كتبت “المسيرة” – العدد 1704
الأباتي الهاشم في ذكرى تأسيس الرهبانية:
• أديارنا ترسم خارطة لبنان • رهبان كثر استشهدوا كما استشهد الناس
• ضمانتنا عمق إيماننا ورسالتنا • لا مجال للخوف ولا لخيانة الدور والرسالة
• أملاك الرهبانية هي المخزون الاستراتيجي لشعبنا (3)
نص الكلمة التي ألقاها قدس الأب العام نعمة الله الهاشم لمناسبة الذكرى السنوية ال324 وافتتاح السنة اليوبيلية ال325 على تأسيس الرهبنة اللبنانية المارونية في كنيسة مار شربل في دير مار مارون – عنايا في 10 تشرين الثاني 2019
4- موقف الرهبانيّة
أمام هذه الحالة، ما هو موقفنا كرهبانيّة؟ وما هي الأجوبة التي يمكن أن نقدّمها ونساهم من خلالها في خلاص شعبنا من الحالة الحاضرة؟
قبل الإجابة إسمحوا لي أن أعبّر عن إفتخاري الدائم بانتمائي لهذه الرهبانيّة وبشكل خاص في هذا الوقت الحاضر، واسمحوا لي أن أوجّه تحيّة لكلّ منكم حاضرين وغائبين، على ردّة الفعل العفويّة التي عبّرت بواسطتها الرهبانيّة عن موقفها، وهي كانت من خلال التوجّه إلى الصلاة بالدرجة الأولى، فبدأنا الصلوات في الأديار تلبية لدعوة مجمع الرئاسة العامّة، بعد ذلك تجاوبنا مع دعوة غبطة البطريرك لصلاة المسبحة، وجميعا نشارك في الصلوات اليوميّة. هذا أمر نشكر عليه، لكنّنا نقوم بواجبنا، وهذه علامة بأنّ مستوى الفساد ليس مرتفعا بيننا. نحن نعيش حياتنا ونحاول أن نقوم بواجبنا، وهذا أمر إيجابي نشكر الربّ عليه، ونطلب منه تقويتنا على الاستمرار به.
والأمر الثاني، الذي ليس بالأهميّة ذاتها، إنمّا هو مهمّ بحدّ ذاته، هو درجة «الإنضباط» التي أظهرتها الرهبانيّة في هذه المرحلة. لم نعتد على الإنضباط في ظروف مماثلة. إنمّا في هذه المرحلة كانت ردّات فعلنا ناضجة ومسؤولة. وأقول ذلك أيضًا بشهادة الجميع من مختلف الفئات. جميعهم يعتبر أن الرهبانيّة تتصرّف بنضج ومسؤوليّة مع الوضع الحالي. أؤكّد لكم بأنّ للموجودين هنا وللغائبين أيضًا قراءات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة مختلفة لما يحصل. البعض يعتبر أن ما نعيشه حاليًا هو نتيجة طبيعيّة لما عشناه في المرحلة السابقة، والبعض الآخر يعتبر أن الأمر نتيجة مؤمرات خارجيّة… قراءات مختلفة جدّا، وهذا حقّ وواجب، ولا يجب أن يكون لدينا قراءة واحدة، وهذا دليل صحّة. ودليل الصحّة أيضًا أنّه بالرغم من القراءات المختلفة كانت ردّة الفعل واحدة، وهذا مهمّ جدّا لنا كجسم واحد، وهذا علامة بأننا جسم واحد ناضج، بقوّة الله، يعرف كيف يتصرّف بالشكل الصحيح. فكلّ الشكر وكلّ التحيّة لجميع أبناء الرهبانيّة. وتحيّة خاصّة لمؤسّساتنا التي هي على تماس يوميّ مع المجتمع، وبشكل خاصّ للمؤسسات التربوية التي تمتّعت بوعي كبير في التعامل مع الحالة الحاضرة وكيفيّة التعاطي معها. أشكر هذه المؤسسات على التجاوب معنا وعلى احتمالهم لاتصالاتي المتكرّرة واليوميّة لمتابعة الأمور معهم، أرجو أن تعبر الأزمة سريعًا. من المؤكّد أنّنا ما زال الكثير أمامنا لكن البداية كانت جيّدة.
