خمسة عشر عاماً مرت على اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق الشهيد رفيق الحريري، لم يتغير خلالها المشهد في لبنان إلا نحو الأسوأ، متوجاً قبل أسبوعين بتفجير مرفأ بيروت الذي دمر عاصمة عمل الحريري طيلة سنوات حكمه على اعادة بنائها وجعلها ايقونة على البحر الأبيض المتوسط تعيد للبنان بريقه ودوره العالمي. وما بين مشهدي 14 فبراير 2005 و4 آب 2020 مأساة تتكرر وحزن يتصاعد وجثامين شباب في ربيع العمر توارى ثرى وطن ضاق بأبنائه فكان مشهد الازدحام في صالة المغادرة بمطار بيروت أمس خير دليل. اليوم تعلن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمها في قضية اغتيال الحريري، ويتزامن الحكم المنتظر مع احتدام داخلي شديد التأزم في اعقاب انفجار المرفأ الذي اعاد لبنان مركز تجاذب لقوى إقليمية ودولية.
الأنظار شاخصة الى لاهاي التي وصلها رئيس الوزراء السابق سعد الحريري يرافقه النائب المستقيل مروان حمادة الذي نجا من محاولة اغتيال في 2004، وآخرون لحضور جلسة النطق بالحكم، الذي يتوقع، بحسب مساره القضائي، ان يدين العناصر الأربعة المنتمين الى حزب الله بتنفيذ اغتيال الحريري، باعتبار أن المحكمة تصدر احكامها في حق افراد وليس مجموعات سياسية واحزاب وأنظمة، الا اذا حصلت مفاجآت، وتوسع الاتهام باتجاه حزب الله كمنظّمة، بالمباشر، او شمل اخرين في سوريا، أُعلن عن وفاة بعضهم في ظروف غامضة.
وأما تنفيذ الاحكام فيترك للدول ما لم تطلب مساعدة الانتربول لتوقيف الأشخاص المطلوبين وملاحقتهم. لكنها في حالة لبنان، تصبح عملية مستحيلة بعدما أعلن عن وفاة المدانين المتوقعين أو رفعهم الأمين العام حزب الله حسن نصرالله إلى مصاف القديسين الذين لا يمكن المس بهم. وعليه، فإن السؤال الكبير الذي سيتكرر هو: لبنان إلى أين؟. في المعطى الداخلي، تترقب الأوساط السياسية والشعبية ردة فعل الطرفين المعنيين مباشرة بملف الاغتيال أي تيار المستقبل، وحزب الله الذي تعامل منذ لحظة انشاء المحكمة الدولية على طريقة “انقعوها واشربوا ماءها”. لكن حزب الله اليوم ليس في افضل حالاته.
الضغوط الدولية تحاصره من كل الجهات، عقوبات اميركية، وتصنيفه كمنظمة إرهابية واستهداف إسرائيلي متواصل لمجموعاته في سوريا، كل ذلك على وقع تصاعد الحملات الداخلية ضده عقب انفجار مرفأ بيروت. كل التحركات الدولية تشير الى إرادة دولية بتفكيك منظومة حزب الله العسكرية او بالحد الأدنى اجباره على تقديم تنازلات قد تبدأ بالانصياع لقرار المحكمة الدولية ووضع سلاحه على طاولة التفاوض، وفق بعض المصادر التي تجمع على ان تبعات قرار المحكمة الدولية ستكون قاسية على حزب الله بالرغم من حالة الانكار التي يعيشها. وتؤكد المصادر ان الخناق بدأ ليس على حزب الله وحده بل على حلفائه ايضا، وهذا ما بدا واضحا في اليومين الأخيرين في خطابي نصرالله وجبران باسيل. وسام سعادة الكاتب السياسي وسام سعادة، ابن شقيقة الشهيد جورج حاوي، قال لـ”القبس” إن صدور الحكم سيكون حدثا مفصليا بكل المقاييس، خصوصاً في ظل السياقات التي يعيشها البلد، لا سيما بعد الانفجار التدميري، ووضع البلد اكثر فاكثر على السكة التدويلية. وأضاف سعادة “دعونا ننتظر ونسمع ونقرأ تفاصيل الحكم، لكن من الآن يمكن القول انه سيعني زيادة الضغوط الاميركية والغربية على حزب الله، السؤال يبقى ما هو الصدى الميداني المباشر للقرار، لا سيما ان البلد منذ انفجار مرفأ بيروت يغلي؟”.
الصحافي علي حمادة اعتبر بدوره أن أهمية الحكم تنبع من رمزيتها، فهو يصدر عن محكمة دولية أنشئت بقرار اممي تحت الفصل السابع، وتستند في حكمها الى عشرات الاف التقارير والأوراق والوثائق والصور والى مئات التحقيقات مع شهود على مدى سنوات، وبالتالي لا يمكن ان يكون حكمها مسيسا كما روجت بعض الأطراف اللبنانية. ويضيف حمادة لـ القبس: صحيح ان الحكم أتى متأخرا 15 عاماً، انما قياسا على بقية المحاكم الدولية فليس بالمدة الطويلة، المسألة لا تتعلّق بالوقت وانما بالحقيقة التي ستظهر عاجلا ام آجلا، بانتظار ان تتحقق العدالة باعتقال المتهمين الأربعة، (كانوا 5 قبل الاعلان عن مقتل مصطفى بدر الدين). النقطة المهمة في الحكم، بحسب حمادة، ستكون تحديد الجهة المسؤولة عن اغتيال الحريري، وأصبحت واضحة من خلال أسماء المتهمين الذين ستصدر بحقهم الاحكام، وهم يتولون مسؤوليات رفيعة في الحزب، فالمتهم الرئيسي في الجريمة هو الرقم 2 في الهرمية الأمنية العسكرية في حزب الله، من هنا مسؤوليته عن الاغتيال ومسؤوليته عن تسليم من تبقوا على قيد الحياة للعدالة. ولا يتخوف حمادة من تداعيات امنية تلي صدور الحكم، لكنه يلفت الى ان الحكم سيبقى وصمة عار في مسيرة حزب الله الذي رفع المتهمين الى مصاف القداسة.
وفي المقابل ينفي حمادة أي محاولة للاستثمار السياسي للحكم، فالحريري ليس شهيد تيار المستقبل ولا آل الحريري فقط، وجريمة اغتياله ليست معزولة عن 12 جريمة أخرى حصلت في تلك الفترة، كاشفا ان كلمة الحريري المرتقبة بعد صدور الحكم لن تبحث في اثارة الفتن الطائفية وانما ستكون حازمة لجهة مطالبة الطرف المتهم بتسليم القتلة، ومن دون الذهاب الى صدام اهلي. ولا شك ان الإدانة المرتقبة للمتهمين، وبالتالي لحزب الله، ستترك تداعياتها، لكن القوى السياسية اللبنانية تبدو معلقة على لحظة نطق الحكم كما على الموقف الذي سيتخذه سعد الحريري منه، لما سيكون له من انعكاس على التركيبة الحكومية المتنازع على صيغتها وهويتها.
ووفق مصادر معارضة، فإن مضمون كلمة سعد الحريري سترسم معالم المرحلة المقبلة والتي يبدو ان الحريري سيكون اكثر حزما. وتلفت المصادر الى اهمية زيارة السفير السعودي وليد بخاري لدارة الحريري عشية توجهه الى لاهاي والتي أراد من خلالها اظهار دعم السعودية له وفق شروط وقواعد ليس الحريري بعيدا عنها. اما بهاء الحريري، النجل الاكبر لرئيس الحكومة الراحل فدعا اللبنانيين إلى ضبط النفس والابتعاد عن ردات الفعل، وقال إن “التطلع لجلاء الحقيقة حول الاغتيال، يدفع جميع أبناء ومحبي الراحل وإرثه أن يحافظوا على لبنان الدولة والمجتمع”.
خيارات حزب الله الصعبة في المقابل يطل امين عام حزب الله حسن نصرالله اعلاميا مساء اليوم وسيتطرق الى الحكم وسيتعاطى معه وكأنه لم يكن. في حين ان خيارات حزب الله لمواجهة أزماته الداخلية تعتمد دائما على سلاحه الذي بات سلاح امر واقع لقمع منتقديه ومعارضيه، وقد يلجأ إلى خيار 7 آيار جديد ومحاولة استخدام سلاحه للسيطرة على البلاد بشكل فعلي، لا سيما أن الخطاب الأخير لنصرالله دفع بشكل واضح في اتجاه التحريض على حرب أهلية. وقد لا يتردد حزب الله بالدخول في مواجهات مسلحة ونشر مسلحيه في العاصمة حتى وإن قاد ذلك إلى حرب أهلية. في وقت يبدو خيار الحرب ضد إسرائيل أكبر من قدرة الحزب في الوقت الحالي لاعتبارات عدة، ابرزها الضائقة الاقتصادية في البلد، وتأجج الغضب من حزب الله داخل بيئته الحاضنة، حيث ان الحزب اليوم أمام تحدي الحفاظ على قاعدته الشعبية بحسب صحيفة صنداي تايمز البريطانية التي نقلت عن بعض سكان مدينة النبطية ممن طلبوا عدم ذكر أسمائهم أن عناصر الحزب فاسدون مثل بقية قادة لبنان، وحديثهم عن مساعدة اللبنانيين لا يتجاوز العناصر المؤيدة لهم، بحسبهم.
3 سيناريوهات إسرائيلية معهد هرتسليا الإسرائيلي الدولي لمكافحة الإرهاب توقع أمس ثلاثة سيناريوهات قد تحكم مستقبل لبنان، بعد انفجار بيروت الأخير والحكم بقضية الحريري، وقال مدير المعهد لبوعز غانور لصحيفة جيروزاليم بوست إن مستقبل لبنان سيجعل إسرائيل تتخذ سياسيات دفاعية، وصفها بالحاسمة. السيناريو الأول: إعلان الرئيس ميشال عون حكومة طوارئ للتعامل مع الأزمات ويجبر حزب الله على اتخاذ قرارات استراتيجية تتعلّق إما بالانسحاب التكتيكي وإما باستخدام السلاح. السيناريو الثاني: “يكمل حزب الله سيطرة عسكرية على الحكومة بحكم الأمر الواقع”. السيناريو الثالث: يتصور السيناريو الأخير عدم وجود مجموعة أو زعيم قادر على قيادة البلاد خلال الأزمة، وينحدر المجتمع اللبناني إلى فوضى كاملة، تذكر بالحرب الأهلية عام 1976.
البطريرك الماروني بشارة الراعي كشف أمس عن مذكرة جديدة باسم “لبنان والحياد” تناولت أهم مبادئ حل الأزمة اللبنانية، أولها النأي بلبنان عن أي تحالفات أو معسكرات إقليمية، بما يضمن تطبيق مبدأ الحياد، بالإضافة إلى منع أي دولة خارجية من التدخل في الشؤون اللبنانية أو استخدام الأراضي اللبنانية لمشاريع وأهداف عسكرية، لافتاً إلى أهمية تجنيب لبنان أي صراعات أو حروب، دولية كانت أم إقليمية. ومبدأ تعزيز سلطة وقوة الدولة اللبنانية عبر بناء الدولة القوية بجيشها ومؤسساتها وقانونها وعدالتها. وضرورة معالجة ملفات الحدود على أساس خط الهدنة مع إسرائيل وسوريا.