الأباتي شربل القسيس: وقت الخطر نخرج من الدير لنواجه – 1

حجم الخط

كتبت “المسيرة” – العدد 1704

(مجلة «الفصول» عدد 2 ربيع 1980) – مقابلة أجرتها إيلين دفوني

الأباتي شربل القسيس:

لبنان سيبقى ونحن سنبقى

ولن نرحل عنه أبدًا

وقت الخطر نخرج من الدير لنواجه (1)

 

كالخمرة العتيقة، في أقبية الخير، هكذا هي الحياة الرهبانية المسيحية وخاصة المارونية.

غبار التاريخ لم ينسَ أن يترك آثاره على الأديرة المرشوشة على قمم جبال لبنان العالية. وفي الزمهرير، والعواصف، كانت صلوات الرهبان تصعد مسبّحة الله في وجه الغضب الآتي من الخارج. وما أدراك ما الرهبانية عندنا. إنها البراءة والقداسة، التي عاشت، وربيت، في ربوع لبنان الخضراء.

أذكر، على ما أذكر، تلك الحياة القروية، البسيطة، الجبلية، بشيء من أريج القداسة، وبساطة القلب التي كان يعيشها أجدادنا، وتلك الحكايات القديمة التي قرأنا عنها. أتذكرون تقليد ليلة الغطاس عندنا؟ يقولون إن المسيح ليلتها يمرّ على كل البيوت وتسجد له الأشجار.

ومن يتذكّر حياة الرهبانية عندنا، مفروض عليه أن يمرّ بذكرى تلك الحياة التي، لفرط بساطتها وطيبتها، نسيَ الله ظله فيها. ومع مرور الوقت والزمن تبقى الرهبانيات المسيحية، وخاصة المارونية، الموضع الوحيد لقصة طويلة عاشت بين الألم والدموع والصلوات، ومع ذلك ظلّت المكان الأمين الذي يُحفظ فيه التراث والثقافة، فأول مطبعة عرفتها الأقطار العربية أُنشئت في دير مار قزحيا، كما أن الرهبان كانوا من المعلمين الأُوَل في الشرق العربي للغة العربية. وبالرغم من ميل الرهبان نحو القداسة والتصوّف، كانوا إبّان الشدائد من المدافعين الأُوَل عن معتقداتهم وأوطانهم.

… وتكر المسبحة والزمن يمر، وتمرّ الأيام، وتصل الى لبنان الحديث لبنان القرن العشرين. وتقع الأحداث الأخيرة، وتبدأ الرهبانيات المارونية بلعب دورها. ويبرز الى الواجهة رهبان ورجال دين، كانت لهم الأدوار العديدة في أحداث لبنان، وفي مقدمة هؤلاء الرهبان الأباتي شربل القسيس، الذي كان لنا معه الحديث الآتي:

بتقدم العصر والمدنية، تزداد أعباء الحياة، وهذا لا يجعل للحرية قيودًا، ومن المعروف أن الرهبان أصبحوا أكثر تحررًا بالنسبة للأنظمة الصارمة التي تحتّم بقاء الراهب في الدير. ما رأيك؟