وبالعودة إلى قراءتنا للحالة الحاضرة وكيف يمكن أن نكوّن الموقف الذي يجب أخذه، وما هي الرسالة والشهادة التي يجب أن نشهد بها ونساهم من خلالها بإيجاد الحلول. أعود وأردد أنّنا نتخذ هذا الموقف إستنادا إلى كلمة الله في الكتاب المقدّس وإلى تاريخنا وإلى استلهامنا للروح القدس. ومع الآباء المدبّرين قرّرنا أن تكون هذه السنة اليوبيليّة تحت شفاعة الأخ إسطفان نعمه، التي تشكل حياته وشهادته الجواب الأهمّ لنا والموقف الذي يمكن أن نعيشه في الظروف الحاليّة. إذن فنحن نعلن هذه السنة اليوبيليّة تحت شفاعة الطوباوي الأخ إسطفان، ونبحث كيف نجد في تاريخنا ورسالتنا بعض الأجوبة على السؤال كيف نعيش وكيف نعالج المشاكل الحاليّة والقادمة.
أ-بالنسبة لفقدان الثقة، هو يعلّمنا أنّه لا يمكننا الاتكال على أيّ شيء غير الله في كلّ شيء. هناك آية في الكتاب المقدّس، نقولها خطأ في المثل الشعبي: إن لم يبنِ ربّ البيت، وهي بالفعل:»إن لم يبنِ الربّ البيت فعبثا يتعب البنّاؤون، إن لم يحرس الربّ المدينة فعبثا يتعب الحرّاس»، وهي تعلّمنا أن نتّكل على الله في كلّ شيء ولا نتّكل على أيّ شيء غيره. الإتّكال الأوّل يجب أن يكون على ألله، وثقتنا الأولى هي بالله. لذلك فالجهد الأوّل والتركيز الأوّل يجب أن يكون على الصلاة والصلاة ومن ثمّ الصلاة ثمّ الصلاة. في حياة الأخ إسطفان الذي عاش مرحلة المجاعة نرى أنّه في هذه الفترة، وفي كل مراحل حياته، كانت الصلاة الدائمة هي الأمر الأساسي في حياته، بالإضافة إلى مشاركته بالصلوات القانونيّة. كانت المسبحة لا تفارق يده أبدا. وجوابنا نحن أيضا الآن في حالتنا الحاضرة وفي كلّ حالة هو الصلاة. هذا هو الشيء الاوّل والأساسي الذي يمكننا تقديمه لذواتنا ولرهبانيتنا ولمجتمعنا. علينا أن نصلّي ونؤمن أنّ هذه هي واجباتنا الاساسيّة، وأن نؤمن أنّه بالصلاة تحلّ المشاكل. على الذين يسألوننا ما العمل؟ الجواب الأوّل هو الصلاة، لأننا جميعا بيد الله، ولأنّه تبيّنت لنا هشاشة كلّ شيء آخر، ولأنّه ليس هناك أيّ نوع آخر من الضمانات تساعد. الضمانة الأولى والأخيرة هي الصلاة، لأنّ الله هو الحامي والله هو الموجّه الأوّل، الله هو سيّد التاريخ، هو اختارنا، هو وضعنا في هذا الزمان وفي هذا المكان وأعطانا هذه الرسالة. هو يسهر علينا. هذه هي مساهمة قدّيسينا الأساسيّة. ولا يمكن لأيّة مؤسّسة أو لأيّ كان أن يفتخر بأنّه عمل للبنان أكثر من القديس شربل، لا نحن ولا غيرنا. وبماذا كمنت مساهمته؟ هل إنتاج كرم العنب قرب المحبسة حسّن الاقتصاد؟! من المؤكّد أن العمل مهمّ وسوف اتكلّم عنه لاحقا، إنّما الشيء الاساسي والأوّل هو الصلاة. والأمر الأساسي الذي قام به الاخ إسطفان هو الصلاة. أنّه المطلوب الأوّل منّا الآن. وأشكر الله أنّ كثيرين بيننا مقتنعون بذلك ويطلبون أن يعيشوا حياة مكرّسة أكثر للصلاة. وهذا يجب أن يكون أيضا موقف كلّ فرد منّا. ومنظومة الثقة المفقودة لا يمكن ان نعيد ترميمها إلا من خلال الإيمان والثقة بالله. عندما نصبح جماعة مؤمنين صادقين، عندها تنمو ثقتنا ببعضنا البعض، لأنّ الله موجود. وكما نقول في العاميّة «في ألله».
