لا شك بأن الجولة الاولى من الانتفاضة الشعبية التي انفجرت في 17 تشرين الأول من العام المنصرم، أحدثت تغييرا، وان كان محدودا، في المعادلة السياسية في لبنان.
فبعد أن كان لحزب الله، ما له وما لغيره على الساحة المحلية، خصوصا بعدما فرض نفسه شريكا أساسيا في حصة الرابحين بابتداعه معادلة الأضداد المسماة “الديمقراطية ـ التوافقية”، على الرغم من خسارته الأكثرية النيابية على دورتين انتخابيتين متتاليتين، وبعدما نصب نفسه مفوضاً سامياً أحادياً في قرارات السلم والحرب والتموضع الاقليمي، بابتداعه معادلة أضداد أخرى سماها “جيش ـ شعب ـ مقاومة”، ها هو اليوم يساير “مكرها” المطالب الشعبية “المحقة”، بل يذهب أبعد من ذلك الى محاولة احتوائها وتبنيها والمضي بها، خشية خروج قواعده عن السيطرة، بفعل الزلزال الشعبي المدمر.
انطلاقا من هنا، تبدو انتفاضة 17 تشرين نداً غير مسبوق لحزب الله، اذ انتزعت منه تنازلات حاول تصوير نفسه بطلاً لها. فحكومة حسان دياب، وان أتت شبيهة لحكومة القمصان السود في المضمون، غير أن الشكل والأسلوب اختلفا، ان من ناحية الأسماء التي استبعدت أو اختيرت بحذر خوفا من استفزاز الحراك، أو من ناحية النهج الحكومي الذي، وان كان أضعف من أن يجترح الحلول، فهو على الأقل، يحاول.
نعم، لقد نجح الحراك الشعبي بالحد من حركة حزب الله، وجعله يدرس خطواته بتمعن، بعدما أحدث فجوة في حاجز التهويل الذي يتمترس خلفه ليمارس سطوته على البلاد والعباد، وعلى البيئة الحاضنة! فما كان مفروضا على اللبنانيين بالقوة، بات اليوم غير مستحب، وغير مقبول، لا بل غير ممكن! غير أن الحراك، وفي محاولة منه كي يكون عابرا للطوائف والأحزاب، وقع في خطأ المسايرة المميت الذي سبقته اليه ثورة 14 آذار. فبدل التصويب مباشرة الى قلب المشكلة، وتسمية الأمور بأسمائها، حاول الالتفاف حول القضايا الشائكة في محاولة ساذجة لاستيعاب جمهور حزب الله، او على الأقل، لتجنب الصدام معه.
أفلحت انتفاضة 17 تشرين بتحديد أعراض المرض، لكنها أعرضت عن تسمية المرض! استفاضت في استعراض المصائب التي ابتلي بها الوطن الصغير، من حدود فالتة، ومطار سائب، ومرفأ منهوب، الى جباية غائبة ومؤسسات مهترئة وقضاء منحاز، ومن سلاح متفلت وسيادة منتهكة وعزلة عربية – دولية وعصابة حاكمة، الى عصابات مسلحة تسرح فوق الأرض وفوق القانون وفوق الجميع، لكن هالها تسمية المسؤول. صرخت الانتفاضة ثورة بوجه الفاسدين، لكنها أشارت بالأصابع الى صغار البيادق خوفا من إصبع الشاه المرفوع، وبنادقه المصوبة الى رؤوس الثوار!
نعم، المشكلة الأساس هي اجتماع طرفي النقيض في معادلة خشبية أضحت فيه الدويلة وأزلامها أقوى من الدولة، وكأننا لم نتعلم من دروس الماضي القريب، يوم اجتمعت تحت سماء لبنان ثورة ودولة، فانفجرا! ومع الأجواء السائدة عن الاستعدادات للجولة الثانية من الانتفاضة، بعدما ارتطم لبنان في قعر الهاوية اقتصاديا ومعيشيا واجتماعيا وصحيا، باتت المصارحة فعل ايمان لا بد من تلاوته قبل الشروع في اية عملية اصلاح قد تبنى على الرمال، فيعود البنيان لينهار على رؤوس اللبنانيين. فبناء الدولة يبدأ أولا بالاعتراف باستحالة التعايش بين منطق الدولة والمؤسسات ومنطق الدويلة والمربعات.
انطلاقا من هنا، لا بد من الاقرار بأن المشكلة تكمن في انتقاص هيبة الدولة بفعل تفشي السلاح غير الشرعي، وعلى رأسه سلاح حزب الله، الذي يفرض سياسات ويحرّم ويحلّل كما يشاء. آن الأوان لثورة 17 تشرين أن ترفع شعار السيادة قبل الشروع بمحاربة الفساد، لأن محاربة الفساد تستحيل بغياب السيادة التي تضمن حرية وعمل المؤسسات، وعلى رأسها القضاء. وهنا يكمن الخيار الصعب، بين مسايرة الحزب خشية الصدام معه فيبقى لبنان شبه وطن في مهب الريح، وبين مصارحة تضع الاصبع على الجرح، لتبدأ مسيرة طويلة من التعافي والنهوض. فهل يستطيع الحراك انتزاع المزيد من التنازلات من حزب الله، التي من شانها أن تصب في مصلحة لبنان؟ المؤشرات تبدو جيدة…