لا شك في أن الحياة الرهبانية هي، قبل كل شيء، حياة عصامية، ومن هنا قوتها واستمراريتها وعملها الدائم الفعّال. لكن هل يعني أن النظام يتنافى والحرية؟ لا تنسي أننا مؤمنون، وأن كتابنا المقدس يتحدث عن حرية أبناء الله، كما وأننا في الكتاب المقدس نعرف أننا على صورة الله ومثاله خُلقنا. ومن مزايا هذه الصورة الحرية، الى حد أن أحد الكتبة المفكرين قال: إن نقطة الضعف الوحيد عند الله هي الحرية للإنسان، فإن كانت الحرية هي نقطة الضعف الوحيدة عند الله، فهل الأنظمة الرهبانية ستذهب ضد هذه الحرية وتبقى مسيحية؟ عظمة الحياة المسيحية أنها ملزمة في الداخل وفي الخارج، وأن الشرائع فيها تتوجّه الى الضمير قبل أن تتوجّه الى ممارسات خارجية، من هنا أقول إن النظام لا يتنافى البتة مع الحرية، وإن ما يُقال اليوم عن ضرورة الإنفتاح ليس بجديد بالنسبة للذين تمرّسوا على الحياة الدينية. المسيح لم يطلب منا أن نخرج من العالم، بل طلب منا أن لا نكون من العالم، أن ننطلق خارج الدير لممارسة أعمالنا الرعوية والتربوية والإجتماعية، فهذا لا يتنافى وحياتنا النظامية. لكن بعض الذين يفكرون أن الحرية تتنافى والنظام، يصطدمون بهذا الواقع. من هنا لا أرى صعوبة بين الحياة النظامية الرهبانية، وبين الحرية بمعناها الحقيقي، حرية أبناء الله تعالى.

 

حضرة الأباتي شربل القسيس، من المعروف أن القداس الماروني يحوي بعض المقاطع السريانية، وأن السريانية كانت لغة الرهبان. فهل من الممكن أن نسمع منك قصة إنتقال المسيحيين، والموارنة بشكل خاص، من اللغة السريانية الى اللغة العربية؟

الليتورجية في الكنيسة هي، في جوهرها، حوار بين الله والإنسان. ولذا، ليس للغة من قيمة جوهرية بالنسبة لليتورجية. عندما بدأ شعبنا الماروني ينسى اللغة السريانية ويتكلم العربية، أصبح من الصعب جدًا عليه أن ينفذ الى عمق الصلوات السريانية التي كان يتلوها كالببغاء، لذا رأت الكنيسة أن تحوّر في اللغة الليتورجية، رغم جمال هذه اللغة ورغم قدمها ورغم كونها هي اللغة الأم التي تكلم بها المسيح. وقد يأخذ البعض علينا هذا التغيير، فنجيب: لم تكن يومًا الليتورجية متحفاً للآثار، مهما كانت قيمة هذه الآثار إنما تريدها حية، نريدها لغة تتجاوب مع لغة الله والإنسان. للحقيقة، لم تُترجم الليتورجية بكاملها إلا في القرن الأخير. ويروي التاريخ لنا أن الشمال كان يتكلم السريانية، وأن السمعاني، ذاك العالم الكبير، عندما جاء من روما ليزور أمه في لبنان تكلم معها السريانية، فإذن لا يأخذ علينا الغير تحوير هذه اللغة. نحن مستعدون لتعليم اللغة السريانية شرط أن يقبل أهل الأولاد أن يلزموا أولادهم بتعلُّمها.

 

إبان الأحداث الأخيرة، إتهم أبو أياد الأب بولس نعمان بأن الرهبان ساهموا بتأجيج نار تلك الأحداث، فرد عليه الأب نعمان بأنه لو كان للفلسطينيين رهبان كما للموارنة في لبنان لما خسروا فلسطين. فما صحة هذا القول؟

الصراع بين الأب بولس نعمان وأبو أياد ليس مرده لهذا القول، إنما مرد الصراع والإتهامات الى أن أبو أياد حوّر في أقوال الأب بولس نعمان. فاتهامه الرهبان أنهم الذين أجّجوا نار الحرب خالٍ من الصحة كليًا. الرهبان ساهموا الى حد بعيد في صمود القوى اللبنانية، لكنهم ليسوا هم الذين أجّجوا الحرب. وقول الأب نعمان أنه لو كان في فلسطين رهبانيات كما في لبنان لما أصبح الفلسطينيون في لبنان على ما هم عليه اليوم، فهذا إعتراف يعود الى أحد الفلسطينيين أنفسهم يوم شكلوا اللجان المشتركة سنة 1975، من الأحزاب المحاربة ومن بعض الفلسطينيين، فكان هؤلاء الشباب يتجاذبون الحديث بعضهم مع البعض الآخر. ويظهر أن أحد الشبان اللبنانيين حمّل الفلسطينيين أوزار الحرب في لبنان، وانتهى بالقول: تأخذون علينا أننا ندافع عن أرضنا بشراسة وبقوة، فبدلاً من أن تأخذوا علينا هذا المأخذ، عليكم أن تتخذونا مثالاً، إن لم يكن في الماضي فعلى الأقل في المستقبل، فتتعلموا محبة الأرض منا، وقد تدافعون عن أرضكم على أرضكم لا على أرضنا، كما نحن ندافع عن أرضنا في أرضنا. ولما تضايق الفلسطينيون من هذا الكلام، أجاب: لو كان لنا رهبان كما عندكم أنتم في لبنان، لما كنتم رأيتمونا اليوم عندكم. فهذا القول إذن لفلسطيني وليس للأب بولس نعمان، والأب نعمان ذكره مرارًا، وكلنا نردده.

