الأباتي أثناسيوس الجلخ: من القلة الذين صنعوا التاريخ

حجم الخط

كتبت “المسيرة” – العدد 1704

الأباتي أثناسيوس الجلخ في أربعين الراحل الأباتي شربل القسيس: من القلة الذين صنعوا التاريخ

1 نيسان 2001 الساعة 9،30 صباحًا، دير مار أنطونيوس ـ غزير

هذا القول من سفر الحكمة يختصر شخصية قدس الأباتي الراحل شربل القسيس، الذي نقيم اليوم ذكرى الأربعين لوفاته. ويملأ قلبنا الرجاء والإيمان، واثقين أنه يتمتع برؤية وجه الرب الذي خدمه في الحياة الرهبانية طوال سنوات عمره دون منّة أو حدود. وننحني بخشوع وإجلال أمام غنى شخصية الراحل الكبير. الكِبر هذه الصفة التي تنطبق عليه وقد لازمته جوانب حياته كلها.

نشأ كبيرًا في عائلة كريمة، عائلة إشتهرت بالعلم والتقوى عائلة القسيس، من أبناء بلدة قرطبا العريقة الرابضة بوداعة على تغضّنات قمم منطقة جبيل، عائلة تحمل أصالة عائلات الجبل الكريمة والقيم التي نتغنّى بها، كانت وتبقى أهم ضمانة لوجودنا المسيحي ولاستمرارية إرث المروءة والرصانة والإنفتاح والتضحية والخدمة والتواضع والعزّة. كبيرًا في خياراته الحياتية التي اعتنقها منذ نعومة أظفاره، وهو بعد في ريعان الشباب، يوم ترك كل شيء قاصدًا الترهّب، تاركاً دون أسف كل طموح العالم وأمجاه، ليتفتح في حضن أمجاد رهبانية كانت وتبقى الأرض الطيبة التي تنبت غلال الخير والبركة.

كبيرًا في رئاسته العامة وفي إدارته الرهبانية. فعلى الرغم من تردي الأوضاع السياسية في البلاد، وتفشّي الفوضى والقتال، حافظ على الرهبانية، وسعى الى تنمية الأديار والمؤسسات، فبنى مستشفى سيدة المعونات في جبيل، وأنشأ الكليات في جامعة الروح القدس الكسليك، وأضاف الأبنية لاستيعاب الطلاب، وشجّع النهضة الليتورجية، كما عاشت الرهبانية في أيام رئاسته فرادة حدث إعلان قداسة القديس شربل سنة 1977.

كبيرًا في وطنيته. لقد شكّل في شخصه حالة وحدة، يوم كان الوطن يرتع في مناخ من الشرذمة والضياع. سعى الى خلق مناخ منسجم بين أقطاب القوى المسيحية المختلفة وكان من المؤسسين للجبهة اللبنانية. حمل همّ الوطن يوم كان الوطن في حالة فراغ من المسؤولين، يلفّ مصيره ضباب التجاذبات الداخلية والخارجية. فوقف في وجه دين براون يوم كانت السياسة الخارجية تسعى الى ترحيل المسيحيين عن لبنان وإيجاد بلد بديل لهم في كندا أو غيرها من البلدان، وضد الوجود الأجنبي على الأرض اللبنانية، خصوصًا الوجود الفلسطيني.

وكبيرًا في إنسانيته وفي احترام معاناة الشعب. لم يألُ جهدًا في محاولة تأمين ما عجزت عنه الدولة للمهجّرين من أبناء الجبل وبيروت. ففتح أبواب أديار الرهبانية لتتقبّل آلاف المهجّرين، ولم يتوانَ عن إخراج الإخوة اللاهوتيين من الكسليك من غرفهم وقاعات تدريسهم ليتحوّل الكسليك الى واحة أمل للذين فقدوا كل أمل وهُجِّروا من أرضهم وبيوتهم، وتأمين المسكن والمأكل والطبابة والدعم المعنوي والروحي لهم دون حساب. ومن وجوه كِبر الراحل هو عمله الإنساني الذي لم يميّز بين مسلم ومسيحي. يوم تعرّضت المنطقة الغربية لأزمة تموينية حادة قال الأباتي القسيس ما حرفيته: «إن الأخوة والمحبة بين اللبنانيين فوق أي إعتبار آخر، ونحن مستعدون لاقتسام الرغيف مع إخواننا في المنطقة الغربية، إننا بكل محبة نتوجّه الى الرئيس صائب سلام والى إخوانه وإخواننا الأحباء في المنطقة الغربية من بيروت الحبيبة، لتأمين طريقة فضلى وآمنة لاقتسام الرغيف الذي ما يزال بين أيدينا»، هذا ما أوردته صحيفة «الأنوار» بالحرف العريض في عددها الصادر الأحد 16 تموز سنة 1976.

كبيرًا في ثقافته وتواضعه، رفيقه الملازم الكتاب، ونزهته الأغلى القراءة. يدهشك بسعة ثقافته، ويجذبك بدقة تحليلاته، ويكسب ثقتك بمرونة تعامله. عند إنتهاء رئاسته العامة لم يستصغر العودة الى حياة الراهب الديري، فزاول أوضع الأعمال في المزرعة في دير سيدة المعونات، وفي دير مار سركيس وباخوس ـ قرطبا. أرزة شامخة جديدة تُضاف الى غابة أرزات الرهبانية، لا تلوي، لا تزويها الريح والعواصف. الأباتي شربل القسيس من القلّة الذين صنعوا التاريخ، والتاريخ حُكمًا سوف يشهد له. يشهد لحكمته التي بناها لا على حكمة أهل الأرض بل على الحكمة التي تجلّت إشراقاً في حياته وعقله وعمله، حكمة مخافة الله على حد قول صاحب المزامير: رأسُ الحكمة مخافة الرب.

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل