لا بوادر تُنبئ بعودة السياحة في المدى القريب
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. ومن لنا بدر سواهم في عتمة دولارنا وظلمة ليلنا الاقتصادي، مغتربونا، أبناء وطننا، وخشبة خلاصنا. دولاراتهم حلم يدغدغ خيال كل لبناني ويضيء بصيص نور في نفقه المعتم. فمن جيوبهم يأتي الفرج هذا الصيف ومن عبّهم تخرج عملة صعبة “تسيسر” أمور الناس. فهل هم مستعدون لأن يكونوا البحصة التي تسند خابية الاقتصاد ام أن طبخة بحص المصارف قد جمّدت كل استعداداتهم ولجمت فيهم القدرة على المساعدة؟
يا مهاجرين ارجعوا غالي الوطن غالي. “غالي” على القلوب وعلى الجيوب، لكنه ليس أغلى من عمر أفنوه في الخارج يجمعون فيه ثروات كدوا لتحصيلها ليعودوا بها يوماً الى أرضهم الأم مستثمرين او متقاعدين فتكون دعامة لاقتصاد الوطن وذخيرة لهم في الآتي من الأيام. هم الذين نزحوا يوماً من خيوط عنكبوت السياسات الخاطئة يجدون أنفسهم اليوم من جديد ضحية لها، ضحية غير معترف بها لكن مطلوب منها أن تحمل عبء اقتصاد منهار وتساهم بعلاجه على نفقتها الخاصة.
المغتربون ثروة لبنان ونفطه وأعجوبة اقتصاده
آمنوا بلبنان وأحبوه، وثقوا بنظامه المصرفي وحملوا اقتصاده على أكتافهم. ثروة لبنان كانوا ونفطه وأعجوبة اقتصاده كما يشرح لنا السيد إيلي رزق رئيس هيئة تنمية العلاقات اللبنانية الخليجية وعضو الغرفة الدولية للتجارة. دأبوا على دعمه عبر تحويلات شهرية الى عائلاتهم أو ودائع مصرفية في البنوك اللبنانية. تحويلات ناهزت 7 مليارات دولار سنوياً من مغتربي الخليج وحدهم شكلت مع ما يرسله سواهم من لبنانيي الانتشار النسبة الأكبر من المدخول في الاقتصاد اللبناني. وبقدر ما كان إيمانهم كبيراً كانت صدمتهم أكبر وأشد إيلاماً من نكران الجميل الذي قوبلوا به من قبل المصارف حين تم القبض على ودائعهم وحجزها وحرمانهم من أبسط حقوقهم ومنعهم من الاستفادة من تلك المبالغ التي كسبوها بعرق جبينهم في ظروف معيشية ومناخية صعبة. عتبهم على المسؤولين في وطنهم كبير وعلى السياسيين والأحزاب كذلك، فأحد لم يدافع عن حقهم في وجه المصارف أو يرفع الصوت مندداً بما اصابهم، يؤكد رزق. هم الذين أعطوا لبنان بلا حساب ولم يستفيدوا منه بشيء، فقدوا الثقة بنظام خذلهم وأكل جنى عمرهم وهو يطلب منهم اليوم ان يحركوا عجلته الاقتصادية بلحمهم الحي. المغتربون اليوم لم يعودوا الدجاجة التي تبيض ذهباً فتحويلاتهم ستكون الى الأهل فقط لدعم عائلاتهم بما يقيها شر العوز ويؤمن لها حياة لائقة، أما التحويلات الى المصارف اللبنانية فتوقفت ونقطة على السطر. ورغم كل تأكيدات القيمين على المصارف بأن الـ”فريش موني “مرحب به، فإن مقولة من سرق القديم لن يصعب عليه سرقة الجديد تؤرقهم والمؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين يقول رزق.