ب – أمّا بالنسبة للفساد، وقبل تقديم الإجابة، لنرى ماذا تعني هذه الكلمة. هناك تفاسير كثيرة، لكن قبل أن تفقد معناها بفعل استهلاكها وتعميمها، لنحاول ان نعرف ما هو تحديدها. بإختصار يمكن القول أن الفساد هو إستغلال الموقع والصفة والمنصب والوظيفة والحالة أو القوانين والهيكليّات بهدف الحصول على منفعة شخصيّة أو فئويّة، أيّ استغلال من قبل فرد أو مجموعة لما هو معدّ للخير العام أو الشخصيّ للحصول على مصلحة شخصيّة أو فئويّة فقط. تسخير حالة معينة بهدف الإفادة الفرديّة أو الفئويّة، أو أكثر من ذلك، إستغلال الحالات والأحداث، كما يحصل بالنسبة للأوضاع الحاليّة مثلا. من يحاول إستغلال صدق شيء ما للإفادة الفئويّة أو الفردية من هذه الحالة، أو من يستفيد من مرض معيّن… كلّ ذلك إستغلال للحصول على مصلحة فرديّة بدل الوصول إلى الخير العام، هذا هو الفساد. والفساد آفة بغيضة جدّا عند الآخرين، وليس هناك أسوأ من الفساد عند أخي أو عند عدوّي، إنّما لا أحد يتنبّه لوجود الفساد لديه أو لدى جماعته. هناك مثل في أحد البلاد العربيّة يقول: «ما أخيب نقيصتي عند غيري». بمعنى آخر، فالفساد هو تجربة تعرض لنا جميعا ولكلّ منّا. وكلّ جماعة فيها نسبة من الفساد. الفساد هو تجربة إنسانيّة وعامّة، إنّما على درجات مختلفة. هو مرض شائع مثل الأمراض «النائمة» عند الجميع وتظهر أحيانا عند البعض لأسباب معيّنة. إنّها حالتنا البشريّة. ومن المؤكّد أن معالجة الفساد تتطلب إصلاح الهيكليّات والأساليب الإداريّة، والأهم أن يكون هناك محاسبة في النهاية. إنّما جوابنا نحن على الفساد ومعالجة هذه الآفة هو من خلال معرفتنا أن الإصلاح الحقيقي والحرب الحقيقية ضدّ الفساد تبدأ بالذات، تبدأ عندما يعيش كلّ منّا حالته ورسالته ووظيفته في سبيل خدمة الخير العام والآخرين، وبهدف خير الآخرين وتقديسهم. تبدأ عندما نقتنع أنّ على رهبانيتنا عمل كل شيء في سبيل الخير العام، في سبيل بناء الملكوت، في سبيل الآخرين وليس بهدف الإستفادة الأنانيّة والذاتية. هكذا نجح القديسون بيننا. جميعهم نجحوا: نجح شربل وفاض الخير من خلال نجاحه، وفي حال نجاح كلّ منّا يمكن تخيّل الخير والإفادة التي يمكننا أن نجلبها لعالمنا ومجتمعنا المعاصر، وفي حال نجحنا كجماعة فكم ستكون شهادتنا فعّالة ومفيدة لغيرنا. رأيتم كيف ظهر السياسيون واحد تلو الآخر لكي يصرّحوا بأنّهم نظّافوأنقياء وأشاروا على غيرهم بالفساد. في نفوسكم ضحكتم ساخرين. فليس من أحد منهم تجرّأ على تحمّل مسؤوليّة ولو جزء من هذا الفساد. أمّا نحن علينا أن نكون مستعدين، على كلّ منّا، ابتداء منّي، أن يقرّ بأنّه يتحمّل مسؤوليّة جزء من هذا الفساد. عندما لم نلتزم بحالتنا كما يجب، عندما عشنا حالتنا للإفادة الشخصيّة أو الأنانيّة، كنّا نساهم بالفساد الذي نراه أمامنا. وبالرغم من استعدادي الدائم للحوار والنقاش، اسمحوا لي هذه المرّة بالقول أنّني لن أحاور مع من يريد القول أنّه لم يساهم في الفساد. «كلّنا يعني كلّنا»، كلّنا يجب أن نحاول تنظيف ذواتنا، كلّنا علينا أن نحاول تنظيف أنفسنا من هذه الآفة. ولست أفشي سرّا عندما أقول بأنّ مسيرة حياتنا الرهبانيّة تقوم على تقديس الذات، الذي هو إعلان الحرب على الفساد وعلى الشرّ الذي في داخلنا. هذا هو مشروع حياتنا. عندما نبدأ به ونعيشه بحقّ، نكون نعيش حياتنا بصدق. سبب وجودنا كرهبان هو محاربة الفساد الذي فينا. وهذه المساهمة هي أكثر ما يمكننا تقديمه، إنّها مهمّة بشكل خاصّ أمام ربّنا. أمّا من ناحية التطبيق، فيمكننا الإستعانة بشعار الأخ إسطفان «الله يراني»، عندما نعيش كلّ شيء نقوم به أمام ربنا وتحت نظره. نظر الرب الراعي الذي يراني ويهتمّ بي، لكن أيضا أمام الربّ الذي يعرف كلّ شيء. قد نتمكن من إخفاء بعض الأمور عن الآخرين وحتى على الذات أحيانا، يمكننا إخفاء بعض فسادنا بواسطة آلية سيكولوجيّة معقّدة، إنّما لا يمكننا إخفاء ذلك على ربّنا. على جميع الفاسدين أن يعلموا أنّه «في ألله»، وأنّ الله يراهم ويرانا أيضا ويرى كلّ واحد منّا. «الله يراني» هو الشعار الذي سوف نعيش بحسبه ونبشّر به. إنّها الشفافيّة التي لا يحارب الفساد إلا بواسطتها. والشفافيّة هي عندما يعلم كلّ أحد أن كلّ شيء يعمله هو تحت نظر الربّ، عندما يعلم أهلنا وأخوتنا وعائلاتنا وأحزابنا وسياسيّونا أن الله يراهم. الشعب يرى أحيانا، وأحيانا نريه نحن ما يجب عليه أن يراه، إنّما الله يرى دائما كّل مسيرتنا. هذا ما نأخذه من مثال الأخ إسطفان.
ج – وأخيرا تجاه القلق والخوف من الوضع الإقتصاديّ والمعيشيّ والماليّ لدينا ثلاثة إجابات متلازمة:
– أوّلا: الإجابة الأولى تنبثق من طبيعة حياتنا ومن حياة قدّيسينا وبشكل خاصّ الأخ إسطفان وهو التقشّف. في كلمة المعايدة بمناسبة العيد الكبير، طلبت أن يكون شعارنا هذه السنة «التقشّف والشفافية». لست نبيّا، إنّما كرئيس عام، ألهمني ربّي مع الآباء المدبّرين ذلك. وأنظروا أين نحن الآن. والتقشّف يعني أن يعرف الإنسان، أنّه في وسط العالم الاستهلاكي الذي نعيش فيه، لا يحقّ له استهلاك أكثر مما يحتاج إليه، حتّى البيئة لم تعد تحتملنا كبشر. «كلّنا يعني كلّنا» نستهلك أكثر بكثير مما نحن بحاجة إليه. فالتقشّف الذي نلتزم به مسيحيا هو حاجة إنسانيّة حاليّا وحاجة كونيّة. لا يحقّ لنا أن نستهلك أكثر مما نحن بحاجة إليه. والرهبان والقديسون يذهبون أبعد من ذلك، إذ يستهلكون أقلّ مما هم بحاجة إليه. هكذا تقدّسوا وهكذا عاشوا الأصوام والإماتات. وهكذا نترك الباقي لإخوتنا فقراء هذا العالم وللمعدومين على مختلف الأصعدة. يجب أن نترك شيئا للآخرين الذي يعيشون معنا ولا يصلهم ما نتمتع به، وعلينا أيضا أن نترك شيئا للأجيال اللاحقة. لا يمكن استهلاك كلّ شيء. هذه القيمة التي عاشها الأخ إسطفان والتي عاشها قديسونا يحتاجها مجتمعنا اليوم بشدّة. تعلمون أن المحلّلين الإقتصاديين والعالمين بالأمور الإقتصاديّة بينكم يعتبرون بأن المشكلة الماليّة التي نمرّ بها ناتجة بشكل أساسي عن العجز في الميزان التجاري، أي أنّ لبنان يستورد ويستهلك كميّة كبيرة تفوق قيمة ما ينتج ويصدّر بكثير، وهذا الفرق يخلق العجز في الميزان التجاري. نحن كأفراد وكرهبانيّة يجب أن نعرف كيف نستهلك أقلّ بكثير مما ننتج. هكذا عاش القديسون والأخ إسطفان والرهبان الذي سبقونا، وهذا مما يحتاجه مجتمعنا وعائلاتنا للخروج من المشكلة الحاليّة. هذا هو العلاج الأساسي الذي يختصر ما يحاول الكثيرون فلسفته. وهنا أقول بأنّه علينا أن نبدأ بعيش مرحلة تقشّف جديّة. بالنسبة لنا هذا مفيد جدّا على جميع الأصعدة، خصوصا على الصعيد الروحي والإنساني، وهذا مفيد لرسالتنا الروحيّة، ويفيدنا أيضا كي نستطيع التضامن مع غيرنا ونخدمهم ويمكننا أن نقوم بذلك. وبإرادة الله سوف نبدأ، كلّ منّا على الصعيد الفردي، وكذلك على الصعيد الجماعي بأداء هذه الشهادة الأساسيّة والمهمّة تجاه الخوف والقلق من الوضع الإقتصادي والماليّ.
