أكّد رئيس حزب القوّات اللبنانيّة أننا “باقون وبيروت باقية والأشرفية والصيفي والرميل والجميّزة ومار مخايل والمدور والكارانتينا باقون ومعكم يا شهداء وجرحى ومنكوبي بيروت باقون ومعكم يا شهداء المقاومة باقون من أجل كل شبر من بيروت والجبل والشمال والجنوب والبقاع باقون”.
ولفت إلى أنهم “إن فجّروا واغتالوا وسرقوا وأهملوا واستهتروا وكذبوا نحن باقون، يتمسكون بكراسيهم ولكن في النهاية هم سيرحلوا ونحن باقون”، مشددا على أنهم “بإهمالهم وتآمرهم حرقوا بيروت وحرقوا من أتوا للإطفاء من خيرة الشباب والشابات الأبطال الذي لم يأت ببالهم ان التآمر والاستهتار ممكن بيوم من الأيام أن يصل إلى هذا الدرك، فسقطوا غدرا وسقط معهم المئات، وسقط مع سقوطهم آخر الأقنعة عن وحوه المسؤولين الصفر اللعينة الخادعة والمصممة ألا تغيب عن أنظارنا قبل أن تدمّر إذا استطاعت ما تبقى من لبنان. ولكن، رياح العالم كلها لن تجبر سفننا أن تبحر بعكس إرادتنا، وستجري سفننا بما لا تشتهي رياحهم، لأنّها ستجري بعكس التيّار، وستصل إلى برّ الأمان ،وسترسو في مرفأ بيروت لتبقى بيروت عاصمة الحريّة والسيادة والازدهار والحضارة والبحبوحة في هذا الشرق”.
وأوضح جعجع اننا “باقون حتى التخلص منكم يا أهل السلطة والتآمر والفساد والإهمال ولإعادة إعمار ما دمرتموه واستعادة ما نهبتموه وللمحاسبة ولكي نقول للعالم اننا كما بقينا وقاومنا ورفضنا الاحتلال والعروض والتنكيل والإبتزاز والإضطهاد والاعتقال هكذا سنبقى وهكذا باقون فنحن بقوّة الحقّ والحقيقة باقون ومن أجل من رحلوا باقون ومن أجل من سيأتوا باقون ولكي تبقى الأجيال تسلّم أجيال باقون”.
كلام جعجع جاء بعد انتهاء قداس شهداء المقاومة اللبنانيّة السنوي الذي أقامه حزب “القوّات اللبنانيّة” في مقرّه العام في معراب برعاية البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي ممثلا بالمطران أنطوان نبيل العنداري، في حضور: نائب رئيس الحكومة السابق غسان حاصباني، نائب رئيس الحزب النائب جورج عدوان، النواب: ستريدا جعجع، بيار أبو عاصي، جورج عقيص، عماد واكيم، وهبي قاطيشه، فادي سعد، سيزار المعلوف، شوقي الدكاش، جوزيف اسحق، ماجد إدي ابي اللمع، زياد حواط، أنيس نصار وجان طالوزيان، الوزراء السابقون: مي الشدياق، ريشار قيومجيان، ملحم الرياشي وجو سركيس، أمين سر تكتل “الجمهوريّة القويّة” النائب السابق فادي كرم، النواب السابقون: أنطوان زهرا، جوزيف معلوف، أنطوان أبو خاطر وشانت جنجنيان، السيدة ماري فريد حبيب، الأمين العام غسان يارد، الأمناء المساعدون، أعضاء المجلس المركزي في الحزب، منسقو المناطق، رؤساء المصالح والأجهزة، ورؤساء المراكز. وقد اقتصر الحضور هذا العام على الرسميين الحزبيين فقط بسبب جائحة “كورونا”.
وأشار جعجع إلى أنهم “ما لم يأخذوه من الأشرفية بالحرب، لن يأخذه أحد بالإرهاب والتّفجيرات الإجراميّة”، وقال: “تحيّة الى أهلنا في الأشرفيه وكلّ بيروت، أهلنا الصبورون الصامدون، الذين فقدوا اعزّاء احبّاء، وتضرّرت حياتهم ومنازلهم، وأصيبوا بجروح عميقة لا تلتئم، وعصفت بهم رياح غضب وثورة لا تستكين. أهلنا بإيمانهم الذي لا يتزعزع، بإرادتهم التي لا تضعف، يواجهون هذه الكارثة ويلملمون جراحهم، وسيعيدون إلى بيروت فرحها وألقها. الأشرفية ستنفض عنها عاجلا لا آجلا غبار الموت، وسيكون لها مع الفرح والحريّة والحياة لقاء قريب وأكيد”.
واعتبر جعجع أن “انفجار بيروت، انفجار آثم غادر، ألحق بالمدينة دمارا هائلا ومئات الشّهداء، وآلاف الجرحى، وأضرارا ماديّة ومعنويّة كبيرة. وما نجم عنه في لحظات، يفوق بدرجات ودرجات ما نجم عن الحرب في سنوات وسنوات. هذه الجريمة بحقّ الإنسانيّة ، سواء كانت حادثا ناجما عن إهمال، أم عملا مدبّرا وجريمة منظّمة، أم اعتداء خارجيّا، لن تمرّ من دون عقاب”، مؤكدا ألا “يعتقدنّ أحد أنّ بإمكانه لفلفة هذا الموضوع. هذا الانفجار أكبر من أيّ فريق أو مسؤول أو حزب، أكبر من الجميع، ولن يكون بالإمكان الإفلات من العدالة. ولأنّنا لا نثق بالسّلطة القائمة، فإنّنا نطالب بتحقيق دوليّ شفّاف وموثوق، ولقد نظّمنا عرائض نيابيّة وشعبيّة لهذا الغرض”.
وتابع جعجع: “نواجه أزمة وجوديّة كيانيّة. أزمة لا تشبه أيّا من الأزمات التي مررنا بها منذ العام 1975. أزمة حاصرت شعبا بكامله، كادت تدمّر أحلامه وطموحاته، حاضره ومستقبله، وأفقدته الثّقة بدولته وحكّامه وكادت أن تفقده ثقته بنفسه. ولكن لا والف لا، لأنّ من واجه عبر التّاريخ الممالك والإمبراطوريّات والسّلطنات وصولا لمواجهة أعتى الدّكتاتوريّات والأنظمة في أيّامنا الحاضرة وأخرجها من لبنان، لن تقوى عليه شلّة من الخارجين عن القانون والفاسدين وأكلة الجبنة المهترئين”.
واستطرد جعجع: “هذه الأزمة الممتدّة في كلّ اتّجاه ومجال، تعود في جوهرها إلى عاملين أساسيّين: أوّلا: ألتّعدّي الحاصل على الدّولة، ودستورها وسيادتها وسلطتها ومؤسّساتها وقرارها من دويلة نمت في كنفها وعلى حسابها، ممّا أدّى إلى شللها. لا تغيير يرتجى ، ولا إصلاحات فعليّة ولا انتخابات نافعة إذا لم يتمّ تحرير قرار الدّولة وسلطتها، وإذا لم يصبح سلاح الدّولة هو السّلاح الوحيد. لا معادلات ثلاثيّة تجاوزتها الأحداث ومرّ عليها الزّمن، ولا لتكريس أوضاع شاذّة تحت مسمّى الضّرورة والمؤقّت، أو تحت حجّة الدّفاع عن لبنان. فالدّولة اللّبنانيّة الفعليّة وجيشها، ومن ورائهم الشّعب اللّبنانيّ ، هم المدافعون الحقيقيّون والوحيدون عن لبنان. وثانيا: الفساد المستشري في الدّولة والمجتمع، والذي ينخر جسم الإدارات والمؤسّسات حتّى العظم، وفاق كلّ تصوّر في السّنوات الأربعة الأخيرة. هذه الآفة يجب استئصالها ومكافحتها من دون هوادة، ولا يكون استئصالها إلاّ باستئصال شياطينها. وإذا أردنا الذّهاب اعمق في الموضوع، هنالك كلمة سحريّة تختصر أسباب كلّ ما وصلنا إليه:” تفاهم مار مخايل” الذي طبعا مار مخايل براء منه تماما، أمّا التّفاهم بحدّ ذاته فصفقة بين حزبين على تأمين مصالحهما الحزبيّة الضّيّقة على حساب لبنان الوطن، لبنان الدّولة، لبنان السّيادة، وعلى حساب اللّبنانيين كشعب وتاريخ ومستقبل”.
ولفت جعجع إلى أنه “للدلالة فقط هذه جردة مختصرة لنتائج “تفاهم مار مخايل”. 1- بدلا من أن يدخل حزب الله في كنف الدّولة، دخلت الدّولة أكثر فأكثر في كنف حزب الله”. 2- دمّرتم كلّ فرصة لقيام دولة فعليّة في لبنان. 3- ازدادت العلاقات بين المجموعات اللّبنانيّة تشنّجا، حتّى بين قواعد أطراف ” تفاهم مار مخايل” بالذات. 4- لم يعد أيّ مبعد من إسرائيل كما كان الوعد، لا بل وصل الأمر إلى حدّ اتّهام بطريرك الجمهوريّة، بطريرك تاريخ لبنان، بطريرك الموارنة، بالعمالة لإسرائيل. 5- لم يخرج أيّ معتقل من سوريا. 6- وقع لبنان في عزلة عربيّة ودوليّة غير مسبوقة. 7- انهارت القيم والمقاييس والقوانين داخل الدّولة بالذّات إلى أبعد الحدود، ممّا حوّلها إلى مزرعة صغيرة فاقدة الثّقة والمشروعيّة، إلى حدّ أنّ جميع المسؤولين العرب والأجانب أعلنوا جهارا أنّهم لن يقدّموا أيّ مساعدات إنسانيّة من خلال الدّولة وإداراتها بل من خلال الجمعيّات الأهليّة فقط. من جهة أخرى أدّى تحويل الدّولة إلى مزرعة صغيرة إلى انهيار النّظام الماليّ وتعطّل الاقتصاد بشكل شبه كلّيّ، وانهيار فرص العمل، ممّا حول اللّبنانييّن لأوّل مرّة في تاريخهم إلى شعب ينتظر المساعدات الغذائيّة والاستشفائيّة وغيرها، وممّا حوّل لبنان إلى سجن كبير للّبنانييّن”.
وقال جعجع: “كل ما سبق، دفع بالقادر من اللّبنانييّن إلى الهجرة، ومن تبقّى منهم هنا إلى الحسرة. ولكن لا وألف ألف لا- لم نتعوّد لا الحسرة ولا البكاء على الأطلال، بل ثورة بيضاء ناصعة، لكنّها قاطعة، تخلّص اللّبنانييّن من هذا الكابوس الجهنّميّ اللّعين، وتوصلهم إلى شاطئ الأمان. إذا الشّعب يوما أراد الحياة، فلا بدّ أن يستجيب القدر ، وسيستجيب”.
وتوجّه جعجع إلى حزب الله بالقول: “بكلّ وضوح ومسؤوليّة أقول له: الى أين تريد بعد أن يصل الوضع في لبنان؟ هل هناك بعد اسوأ مّمّا نعيشه؟ هل تنتظر مجاعة كاملة؟ هل تنتظر أن يموت اللبنانيّون كبارا وصغارا إمّا جوعا أو مرضا أو احتراقا وخنقا وسحلا في انفجارات غامضة؟”، مشيرا إلى أنه “حان أوان الاعتراف بالواقع والوقائع، وإجراء مراجعة للسّياسات والخيارات. حان وقت العودة إلى لبنان بالمعنى العريض للكلمة، لا يمكننا أن نستمرّ في ظلّ أوضاع مماثلة، ولا يمكن لحزب الله أن يستمرّ من دون أن يغيّر في توجّهاته وسلوكه، ومن دون أن ينظّم علاقاته مع الدّولة كأيّ حزب سياسيّ آخر، وينخرط في مشروع إعادة بنائها”.
وشدد على أنه “على حزب الله أن يسلم قرار الحرب والسّلم للدّولة. وعلى حزب الله أن يكف عن تدخّلاته الخارجيّة السّافرة غير المبرّرة في شؤون وشجون أكثر من دولة عربيّة، وأن يكفّ عن لعب دور رأس الحربة للمشروع الإيرانيّ المتمدّد والمتوغّل في المنطقة العربيّة”.
وتوجّه مجددا للحزب بالقول: “حزب الله آن الأوان كي تبادر إلى القرار الصّعب ولكن الصائب، بأن تضع نفسك في خدمة لبنان وشعبه وأمنه ومصالحه بدل أن تبقى في خدمة الجمهوريّة الإسلاميّة ومصالحها، على حساب شعب لبنان وأمنه واستقراره ولقمة عيشه وحاضره ومستقبله”.
ولفت جعجع إلى أنه “لم يعد من مجال للمماطلة والتّسويف والتّأجيل. دقّت ساعة الحقيقة، وحان أوان القرارات الصّعبة والجريئة. الرؤوس الفاسدة المجرمة يجب أن تسقط وستسقط، الأيادي الفاسدة الفاسقة يجب أن ترفع عن الشّعب على يد الشّعب الذي انتفض غضبا وسخطا واحتجاجا، ولن يوقف انتفاضته قبل أن تحقق أهدافها، وقبل أن يحدث التّغيير في الأشخاص والوجوه والذّهنيّات والممارسات”.
وأكّد أن “نقطة البداية في التّغيير ستكون في مجلس النّواب، وعلى اللّبنانييّن جميعا تقع مهمّة ومسؤوليّة إحداث هذا التّغيير عبر صناديق الاقتراع، وعدم إضاعة فرصة أخيرة متاحة لهم بعد شهور طالت أم قصرت لاختيار من يمثّلهم، ويكون الأجدر والأكفأ والأنظف والأجرأ والأشرف. لا سبيل إلى محاربة الفساد على يد من كانوا سببا وصنّاعا له. الأمر يتطلّب إعادة إنتاج سلطة جديدة، واستحداث نخبة سياسيّة جديدة، وتحويل الانتخابات المقبلة إلى ساحة اختبار للنّوايا والإرادات، وإلى منصّة للتّغيير، والمحاسبة والمساءلة”.
وأوضح جعجع أن “انتفاضة 17 تشرين غيّرت في مسار الأحداث والذّهنيّات، لكنّها لن تؤتي ثمارها في الشّارع فقط، وستجنح إلى الفوضى والمراوحة والاستنزاف الذاتيّ، إذا لم تكن لها خارطة طريق واضحة توصلها إلى تحقيق أهدافها. هذه الانتفاضة كي تحقّق أهدافها، يجب أن تنتقل إلى صناديق الاقتراع، وعلى أرض الانتخابات، فتنبثق عنها أكثريّة نيابيّة جديدة معبّرة عن طموحات اللّبنانيين. والانتخابات المبكرة من الطّبيعيّ أن تجري على أساس القانون الحاليّ النّافذ الذي تطلّب الكثير من الوقت والجهد. إنّ الدّاعين إلى قانون جديد للانتخابات، حتّى ولو صدرت الدّعوة عن حسن نيّة، يخدمون الذين لا يريدون الانتخابات أن تجرى، ولا للأكثريّة النّيابيّة أن تتغيّر”.
وشدد على أننا “بقدر ما ننبّه إلى محاولات مشبوهة جارية لعدم إجراء الانتخابات لا قبل موعدها ولا في موعدها حتّى، فإنّنا نحذّر من أيّ محاولة لتمرير قانون انتخابات لا يراعي خصوصيّة التّركيبة التّعدّديّة للبنان، ويهدف إلى الإطاحة بخصائصه وتوازناته وتركيبته المجتمعيّة والوصول تحت ستار إلغاء الطائفيّة السّياسيّة إلى تطبيق الديمقراطيّة العدديّة، وفي هذا موت أكيد للبنان”.
وتابع: “بعد الانتخابات النيابية المبكرة، سنكون أمام برلمان جديد وحكومة جديدة، وسلطة جديدة. وعندما تدقّ ساعة الاستحقاق الرئاسيّ ستكون لنا فيه كلمة وقرار وموقف ، ولن نقبل بأن يكون هذا الاستحقاق خاضعا لمساومات وصفقات ووسيلة لضرب الإرادة الشعبيّة الجامحة التّائقة للتّغيير”.
وتطرّق جعجع إلى “اتفاق معراب”، قائلا: “طالما تطرّقنا إلى ” تفاهم مار مخايل” المشؤوم، سنتكلّم قليلا عن اتفاق معراب المطعون. إنّ اتفاق معراب، وبخلاف ما يظنه أو يدّعيه البعض، هو في منطلقاته الأوّليّة مصالحة وجدانيّة تاريخيّة أخلاقيّة، تطوي صفحة صراع مجتمعيّ مديد، بدأ منذ تولّي العماد ميشال عون مقاليد الحكومة العسكريّة اواخر العام 1988، وطال بمآسيه وشظاياه وآثاره السّلبيّة كلّ قرية وحيّ وبيت من بيوت مجتمعنا. أضيف إلى ذلك الفراغ الرئاسيّ المتمادي والذي فرض نفسه على كلّ اللبنانييّن ممّا شكل سببا إضافيّا جوهريّا لقيام تفاهم ينهي الفراغ الرّئاسيّ بالإضافة إلى إنهائه الصّراع المجتمعيّ المديد، ويفتح حقبة جديدة. ومع ذلك أصررنا على أن يكون هناك شقّ سياسيّ متزامن مع المصالحة، وهو ما عبر عن نفسه أصدق تعبير من خلال بنود ورقة النّقاط العشر التي تعنى بقيام الدّولة السّيّدة القويّة العادلة كما في التّشديد على مبدأ النّزاهة والكفاءة في إدارات الدّولة ومؤسّساتها”.
واستطرد: “أفتح هلالين صغيرين هنا لأقول: إنّ بعض الذين ينتقدون القوات ويتهجّمون عليها انطلاقا من اتّفاق معراب كانوا هم أنفسهم من هاجمنا وانتقدنا بسبب عدم التّصالح مع التّيّار الوطنيّ الحرّ قبلا، وهم أنفسهم من نادوا أنّ المصالحة بين القوات والتيّار هي مطلب عارم ، على المستويات الشّعبيّة والسّياسيّة والدّينيّة كافّة. إنّ هذا البعض سيستمرّ في التّهجّم على القوّات حتّى ولو أضاءت أصابعها العشرة، لسبب بسيط جدّا وهو أنّ هدفه هو مهاجمة القوات لأنّها القوات وليس لأنّها عقدت اتّفاق معراب أم لم تعقده، ولأنّ نفسه ظلماء. كلّ العداوات قد ترجى مودّتها إلا عداوة من عاداك من حسد”.
