خلق الله الإنسان على صورته ومثاله وأعطاه سلطانًا على جميع المخلوقات. فاستعمل الاخير هذه القدرة الربانية لخدمته فأخترع الآلات وشق الطرقات وبنى المدن وركبَ السفن والطائرات والناقلات على أنواعها. ونسي من أمده بالقوة فابتعد عن طريق الرب وأخذ يستعمل ذكاءه كله في الأذية المطلقة، فصار التسلح وابتكار وسائل الدمار الشامل والقنابل الذرية والكيميائية سعيه الدائم. تمادى خليقة الرب في ضلاله فلم يتورع عن تدمير الطبيعة ليبني المعامل وناطحات السحاب، وجعلَ نصبَ عينيه استعمار الكرة الأرضية برمتها والكواكب والفضاء إرضاءً لغروره وتحقيقاً لغاياته المادية والدنيوية. تناسى الانسان قصدًا أنه مخلوق وادعى صفات الخلق والالوهة.
يذكر تاريخ البشر أنه على مر العصور لم يلتمس الانسان خالقه الا عند التجارب والضيقات، التي تفوق قدرته وتؤكد ضعفه، وتثبت عجزه الواضح كشمس النهار الساطعة. إن ما يجري في العالم اليوم دعوة صارخة للرجوع إلى الله والتضرع إليه، فيروس كورونا غير المرئي دمر نظام الحياة الهش والخاطئ الذي بناه الانسان لعقود خلت! في غضون فترة وجيزة، لا تتجاوز الأيام، توقفت أصوات المعامل والسيارات وصمتَ الضجيج كله. تكسرت الطبقية التي أوجدها الغرور البشري القاتل. ذلك الشيء المستجد والغريب -فيروس كورونا -لا يعرف حدودًا للدول ولا يميز بين رئيس مُعَظمُ التفخيم وعاملٍ بسيط كثير التهميش والتهشيم، لا تميزُ العدوى فيه بين غني وفقير. في فترة قصيرة جدًا خيم الهدوء وساد الرعب وصمت كل شيء صمتًا مريبًا، كأنما السماء ملت من ضجيج البشر المؤذي والمزعج. ليست تلك هي المرة الأولى التي ترسل فيها السماء رسائل إلى البشر من دون أن يتعظوا فيغلبوا الخير على الشر..
نقرأ في سفر التكوين عن الطوفان الكبير، عن نوح ومن معه في الفُلْك: رأى الربُ الخالق أن شر الإنسان المخلوق قد كثر على الأرض فأرسل طوفانًا، وأهلك كل جسدٍ فيه روح حياة من تحت السماء وكل ما في الأرض، لم يسلم إلا نوح وعائلته لأنهم كانوا بررة بالرب، والمخلوقات التي كانت معه لأن الخالق أراد للحياة أن تستمر..
وفي زمن إبراهيم عظمت خطيئة أهل سادوم وعمورة، توجه الرب لابراهيم قائلاً: إن تجد خمسين باراً في المدينة فإني سأصفح عن المكان كله من أجلهم، ولم يجد ابراهيم خمسين ولا أربعين ولا حتى عشرين بارًا في المدينة!! ولم يكن سوى لوط وعائلته من الأبرار فخرجوا من المدينة.. وإذ بالرب يُمطر سادوم وعامورة كبريتًا ونارًا من السماء..
وفي القرن الرابع للميلاد في مدينة أنطاكية يخبرنا يوحنا فم الذهب، وهو من آباء الكنيسة الأوائل، عن أبرز العيوب والرذائل التي سادت آنذاك، وهي البخل والفجور والترف، فكانت أنطاكية فردوسًا للخطيئة والانحلال، وقد صدر آنذاك مرسوم بزيادة الضرائب فما كان من الشعب إلا أن حطم تماثيل الإمبراطور تيودوسيوس وكانت عقوبة مثل هذا الفعل الموت، فخاف الناس واضطربوا وكانوا ينتظرون حتفهم الأكيد. فجاء يوحنا فم الذهب إلى المدينة ودعا جميع أنقياء النفوس إلى ملاقاته، فأتى جميع النساك والأبرار من جميع نواحي القسطنطينية إلى أنطاكية لانقاذها.
وبالفعل أنقذت ابتهالات الأبرار والنساك أنطاكية من موت محتم بعدما عفى عنهم الإمبراطور.
من هذا المنطلق علينا قراءة رسائل السماء؛ والعبرة لمن اعتبر. تاريخنا زاخر بالتجارب، وإن لم تعلمنا فهي حتمًا ستحطمنا. بعد أن صمت العالم، أصبحت السماءُ أكثر قربًا، وأبوابها مفتوحة لقلة قليلة من الأبرار ممن يتضرعون لخلاص البقية الباقية من البشر.
فيا أنقياء النفوس، أيها الأبرار، أنقذونا بتضرعاتكم واذكرونا في صدق صلواتكم لأننا لم نلتمس الرب إلا ساعةَ التجربة..
نستغفرك! يا إله الكون فاغفر لنا زلاتنا الكثيرة لئلا نزول.