– ثانيا: الأمر الثاني الذي نستوحيه من تاريخنا ومن رسالتنا ومن مثل قديّسينا وبشكل خاصّ من مثل الأخ إسطفان، هو العمل والإنتاج. الأخ إسطفان، الأخ العامل، كان بحالة عمل دائم. أخوتنا الرهبان كانوا دائمي العمل، والعمل قيمة مهمّة جدّا. «من لا يعمل لا يأكل». في العمل نشارك الله في الخلق. نرى اليوم ميلا عاما في عالمنا الحاضر للتفتيش عن طريقة للعيش دون العمل، وهذا يسبب اختلالا عاما. في الكتاب المقدّس نقرأ أنّه حتّى الله عمل ستة ايام وارتاح في اليوم السابع، أيّ أن النسبة هي واحد على سبعة، ستّة أيام عمل ويوم راحة، فلا يمكن قلب المقاييس. لكن إذا نظرنا إلى مجتمعنا اللبناني، – وهنا اسمحوا لي ولو لمرّة أن أوجّه انتقادا إلى الخارج – نرى أنّ لديه مشكلة مع العمل، لذلك علينا أن نجدّ في عملنا أكثر، في عملنا الفكري والإداري والرسولي… مع التشديد على العمل اليدوي، وبشكل خاصّ العمل الزراعي. في لقاء الرؤساء القادم سوف أدعو الرؤساء رسميا إلى زراعة جميع الأراضي المتاحة بالحبوب أو غيرها. هذا شيء جيّد لأنّ العمل الزراعي يتناسب جدّا مع حياتنا الرهبانيّة ومع إمكانيّات ومقدّرات رهبانيّتنا. يجب أن نعود كأفراد وكجماعة إلى العمل ونقدّم شهادة العمل. أكثر من نصف العمّال في لبنان ليسوا لبنانيين، لن يمكننا الاستمرار في هذا الرخاء، علينا أن نعمل وأن نقنع مجتمعنا أنه لا يمكن الخروج من هذه الأزمة دون التقشف والعمل. والعامل على خلاف المستهلك لا يأخذ شيئا من أمام الآخر، بمعنى آخر المستهلك يأخذ «حصّة» غيره أمّا العامل لا يأخذ العمل من الآخرين، إنّما إذا عمل بجدّ يخلق فرص عمل للآخرين. وتعلمون كم فرصة عمل نؤمّن لشعبنا حيث نعمل بجدّ، وهذا شيء حسن. عندما نعمل لا نخف أن نسلب شيئا من غيرنا، على عكس ذلك، نحن نفيد الآخرين بخلق فرص عمل لهم.