وأوضح أننا “أردنا من اتّفاق معراب بالإضافة إلى كونه مصالحة وجدانيّة أن يكون منطلقا لشراكة مسيحيّة إسلاميّة حقّة في السّلطة، وبالتّالي خطوة أوّليّة على طريق بناء دولة فعليّة ولكن، وللأسف، مكرّرة عشرات المرّات، تبيّن لاحقا أنّ الطّرف الآخر أراده مجرّد مصلحة سياسيّة آنيّة بحتة، وبعكس كلّ ما ورد في اتّفاق معراب. أردناه لبناء دولة المؤسّسات، وغيرنا أستعمله لبسط سلطة الميليشيات. أردناه لنرضي به طموح العماد ميشال عون الرئاسيّ منذ العام 1988،ونسدل السّتارة على هذه القّصّة لمرّة واحدة وأخيرة لنبدأ بعدها فصلا جديدا، وهم أرادوه ليعيدونا إلى العرض المسرحيّ ذاته من جديد ، فيوقفوا الزّمن والمستقبل والسّياسة والاقتصاد والحياة الوطنيّة برمّتها، ويرهنوها بانتظار تحقيق الطّموح الرّئاسيّ لمن هو بعد عون. وكأنّ مستقبل اللّبنانيين ولقمة عيشهم وحياتهم مسخّرة خدمة لمآرب وطموحات هؤلاء. فلا يلبث أن يصل العمّ إلى الرّئاسة حتّى يسارع الصّهر إلى تمشيط ذقنه وتعريض كتفيه ولو على حساب اللّبنانيين ومدّخراتهم وأعمالهم وحاضرهم ومستقبل أولادهم، ولو على حساب حياتهم”.
وتابع: “لقد كان من المفترض باتفاق معراب أن يكون نقطة ارتكاز أساسيّة للعهد الرّئاسيّ الجديد وفق قواعد إصلاحيّة ووطنيّة واضحة، غير أنّ القيّمين على العهد سارعوا للتّخلّص من هذا الاتّفاق منذ اللّحظة الأولى، ظنّا منهم أنّهم بذلك يتحرّرون من أعباء الإصلاح ويتخلّصون من مشقّة التغيير، ويزيحون منافسا لهم، ولكن من دون أن يدروا أنّهم يحرمون بذلك أنفسهم من رافعة سياسيّة وشعبيّة وإصلاحيّة كان من الممكن لها إنقاذ العهد وتجنب وصول البلاد لاحقا إلى ما وصلت إليه”.
وتناول في كلمته ثورة 17 تشرين قائلا: “قبل أن تكون هناك ثورة 17 تشرين، وقبل ان تكون هناك ثورة أرز، كان هناك منذ العام 1975 ثورة على الاحتلال والتّوطين والّسلاح غير الشّرعيّ واستباحة سيادة الدّولة، ثورة على الفساد والتّقليد والتّوريث وطبقة ال 43، مرّة بالمقاومة المسلّحة، ومرّات ومرّات بسلاح الكلمة والموقف والمثل الصّالح. وهذه الثّورة كان عنوانها بشير الجميل. نحن ابناء الثّورة واحفادها، نحن إخوتها وأخواتها، ولدنا من رحم أحزان الوطن والشّعب، ولن نهدأ حتّى يزهر من تحت الرّماد لبنان الجديد. لو قدر فقط لثوّارنا الشّهداء المدوّنة اسماؤهم في هذا الاحتفال، العودة للحياة من جديد والانضمام للحراك، لأقفلوا وحدهم كلّ الطّرقات، واحتلوا كلّ السّاحات، وفاقوا كلّ الأعداد. لا نقبل بأن يزايد أحد علينا لا بالوطنيّة ولا بالنّزاهة ولا بالاستقامة ولا بالثّورة. منذ العام 1975ونحن ثورة على لبنان المزرعة، ولبنان الفساد، ولبنان الارتهان، ولبنان السلاح غير الشرعي. لقد دفعنا من عرقنا ودمائنا ومستقبلنا وحرّيّتنا ثمن تمرّدنا على الظّلم، ولم تقدّم لنا الثّورة لا على طبق من فضّة، ولا بملعقة من ذهب. نحن حجر الزاوية والحاضنة التاريخية الطّبيعيّة لكلّ ثورة وحراك لبنانيّ ينتفض ويناضل ويكافح لتحقيق المثل والشّعارات والقيم التي قامت عليها ثورتنا قبل عقود وعقود وكنا السباقين في حمل لوائها وإضاءة مشعله”.
وتابع: “نحن الثورة اللّبنانيّة الأولى على الظّاهرة الشّعبويّة عندما كان الكثيرون يطبّلون ويزمّرون لها قبل أن يثوروا عليها بعد 30 عاما في 17 تشرين، نحن الثورة السّياديّة الأولى على الاحتلال السّوريّ عندما كان الكثيرون يتجنّبونه أو يتزلّفون له او يتعاونون معه. ونحن الثّورة الدّستوريّة الكبرى داخل مجلس النّواب ومجلس الوزراء على الفساد الإداريّ وصفقات الكهرباء والاتّصالات والعشوائيّة في التّوظيفات”.
وشدد على أنه “لا ليس كلّ من عمل بالسّياسة مثله مثل الآخرين، وفي هذا الإطار: لا ليس كلّن يعني كلّن، لأنّه من حيث المبدأ لا تزر وازرة وزر أخرى، ومن حيث التطبيق وكما يقول القول الإنكليزيّ الشائع : ” بالتّعميم تصبح أحمقا”. ونحن لا نريد لبعض الحراك أن يبدو أحمقا وأن يضعف المعركة مع أرانب السّياسة بمناوراتها وبهلونيّاتها. الفاسدون في لبنان معروفون، والنّزيهون في لبنان معروفون أيضا، فلا تضيّعوا البوصلة بالتّعميم حتّى لا تضلّوا نقطة الوصول وتصبحوا خطّ دفاع عن الفاسدين والمرتشين والمجرمين الحقيقيين، ولو عن غير قصد. إذا كان المقصود بشعار كلّن يعني كلّن كلّ الفاسدين وكلّ المرتشين وكلّ المرتكبين أينما كانوا فنحن معه، أمّا إذا كان المقصود به كلّ الناس وكلّ السّياسييّن وكل الشّخصيّات وكل الحزبيين وكلّ شيء، فيكون شعارا عدميّا عبثيّا ظالما، غير دقيق ومزغولا، يمزج السمّ بالدّسم ويخلط القمح بالزّؤان. ان اسلوب التّعميم الاعمى يجهّل المرتكب الحقيقيّ ويخفي هويّته. طالما القوات اللبنانيّة هنا، البوصلة لن تخطئ، وسيكون الصّالحون في صميم مستقبل لبنان، وسيذهب الطّالحون إلى بئس المصير وغياهب النّسيان. نحن حزب يضمّ عشرات آلاف الثّوار والمناضلين والشّهداء والأبطال الذين ضحّوا بكلّ شيء في سبيل قضيّة مقدّسة، ولا نرضى بأن يتمّ تشويه تضحياتهم وتقزيمها لغاية في نفس بعض المعقدين العدميين العبثيين السّطحيين الفارغين. فتحيّة الى شهدائنا وابطالنا ومناضلينا، وتحيّة إلى كلّ الثّوار الحقيقيين”.