حالهم من حالنا
المغتربون الذين وعدنا بمجيئهم وعوّلنا على ما سينفقونه من أموال هنا تكون بمثابة أكياس دم تضخ في الجسد المريض ليسوا أفضل حالاً منا بكثير ولا سيما في الخليج حيث يزيد عددهم عن 400000 نسمة. فهؤلاء يشرح السيد إيلي رزق من خلال خبرته في تنمية العلاقات اللبنانية الخليجية، يعانون من تعثر واضح سواء كانوا مستثمرين ورجال أعمال أو موظفين. فدول الخليج تعيش صعوبات حقيقية بسبب انهيار سعر النفط من جهة وجائحة كورونا من جهة اخرى، وقد تعرضت ميزانياتها لنكسة كبيرة وهو ما فرض عليها تفضيل مواطنيها على سواهم في الوظائف المتاحة فيها وأقفل الباب أمام فرص عمل جديدة للبنانيين. وبهذا خسر ما يقارب 4850 لبنانيا وظائفهم في المملكة العربية السعودية وهم ينتظرون اليوم تسهيل خروجهم للعودة الى لبنان. ونتوقع زيادة في تلك الأرقام يؤكد رزق بالنسبة للسعودية. أما بالنسبة للإمارات فعدد هائل من الوظائف قد فقد ليس بالنسبة للبنانيين فحسب بل لكافة الجنسيات، وفي عمان وحدها هناك 385 لبنانياً خسروا وظائفهم وينتظرون الإجلاء. هذا بالنسبة للموظفين أما رجال الأعمال الذين يقدر حجم أعمالهم بالمليارات ولا سيما في قطاع المقاولات فيعانون بدورهم من الآثار الكارثية الناجمة عن جائحة كورونا التي أضرت بأعمالهم وكبدتهم خسائر بملايين الدولارات. فيما التجار اللبنانيون الكبار العاملون في الخليج يعانون من صعوبات في شراء البضائع من لبنان نظراً لصعوبة التعامل بالشيكات نتيجة الأزمة المصرفية وفقدان السيولة الأمر الذي أثر سلباً على أعمالهم التجارية في بلدان الخليج وكبدهم الكثير من الخسائر.
المغتربون إذا مأزومون غاضبون ناقمون على الدولة التي جعلت الاقتصاد رهينة في يد حزب سياسي و ألغت دور لبنان بدل أن تحيّده عن الصراع القائم في المنطقة وعلى المصارف التي باتت اليوم تدير الأذن “الطرشاء” ولا ترد على تساؤلاتهم ومطالباتهم بعد أن كانت تجول على جالياتهم تترجى ابناءها ومتموليها أن يحولوا الأموال الى لبنان وتغريهم بشعارات عاطفية فارغة.
صرخة غضب
مغتربو أفريقيا ليسوا افضل حالاً من مغتربي الخليج وقد رفعوا الصوت عالياً للاحتجاج على ما آلت إليه اموالهم في المصارف. فهؤلاء و نظراً لكونهم من أغنى الجاليات اللبنانية في عالم الانتشار كانوا يضخون كميات كبيرة من الكاش في البنوك لأسباب شخصية وعائلية بلا شك ولأسباب سياسية وحزبية كذلك. اليوم هم في أزمة مثل سواهم من المغتربين يفكرون بطرق ينقذون فيها أموالهم من براثن المصارف بدل أن يستخدموا رساميلهم في توسيع حجم أعمالهم وزيادة استثماراتهم في البلدان الأفريقية. وكان رئيس غرفة التجارة والصناعة اللبنانية في أبيدجان د. جوزيف خوري قد أطلق صرخة غضب مدوية بوجه المصارف التي تحجر على رؤوس أموال المغتربين وتمنعهم من الحفاظ على مؤسساتهم في بلدان الاغتراب هم الذين دعموا الوطن الأم في أصعب ظروفه ورفدوه بالأموال على مر العقود وتساءل لماذا يكون حل الأزمة الاقتصادية على أكتاف المغتربين بعدما أفنوا عمرهم في الغربة وقدموا كل انواع الدعم الممكن لوطنهم؟
دولاراتهم خميرة لأيام سوداء قادمة
عموماً مهما كان وضع المغتربين يبدو أنهم لن يأتوا الى لبنان لنجدته وتحسين اقتصاده كما اعتادوا أن يفعلوا بل آتون لنجدة أهلهم الذين يعيشون ضيقاً غير مسبوق. ليسوا عائدين هذا العام للصيف والكيف بل لعثرات الدهر، ليكونوا الى جانب أهلهم وعائلاتهم بعد انقطاعهم التام عنهم بسبب كورونا والحجر. سيحملون معهم دولاراتهم يخبئنوها في أعبابهم يصرفون منها القليل القليل في عطلتهم التي ينتظرونها سنوياً فيما الكمية الكبرى ستبقى في خزائن الأهل خميرة لأيام سوداء قادمة. لن “يبعزق” العائدون كما كانوا يفعلون فعلى الكتف حمّال والأهل هنا ليضعوا حداً لتبذيرهم ولأي إنفاق غير محسوب. ستصرخ الأمهات جزعاً لكل 20 دولاراً ينفقها الابن على مائدة عشاء وسيهلع الآباء لكل دولار تصرفه عائلة خارج استثمار عقاري يكون ضمانة لعودتها في الغد.
جهاد الراسي مغترب يعيش ويعمل في المملكة العربية السعودية فيما عائلته في لبنان، لم يرها منذ بضعة اشهر وهو اليوم عائد من أجلها. يؤكد أنه سينفق بالدولار هذا الصيف ويمضي صيفيته كما اعتاد أن يفعل وسيجول في مراكز الاصطياف والجبال ويمضي بضعة ويك – أندات هنا وهناك لكن مع حرص أكيد واختصار للمشاوير والسهرات، فما يحمله من دولارات سيكون لتأمين بحبوحة معينة للعائلة ليس فقط للصيف بل للأيام القادمة. رفاقه في المملكة حريصون على العودة والاستمتاع بصيف لبنان بعد حجر ممل طويل “بدن يعيشوا” لكن لا احد منهم سينفق كما كان يفعل في السابق سيحسبون ألف حساب يقولها لنا بصراحة. أما السبب فخوف من المستقبل حتى في المملكة. لدي قلق من شغلي هناك يقول ولا أعرف ماذا يمكن أن يحدث في الغد، لقد خفضوا رواتبنا ورواتب معظم العاملين هناك، من يدري ربما يقومون بصرفنا. إذا الخوف ليس فقط من واقع لبنان بل من واقع بلدان الاغتراب أيضاً.
عدلا اعتادت أن تعود مع كامل عائلتها كل صيف الى لبنان وتمضية أكثر من شهرين في بيتهم الجبلي وكان شغلها الشاغل في الصيفية جمع العائلة والأصدقاء حول موائد عامرة تختار أصنافها من أفخم محلات بيروت وكانت تستأجر سيارة مع سائق معظم الوقت لتأمين تنقلاتهم الكثيرة في أنحاء لبنان. صيفيتها كانت تكلفها حسبما تروي لنا بين 15 و 20000 دولار. هذه السنة اقتصرت زيارتها الى لبنان على أسبوع واحد لرؤية والدتها المريضة فيما فضل زوجها وابناؤها البقاء في ألمانيا تحسباً لأي طارئ يمكن أن يعيد إقفال المطار. لن تستأجر سيارة، ولن تقيم مآدب، ولن “تتفتل” في الأسواق كما كانت تفعل لكنها ستتأكد من كون والدتها تحظى بعناية ممرضة فيليبنية مختصة تنال راتبها بالدولار وقد دفعت لها 1800 دولار بدل ثلاثة اشهر سلفاً. مبلغ كان يمكن ان يشغّل عدداً كبيراً من اللبنانيين لكنه سيذهب خارج لبنان من دون أن يحرك أي “عزقة” في عجلة الاقتصاد.
نتوجه الى السيد جان بيروتي نقيب أصحاب المجمعات السياحية البحرية والأمين العام لاتحاد المؤسسات السياحية ونسأله كم يمكن التعويل على المغتربين العائدين لتنشيط القطاعات السياحية المشلولة هذا الصيف؟ بحسرة مجبولة بغضب مكبوت يجيب: عودة المغتربين بأعداد كبيرة غير واردة ومعظم الدول التي كنا نعوّل على مغتربيها مثل أفريقيا الجنوبية واستراليا وأميركا اللاتينية لم تفتح مطاراتها بعد. وكثيرون من المغتربين في الدول الأوروبية او العربية مترددون في المجيء الى لبنان حتى لا يضطروا لحجر أنفسهم بعد عودتهم الى بلدانهم “إنه زمن كورونا” ولا نستطيع شيئاً حياله. لم نلمس بعد أي تحسن في حجوزات الفنادق لا سيما بالنسبة لشهر تموز حتى ولا أي سؤال، وفي اجتماعنا الأخير أعرب كل اصحاب الفنادق البحرية عن قلقهم الكبير من عدم وجود بوادر تنبئ بعودة السياحة في المدى القريب. فالعائدون ليسوا قادمين للسياحة بل لرؤية أهلهم ومساعدتهم ومتابعة استحقاقاتهم المالية وسيقيمون في بيوتهم مع عائلاتهم. قد يعمل الآتون من الدول العربية بعض الحركة الاقتصادية ولكن اعدادهم ليست كبيرة فثمة خوف لدى الكثيرين من المجيء الى لبنان في ظل وجود أخبار وشائعات كثيرة تبخ سمومها وتروج سلباً للبنان، وفي ظل غياب تام لأي خطة جذب فعالة تقوم بها الدولة.
كان يمكن لنا أن نستفيد من وضعنا المالي والصحي لا سيما وأننا بتنا من الدول الرخيصة بالنسبة للسياحة ومن الدول الأقل تاثراً بالنسبة لكورونا لكن الترويج السيئ والتسويق العاطل إضافة الى التشنج السياسي ووضع الكهرباء عوامل انعكست سلباً ولجمت اندفاعة العودة لدى الكثير من المغتربين.
قطاعات استعادت الروح
مع عودة المغتربين ثمة قطاعات أخذت نفساً أعاد إليها بعضاً من روح مثل قطاع تأجير السيارات الذي لامس حجم أعماله الصفر وبات ينتظر بصيص أمل يأتيه من هؤلاء المغتربين لتأخير انهياره ولكن مع معدل تشغيل للمطار لا يتعدى 10% هل يمكن لأعداد الوافدين ان تنعش هذا القطاع كما يأمل؟
أما بيوت الضيافة في القرى والمناطق الجبلية فباتت الحجوزات فيها شبه كاملة لاشهر الصيف مع اشتياق المغتربين لطبيعة لبنان بعد حجرهم الطويل. ولا شك أن قطاع المطاعم أو ما تبقى منه ستنشط حركته لكنها حركة لا تسمن ولا تسد جوعاً لأن الربح مهما بلغ لن يغطي الرواتب والأكلاف مع غلاء اسعار المنتجات. وحده قطاع العقارات سيكون المستفيد الأكبر من عودة المغتربين حيث يؤكد أحد الخبراء العقاريين أن هؤلاء عائدون الى لبنان لسبب واحد ليهرّبوا ما يملكون من أموال في المصارف اللبنانية عبر شراء البيوت والشقق والأراضي والشاليهات وسوف يساهمون بشكل كبير في ازدهار سوق العقارات بعد جمود قاتل شهده في السنوات الماضية.
ختاماً مهما كانت خيبتهم كبيرة، يبقى حبهم للبنان أقوى وتمسكهم بالعودة إليه متجذراً في وجدانهم، لا تردعه شائعات تتلاعب بهم وتجعلهم حجارة في لعبة شد حبال سياسية تعيدهم على الرغم من أنوفهم الى وحول السياسية اللبنانية التي هشّلتهم سابقاً.