– ثالثا: امّا الموقف الثالث تجاه القلق والخوف من الوضع الإقتصاديّ والماليّ فهو الموقف الأكثر طبيعيّة وهو المشاركة النابعة من المحبّة ومن تاريخ رهبانيتنا، من قديّسينا ومن حياة الأخ إسطفان. تعلمون جميعا أن الأخ إسطفان، في خلال الحرب العالميّة الأولى، كيف كان يأخذ القليل الذي يقدّم له من الطعام ليوزّعه على الفقراء ويقتسمه معهم، كيف كان يهتم بكلّ أحد ويشاركه بما هو معتبر له. هذا ما نحن مدعوون جدا لعيشه على الصعيد الفرديّ، – ليفهم القارئ والسامع – أنّه يجب أن نقدّم ما هو مفترض لنا لغيرنا، وعلينا أن نعيش الأمر ذاته على الصعيد الجماعي كما عملت الرهبانيّة سابقا. أملاك الرهبانيّة ومقدّراتها ليست ضمانة لاستمراريتنا أو خزّانا للعيش الرغيد أو المترف لنا أو لبعض المقرّبين أو غيرهم. املاك الرهبانيّة ومقدّراتها هي المخزون الاستراتيجي لفقرائنا ولشعبنا. هذا هو قانوننا، وهذا هو تاريخنا، وهكذا تصرّفت الرهبانيّة دائما. والمثل الأكبر الذي نقدّمه هو أنّه في خلال الحرب العالميّة الأولى لم تسأل الرهبانيّة عن شيء وكان الوضع اسوأ بكثير، وكان الرهبان يعيشون الفقر في الأديار، ولم يتردّدوا في تقديم كلّ ممتلكاتهم من أجل مشاركة شعبهم وإبعاد الجوع عنه. إنهم أجدادنا القريبين، من مئة سنة فقط، قاموا بذلك. ونحن أيضا علينا أن نكون على استعداد على المستوى الشخصيّ مثل الأخ إسطفان، أن نتقشّف ونخفّف من إستهلاكنا (وهذا بشكل دائم) ونعمل لنزيد الإنتاج ونتقاسم الخبز مع غيرنا، خبزنا الخاصّ، وأن نكون على استعداد كرهبانيّة أن نضع مقدراتنا وأملاكنا وكلّ شيء بخدمة شعبنا، بكل تأكيد، ضمن الأطر اللازمة وضمن التوقيت اللازم، لكن دون خوف. ما سوف يبقى أكثر بكثير، ما سوف يعود علينا أكثر بكثير. لأنّه ستبقى لنا رسالتنا وحياتنا الروحيّة والتزامنا الصادق، وهذا هو أساس كلّ شيء. وما سوف يعود لنا هو الثقة والإيمان بالله والصلاة الدائمة وشفافيّة «الله يراني».
تقشّف وعمل ومشاركة… هذه هي القيم التي نعيشها، وهذه هي القيم التي نجاوب بها ويرتكز عليها موقفنا ونساهم بواسطتها في إخراج لبنان وشعبه من الأزمة الحاليّة. هكذا نحقّق طموحات شعبنا وشبابه، الذين عبّروا في الشوارع والساحات، وهكذا نبعد القلق والخوف على المصير عن الذين لم يغادروا بيوتهم.
وأختم بالكلام على صفة من صفات الأخ إسطفان وهي أنّه كان مسالما ومحاورا وديعا. ونحن في هذه الايّام بحاجة ماسّة لهذا النوع من الإنفتاح والوداعة في الكلام والحوار مع بعضنا البعض ومع غيرنا. لنأخذ اليوم على عاتقنا أن نكمل في هذه المسيرة بالرغم من اختلاف قراءاتنا للأوضاع. لنكمل كجسم واحد، نجيب بهذه القيم على كلّ الأحوال المحيطة. لنكمل بقيمة الحوار ونقدّم الصلاة كرهبانيّة، مثلما قدّمنا القدّاس على نيّة لبنان. وكما قدّمنا الصلاة نقدّم سنتنا اليوبيلية التي وضعناها تحت شفاعة الأخ إسطفان على نيّة كنيسة لبنان. نصلّى على نيّة غبطة البطريرك كي يلهمه الربّ لاتخاذ المواقف المناسبة في الأوقات المناسبة. نصلّي على نيّة مسؤولينا السياسيين، نصلّي على نيّة رئيس الجمهوريّة كي يلهمه الربّ أيضا لاتخاذ المواقف المناسبة التي تساعد في خلاص شعبنا. نصلّي على نيّة جميع المسؤولين السياسيين كي يتمتّعوا بالإنفتاح والحوار والإيمان بإمكانيّة الخروج من الحالة الحاليّة، ولكي يتمكّنوا من سماع صوت الشعب، صوت الله، ويأخذوا منه الجيّد. نصلّي بشكل خاص جدّا جدّا على نيّة كل فرد من شعبنا، بمعزل عن موقفه. إنّهم أهلنا، إنّهم أخوتنا، إنّهم نحن، إنّهم معنى وجودنا. يسوع قال: لأجلهم أقدّس ذاتي، ونحن نقول مع يسوع: لأجلهم نقدّس ذواتنا، لأجلهم نعيش التزامنا، لأجلهم ولأجل خلاصهم. هكذا نجيب كرهبانيّة وكأفراد في الرهبانيّة.
نطلب شفاعة أمّنا العذراء مريم، ونطلب شفاعة قديسي الرهبانيّة كي يبقوا حرّاس لبنان، ويبقوا أمامنا المثال ويلهمونا العمل الدائم لما فيه الخير العام، من خلال عمل كلّ واحد منّا ومن خلال شهادته ومن خلال شهادة الرهبانيّة. آمين.
(انتهى)
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]