة»:
يعتبر الأباتي القسيس أنّ هناك إحتمالين لحلّ مشكلة الشعب الفلسطيني:
«الإحتمال الأوّل: تهجير الأقليّة المسيحيّة من لبنان، وبالتالي تغيير النظام فيه، وتحويله من بلد ذي وجه مسيحي إلى بلد ذي طابع إسلامي، ممّا يسهّل أمرين:
– دمج الشعب الفلسطيني فيه.
– دمج كيانه السياسي بكيانات إقليميّة أوسع (سوريّة أو مشرقيّة) مما يعني شطبه عن خريطة المنطقة.
الإحتمال الثاني: خلق الدويلات الدينيّة وحشر المسيحيين في دولة لبنان الصغير وتوطين الفلسطينيين المتواجدين في لبنان والذين يُحتمل تهجيرهم أيضًا إليه من الضفة الغربية والقطاع، وتوطينهم في القسم الباقي».
لو أردنا اليوم في العام 2020 أن نوصّف الوضع القائم في منطقة الشرق الأوسط، لاسيّما من بعد الإعلان عن «صفقة القرن»، ألا نجد أنّ الأباتي القسيس كان مُصيبًا في كلامه أعلاه والذي سمعته أنا شخصيًّا منه منذ ثلاث وثلاثين سنة؟!
الجندي المجهول
يُشدّد الأباتي القسيس أنّه في فترة ما بعد استقلال لبنان، لم يكن هناك «مارونيّة سياسيّة» كما يزعم البعض، بل «سياسة مارونيّة». ويعتبر أنّ الفترة هذه كانت تقوم على أربع ركائز: رئيس الجمهوريّة، قائد الجيش، البطريرك الماروني والجندي المجهول أي جماعة الرهبان. برأيه، كان سيصعب إنهاء العصر الماروني في لبنان إبّان حرب الـ 1975 لو لم يتمّ القضاء تدريجيًّا على تلك الركائز.
سقوط الركيزة الأولى (رئاسة الجمهورية):
في العام 1970، أتت الانتخابات الرئاسيّة وكان لبنان قد بدأ يفقد شيئًا فشيئًا من سيادته، لاسيّما بعد اتفاق القاهرة الذي سهّل قيام الأعمال الفدائيّة ضدّ إسرائيل انطلاقًا من الأراضي اللبنانيّة. «كانت المرحلة تلك تحتاج إلى رئيس تغلب الحكمة في سلوكه على الصلابة» يقول الأباتي القسيس، ثمّ يُضيف إنه عوضًا عن انتخاب الرئيس الياس سركيس الذي يتمتع بالسلوك السالف الذكر، انتُخب الرئيس سليمان فرنجية الصلب والمعروف ببأسه. بعد ست سنوات، أي في العام 1976، كانت الحرب قد اندلعت وصار لبنان بحاجة لأن يتمّ التجديد للرئيس فرنجية ليتعامل بصلابة مع وضع الحرب الطارئ. لم يمرّ التجديد وجيء بالرجل الهادئ والحكيم الياس سركيس رئيسًا. وهكذا، تمّ إضعاف الركيزة الأولى، رئيس الجمهوريّة، بحسب الأباتي القسيس.
سقوط الركيزة الثانية (قيادة الجيش):
أمّا عن تقويض دور الركيزة الثانية المارونيّة (قائد الجيش)، فيعتبر الأباتي أنّه تمّ إبّان قيادة العماد حنا سعيد. ولتوضيح اعتقاده، يروي الحادثة التالية: لمّا قام عبدالعزيز الأحدب بانقلابه الأبيض في 11 آذار عام 1976 بهدف الضغط لكي يستقيل الرئيس سليمان فرنجية، توجّه الأباتي القسيس على وجه السرعة إلى القصر الجمهوري، وفي طريقه، عرّج الى وزارة الدفاع ليطّلع من قائد الجيش حنا سعيد على حقائق الوضع المُستجِدّ. لمّا دخل إلى مكتب سعيد، لاحظ أنّه كان نائمًا، ففاجأه الأمر، لكن من دون مقدّمات، بادره بالسؤال كيف سيتعاطى مع الإنقلاب؟ فأجاب سعيد قائلًا: «أنتظرُ موقف السوريين». ما يعني أنّ موقف قائد الجيش اللبناني الوطني من إنقلاب ضدّ رئيس الجمهورية بات يُحدّده السوريون، وهو الأمر الذي أشعر الأباتي القسيس أنّه لم يعد بالإمكان الإتكال على الركيزة المارونيّة الثانية.
سقوط الركيزة الثالثة (بكركي):
هنا يصف الأباتي القسيس الموضوع بشكل مختلف، فيكتفي بالمقارنة بين قامتي البطريرك بولس بطرس المعوشي الطويل وصاحب السحنة القاسية، وخليفته البطريرك أنطون بطرس خريش القصير وصاحب الطلّة الطيّبة، للدلالة على قوّة شخصيّة الأوّل بالمقارنة مع شخصيّة الثاني، وليس للتهكّم من قصر قامة البطريرك خريش أو قصيري القامة عمومًا، إذ هو الآخر بدوره قصير. عندما ذكر هذه المقارنة أمامي،قلت له ممازحًا: «ليس من مصلحتك ربط البنية الجسدية بضعف الشخصيّة، فأنت أيضًا قصير». فأجابني بسرعة قائلًا: «أنا أملك ما يعوّض عن قصري. هل صادفت في حياتك رجلًا محيّاه أشدّ قسوة من محيّاي وصوته أعرض وأجهر من صوتي؟» وأردف شارحًا أنّ الطلّة والمظهر والشخصيّة القوية لهم تأثيرهم أحيانًا على الآخرين أكثر من الفكر والحنكة، «أوليس الأمر كذلك مع نجوم عالمكم السينمائي؟»
كلّ الذي كان يريد أن يُعبّر عنهالأباتي هو أنّ انتخاب البطريرك خريش جاء في الوقت الخطأ، ومعه ضعفت بكركي ولم تعد كلمتها مسموعة.
سقوط الركيزة الرابعة (الرهبان بشخص رئيسهم العام):
إنّ تدخّل الأباتي القسيس في السياسة خلال الحرب في لبنان لم يرق لبعض المقامات الدينيّة، لا سيّما بكركي والمجمع الشرقي في روما. كما لم يرق لبعض المفكّرين كسعيد عقل، والسياسيين كريمون إدّه، والحزبيين كبشير الجميّل (في بداياته)، وغيرهم… ولكلٍّ من هؤلاء تأثيره ومونته بين الرهبان، وهو الأمر الذي حتّم خسارته في الانتخابات الرهبانيّة عام 1980 أمام الأباتي بولس نعمان.
بسقوط الأباتي شربل القسيس،تخلخلت الركيزة الرابعة ولم تسقط. فالأباتي نعمان لم يختلف نهجه عن سلفه، لكن هو الآخر لم يسلم من سهام هؤلاء الذين لا يحبّذون تدخّل الرهبان في السياسة، حتى بات في آخر سنتين من عهده مشلول الحركة ومتراجعًا في دوره المحوري في السياسة. مع خروج الأباتي نعمان من السلطة، تمّت السيطرة على دور الرهبان في الحرب، فسقطت الركيزة الرابعة المارونيّة.
لذا، يعتبر الأباتي شربل القسيس أنّ نهاية العصر الماروني حصلت قبل اتفاق الطائف بخمس أو ست سنين، وانحسر دور الموارنة في لبنان حتى الأفول.
(يتبع)
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]