 

قيل الكثير عن رجالات السياسات والدين عندنا، والإتهامات المضادة أكثر من أن تُحصى، حتى إنهم طلبوا منك أن تلتزم الدير والصلاة بدلاً من التدخل في السياسة، وذلك بوصفك راهبًا ملزمًا بالمسائل الدينية فقط. حضرة الأباتي، ألا ترى أن هناك تناقضًا بين الدين والسياسة؟

أن ألتزم الدير فهذا من واجباتي، ولكن أن أبتعد عن واجباتي الوطنية فهذا يتنافى والحياة المسيحية والرهبانية عامة. السياسة، بمفهومي، عمل وطني، قبل أن تكون حزازات محلية. السياسة، بمعناها الصحيح، هي الإلتزام بكل ما هو وطني. فأنا أسائل: هل العمل في سبيل الإنسان، ومن أجل الإنسان، هو منافٍ للحياة المسيحية؟ الرهبان في لبنان هم رجال طوارئ، بينهم وبين اللبنانيين أكثر من إلتزام وأكثر من إنضباط وعلاقة. إلتزامنا بالشعب اللبناني يتخطّى السياسة. فالماروني، في كل مرة، كان يجنّد كل ما عنده من طاقات في سبيل الترقّي الإجتماعي الإنساني في لبنان، وفي كل مرة كان الماروني والمسيحي موضع ثقة من الآخرين، كان مثالاً للتعايش والتفاعل والتحاور، وفي كل مرة يشعر المسيحي في لبنان، وعلى رأسه الراهب، أن مصيره في خطر، يجنّد كل ما عنده من قوى لمعركة البقاء. نحن، إذن، رجال طوارئ، فإن يتعرّض شعبنا وأرضنا للخطر، نخرج من الدير ونتفاعل كليًا ونلتزم بكل ما يلتزم به اللبناني. وعندما يصبح اللبناني والوطن في مأمن، يعود الراهب الى ديره، لكنه يظل مع شعبه وبين شعبه.

 

من المعروف أن الرهبان، أو رجال الدين، عندنا، هم دائمًا موضع إتهام، ولا مجال لذكر الأمور بتفاصيلها. واعذرني إذا قلت إن بعض ما يتداوله الناس قد يسري على بعض رجال الدين، حتى لكأن ذلك قد يسبّب نقمة من الناس على رجال الدين. فهل تعترف معي بهذا الموضوع؟

الإتهام سهل، لكن إثبات الإتهام صعب. أن نكون عند بعضهم موضع إتهام، وأن نخرج من صمتنا من جراء هذا الموقف، فهذا أمر طبيعي وإنساني، لكن أن يعمّم الإتهام على كل رجال الدين، وكأنهم وحدهم طلب منهم السيد المسيح أن يكونوا كاملين، كما أن أباهم السماوي كامل، فهذا خطأ في مفهوم الدين أيضًا. لن نردّ الكيل للآخرين، إنما نطلب منهم شيئاً من الموضوعية وبعض النزاهة، والترفّع في حكمهم علينا، لأننا نحن بشر مثلهم.

(يتبع)

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل