كتبت جومانا نصر في “المسيرة” – العدد 1708
1915-2020: مات أهلي مرتين
تعددت الأسباب والمجاعة واحدة
لبنان ما عاد لبناننا الذي حلمنا به وطنا لأولادنا ولأحفادنا. لبنان صار وطناً مشتّتاً مهزوماً ضائعاً في زواريب الفشل والتقصير والصراعات المحليّة والإقليمية والدولية والدينية المتفاقمة. وجه لبنان تغيَّر على يد «حزب الله» وسلاحه. سمعة لبنان صارت ملطخة بالفساد الذي نما الى جانب حراب السلاح غير الشرعي. وما عدنا نلتقي على فكرة وطن وإذا التقينا نخلص إلى نتيجة، لهم لبنانهم ولنا لبناننا.
لبناننا في مئويته الأولى صار وطن المجاعة، وطن الفقر والعوز والموت على أبواب المستشفيات والإنتحار هرباً من الذل، وصرخات الجياع والمحتاجين صارت قوت صباحاتنا ومساءاتنا، وباتت عملية الصرف الجماعي للموظفين والعمال مجرد خبر عادي تنتهي مفاعيله مع إقفال هواء النقل المباشر. لكن على أرض الواقع مشهد البطالة صار كارثيًا.
في لبنان تغيّرت كل عاداتنا الإجتماعية، فاللبناني بالكاد قادرعلى تأمين قوته كفاة يومه، واللحم على المائدة لمرة واحدة شهريًا. وصار حلم الشباب رجالات مستقبل هذا الوطن الحصول على تأشيرة هجرة واستثمار طاقاتهم العلمية والفكرية في وطن بديل. صدقوا هذا هو لبنان في مئوية ولادته. فهل يعود لبنان بلد الحضارة والقداسة إلى حضن الوطن؟
ثمة كبار في هذا الوطن وقفوا وقالوا: «لن نتخلى عن هذه الأرض، لن نترك ثقافتنا وحضارتنا وكياننا وسنكون على مستوى دماء كل شهيد مات لنبقى ونحيا بكرامة».
«سنموت جوعاً قبل أن يقتلنا فيروس كورونا»… صرخة صارت أشبه بتعويذة على لسان اللبنانيين الذين يعيشون اليوم تجربة المجاعة التي أدّت قبل قرن من الزمن الى هلاك أكثر من ثلث سكانه، نتيجة الحصار البحري والبري الذي فرضه العثمانيون وقوات الحلفاء خلال الحرب العالميّة الأولى، وبفعل إجتياح الجراد الذي قضى على الأخضر واليابس، وتفشي الأوبئة والأمراض في الشوارع والأزقة التي امتلأت بجثث الرّاقدين. يومها تنوّعت أسباب المجاعة، بين العوامل السياسية والطبيعية والإجتماعية، لكن النتيجة كانت واحدة: جوع وألم وموت.
المشهدية ليست بسوريالية وتكاد تشبه إلى حد ما ظروف المجاعة والفقر والعوز الذي يعيشه اللبنانيون بعد مرور مئة عام ونيف على ذكرى المجاعة. لكن البيئة الإجتماعية كانت تختلف على ما يقول الإختصاصي في العلوم الإجتماعية الدكتور ميشال عواد. «ذاك الزمن لم يكن اللبناني قد اختبر حياة الرفاه بعد، وكان مجرد فلاح يزرع أرضه في انتظار الحصاد، من هنا كانت المجاعة في الحرب العالمية الأولى بمثابة نتيجة طبيعية نظرًا للظروف التي فرضت نفسها منها الحصار العثماني وإسقاط نظام المتصرفية وتطبيق قانون السخرة على الرجال، وانشغال الفلاح بالدفاع عن أرضه ووجوده. وجاء الجراد الذي شكل العنصر الرئيسي للمجاعة ليزيد الأمور سوءاً».
نقرأ في مشهدية العام 1915 التي تعكس إلى حد ما أسباب إنهيار الوضع الإجتماعي ودخول اللبنانيين دائرة خطر المجاعة. فمع إنطلاق شرارة الحرب العالمية الأولى، كانت البلاد رازحةً تحت نير الإحتلال العثماني، فكانوا يعيثون في الأرض فساداً وفي الناس بؤساً وإذلالاً. إقطاعٌ متسلط متوارث، فرض الضرائب وغبن في جمعها، سرقة لأرزاق الشعب وحرمانه من أبسط مقوّمات الحياة… إنهارت الليرة العثمانيّة المتداولة في البلاد، فشحّ الذهب من السّوق بعد أن صادره البنك المركزي العثماني لتمويل حربه، واستعاضت عنه السلطات الماليّة بتوزيع أوراق نقديّة على الناس من دون أي غطاء فعلي لهذه العُملة. وتسببت «العملة المزدوجة في ضياع وتبخر الجزء الأكبر من «ثروة» اللبنانيين، مما أحدث ركودًا في حركة البيع والشّراء. فكان الإنهيار الإقتصادي والنقدي الذي أدخل لبنان في المجهول.
واستدراكا للمخاطر وهول المجاعة قرر اللبنانيون التوحّد والتعالي عن مشاكلهم وإنقساماتهم بُغية مواجهتها. يومها توحّدوا حول راية واحدة، فتناسوا خلافاتهم الداخلية في المتصرفيّة، وطالبوا بتحييد لبنان وإعتاقه من حرب المحاور التي ما أتت عليه إلّا بالويلات والمصائب. وصنّفتهم على أنّهم خونة وأعداء الأناضول.
مما لا شك فيه أن المجاعة ساعدت العثمانيين في مخططاتهم. وبدل أن يهتمّ اللبنانيون بالحركات الثوريّة والتحرريّة ومكافحة فساد حكامهم، راحوا يبحثون عمّا يسدّون به جوع أبنائهم. ولعل وصف جبران خليل جبران في قصيدته «مات أهلي» ينطبق إلى حد ما على الواقع الحالي: «لم يمت أهلي متمردين، ولا هلكوا محاربين، ولا زعزع الزلزال بلادهم فانقرضوا مستسلمين. مات أهلي على الصّليب. ماتوا صامتين لأن آذان البشريّة قد أغلقت دون صراخهم، ماتوا لأنهم لم يحبوا أعداءهم كالجبناء ولم يكرهوا محبّيهم، ماتوا لأنهم لم يكونوا مجرمين، ماتوا لأنهم لم يظلموا الظالمين، ماتوا لأنهم كانوا مسالمين، ماتوا جوعاً في الأرض التي تدرّ عسلاً. ماتوا لأن أبناء الأفاعي إلتهموا كل ما في حقولهم من المواشي وما في أحراجهم من الأقوات».
هل يعيد التاريخ نفسه وتعود صورة المجاعة في لبنان بعد مرور مئة عام؟ يقول الدكتور عواد: «قد تكون مقوّمات المجاعة واحدة لكن الظروف التي أدت إلى دخول لبنان عصر المجاعة تختلف عما كانت عليه في العام 1915. اليوم هناك أزمة ثقة متبادلة بين سلطة سياسية ونقديّة أمعنت في إذلال اللبنانيين وسرقة مدّخراتهم، وبين شعب ينتقد سياساتها الماليّة وخططها الاقتصاديّة التي أوصلتنا لما نحن عليه اليوم. حتى الأفق ما عاد موجودًا إلا من خلال تأشيرة هجرة إلى وطن بديل، مع الإشارة إلى أن فرص الحصول على تأشيرات هجرة أو عمل في دول الخليج باتت محدودة وضيّقة نظرًا إلى الأوضاع الإقتصادية والأزمات التي تجتاح العالم على خلفية تداعيات جائحة «كورونا». حتى مسألة إعادة ضخ أموال واستقطاب إستثمارات التي تشكل خشبة خلاص لإنقاذ لبنان من محنته الإقتصادية باتت شبه مستحيلة من دون إيجاد خطة إقتصادية والقيام بإصلاحات جذرية حتى يستعيد لبنان جزءا من ثقة المجتمع الدولي.
في كتب التاريخ المدرسية فصل واحد من أربع صفحات يحدّثنا عن المجاعة ومسبباتها في لبنان. أربع صفحات يحفظها التلاميذ في الصّفوف الإبتدائية وتطوى معها الصّفحة إلى ما لا نهاية، فلا تبقى في الذّاكرة إلا صور أسراب الجراد التي غطّت سماء لبنان، وكأنها وحدها كانت السبب، وجثث الأطفال المترامية على الطّرقات.. لكن ما يمّر به لبنان اليوم مختلف. هناك أزمة ثقة متبادلة بين طبقة سياسيّة تَعِدُ بالإصلاحات وبمكافحة الفساد ولا تَفِي، وبين شعب يَعِدُ بعدم التّجديد لهذه الطّبقة الحاكمة ويتوعد بالثورة عليها لكنه يعود إلى حضن زعاماته عندما يأتي موعد الإستحقاق. فهل المشهد سوداوي إلى درجة الإحباط؟
يقول د. عواد: «المجاعة اليوم ليست حالة طارئة ولا هي ظاهرية كما كان الحال في الحرب العالمية الأولى. اليوم هناك بنية إقتصادية إنهارت ومن الصعب لا بل المستحيل إعادة بنائها لأن المسألة تحتاج إلى رجالات دولة وهم خارج مواقع السلطة. المسألة غير قائمة على معادلة تشاؤم أو تفاؤل لأن القضية مرتبطة بشروط وهي غير متوافرة. لبنان ليس مفلسًا. لبنان بلد منهوب. حتى أموال اللبنانيين في المصارق منهوبة ولا يمكن لمطلق أي لبناني أن يتصرف برصيده وجنى عمره. فهل نكون في حال إفلاس أم فساد وسرقة؟»
مع إشتداد الأزمة حاول اللبناني إيجاد سبل بديلة لسد حاجاته اليومية فكانت العودة إلى الأرض. لكن حتى هذه الخطوة ليست بحل على ما يقول عواد على رغم إيجابياتها وأبرزها العودة إلى الأرض «لكنها غير كافية لأن المساحات المطلوبة للزراعة غير متوافرة في المدينة، وإذا توافرت في القرى فهي تحتاج إلى أموال لشراء الأسمدة والبذور»….
في انتظار السيناريوهات الأسوأ فقَدَ اللبنانيون تحت وطأة الإنهيار المتسارع لليرة والتآكل المخيف لقدراتهم الشرائية أي إهتمام بالوضع السياسي أو بالشأن العام ليتركز هذا الإهتمام بصورة شبه وحيدة على الأزمة المعيشية الخانقة والتقهقر المتسارع للأسر اللبنانية التي استعادت جزءا لا يُستهان به من أساليب العيش البدائي. وأدت الأزمات الخانقة التي سقط لبنان في دوامتها وفي وقت قصير إلى إعادة اللبنانيين من وضع الرفاه والإستهلاك والمالي السهل إلى حالة من الفقر وتدهور مستوى المعيشة والفقدان المفاجئ لأبسط مقوّمات الحياة مثل الإنارة والغذاء والمدرسة وفرصة العمل والرعاية الصحية. حتى أفراد الطبقة الوسطى الذين كانوا يعيشون حالاً من الرفاه واليسر النسبي دخلوا في دوامة التقنين الغذائي وغيّروا أسلوب عيشهم ومنهم من وصل إلى خط الفقر بسبب إرتفاع أسعار السلع الإستهلاكية وانخفاض سعر صرف الليرة في مقابل الدولار الأميركي، عدا عن اللبنانيين الذين تحولوا إلى عاطلين من العمل بين ليلة وضحاها. هذا عدا عن تحول أكثر من نصف الشعب اللبناني إلى نباتيين بعد أن أصبح اللحم بعيد المنال لأكثرية المواطنين الذين انهارت القوة الشرائية لرواتبهم أو تقاعدهم، وقد حذر البنك الدولي من أن أكثر من نصف اللبنانيين سيعيشون تحت خط الفقر في حال إستمرار الأزمة الاقتصادية وعدم التوصل إلى حلول لإنقاذ البلاد. وهذه الحالة من تردي ظروف المعيشة لم يشهد لها لبنان مثيلاً في تاريخه الحديث وهي مرشّحة للتفاقم بحيث تعيد لبنان فعلاً ربما 90 عاماً إلى الوراء عندما كان الاقتصاد بدائياً والعيش عيش الكفاف وخدمات الطاقة الكهربائية نادرة ومحصورة في المدن بعدد من الأحياء من دون غيرها.
ما نعانيه اليوم في لبنان يشبه إلى حد بعيد المرحلة الأولى من المجاعة التي شعر فيها سكان جبل لبنان صيف العام 1914 مع بدء شعور السكان بالضيق، لكنّ الهواجس تتعاظم من الآتي. وعلى عتبة محاولة إلحاق لبنان الكليّ بمشروع إيران الإقليمي، تستعيد الذاكرة التاريخية يوم دخل جمال باشا إلى مركز المتصرفية فأنهى نظامها واستلم الحكم، وهذا ما يتشابه مع المواقف التي تصدر مؤخّراً داعية إلى إسقاط الدستور والنظام.
ثمة من يريد إعادة لبنان 100 عام إلى الوراء من خلال إلحاقه بسياسات المحور وإخضاع الشعب لقرارات حزبه، لكن أيضًا ثمة رجالات دولة لن يتركوا لبنان لتجار الهيكل. «هذا وطننا ولن نتركه» قالها رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في العشاء التكريمي الذي أقيم على شرف البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في دارة رئيس إتحاد بلديات بشري إيلي مخلوف لمناسبة عيد القديس شربل. وأضاف أمام غبطته: «لقد انطلقت مسيرة إعادة عقارب الساعة الى الوراء والتي هي الى الأمام في حالتنا نحن، من خلال وضع الإصبع على الجرح. هذا الصوت الصارخ في البرية سيتحول رويداً رويداً الى كرة ثلج ستنظف لبنان من كل الأوساخ العالقة فيه تمهيداً لقيام لبنان الذي نعرف ونريد، ولقيام جمهورية قوية يكون لها وفيها كل القرار، جمهورية فعلية لا صورية، جمهورية قانون ومحاسبة، جمهورية خالية من الفساد والمفسدين، جمهورية قادرة تنكب على حل مشاكل اللبنانيين من النفايات الى سعر صرف الليرة وما بينهما، جمهورية نعود فخورين بجواز سفرها وبالإنتماء إليها، جمهورية «نيال مين إلو مرقد عنزة بلبنان»، وجمهورية تعمل على إعادة حقوق اللبنانيين وودائعهم وحياتهم الرغيدة التي طالما اشتاقوا إليها».
مئة عام ونيف. ثمة من يقول إن التاريخ يعيد نفسه، والصحيح أن ثمة ظروفاً سياسية وفسادًا ومفسدين وعابثين في كيان الوطن ومقوّماته، وثمة أيضًا إنسان لا يتعلم من التاريخ ويكرر أخطاءه موقعًا معه مصير شعب ووطن.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]