أما بالنسبة لموضوع المطالبة بالدولة المدنيّة، فقال جعجع: “كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الدّولة المدنيّة، بالوقت الذي نعيش أصلا في دولة مدنيّة، ما عدا الأحوال الشّخصيّة وتوزيع مراكز الدولة على المجموعات اللّبنانيّة تبعا لما ورد في اتّفاق الطائف. في ما يتعلق بالأحوال الشخصية، فلقد طرح الموضوع مرّات ومرّات، وتبيّن أنّ أكثريّة من الشّعب اللّبنانيّ، من خلال تمثيلها النّيابيّ، تفضّل أن تبقى أحوالها الشّخصيّة مرتبطة بمعتقداتها الدينيّة. لقد وجدنا صعوبة هائلة لمجرد تمرير قانون في مجلس النّوّاب لتجريم العنف ضدّ المرأة، فكيف بالحريّ ستكون ردّة الفعل إذا طرح تحويل الأحوال الشّخصيّة كلها إلى مدنيّة، وعن أيّ دولة مدنيّة يتحدّثون؟ وفي مطلق الأحوال، نحن منفتحون على أيّ نقاش وحوار يلبّي تطلّعات الرّأي العام اللّبنانيّ. أمّا في ما يتعلّق بتوزيع مراكز الدّولة على المجموعات اللّبنانيّة، فلا علاقة له بمدنيّة الدّولة أو عدمها، بل له علاقة بتركيبة لبنان التّعدّديّة. في سويسرا مثلا، الدولة مدنيّة كلّيا، وعلى الرّغم من ذلك، هناك توزيع للسّلطات على المجموعات السّويسريّة وفقا لترتيب معيّن، هو جغرافيّ في الحالة السويسريّة”.
واستطرد: “في هذه المناسبة، أريد أن أقول للبعض الذي يطرح حينا عقدا اجتماعيّا جديدا، وأحيانا مؤتمرا تأسيسيّا، أنّنا جاهزون وجاهزون دائما، ولكن ليس كما تشتهيه رغباتهم. إذا أرادوا مؤتمرا تأسيسيّا جديدا، فأهلا وسهلا ولكن فليعلموا أنّ محوره الأساسيّ سيكون اللّامركزيّة الموسّعة. أمّا قول البعض الآخر أنّنا يجب أن نكمل بتطبيق اتفاق الطائف، فجوابنا أنّنا يجب ان نبدأ بتطبيق الطائف قبل الوصول الى إكماله، وهاكم ما جاء في البند الأوّل من خارطة الطّريق التي وضعها اتّفاق الطائف: 1- الإعلان عن حلّ جميع الميليشيات اللّبنانيّة وغير اللّبنانيّة، وتسليم أسلحتها الى الدولة اللّبنانيّة خلال ستّة أشهر تبدأ بعد التّصديق على وثيقة الوفاق الوطنيّ وانتخاب رئيس الجمهوريّة وتشكيل حكومة الوفاق الوطنيّ وإقرار الإصلاحات السّياسيّة بصورة دستوريّة. من يريد تطبيق اتفاق الطائف نحن مستعدّون، ولكن تبعا لمندرجات الطائف لا تبعا لاجتهاداته هو”.
أما بالنسبة لمسألة الحياد التي طرحها غبطة أبينا البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، فقد أكّد جعجع أن “بكركي بتحكي صح. لماذا؟ لأّن بكركي تحكي في المبادئ الوطنيّة والإنسانيّة الكبرى، وتحكي في المسلّمات والبديهيّات السّياديّة والدّستوريّة والميثاقيّة من دون أيّ مصالح أو غايات سياسيّة او انتخابيّة، ولأنّها دائما كانت صوت الحقّ والحقيقة والوجدان الوطنيّ، ولأنّها صانعة الكيان وذاكرة التاريخ اللّبناني. منذ البطريرك الأّول مار يوحنا مارون، مرورا بالبطريرك الياس الحويك والبطريرك عريضة ، وصولا إلى البطريرك الكبير مار نصرالله بطرس صفير، وعند كلّ مفترق خطر، بكركي بتحكي صح. واليوم كما في كلّ المرّات، تهبّ البطريركيّة المارونيّة، هذه المرّة، مع أبينا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، تهبّ لتحكي كلمة الحقّ، بعد أن طوق الشّعب اللّبنانيّ بالأزمات من كلّ الجهات. وبالمناسبة، ندين ونستنكر أشدّ الاستنكار التّطاول على مقام سيّد بكركي واتّهامه باتّهامات ظالمة وجائرة مردودة سلفا لأصحابها، اتهامات لا تنطبق أصلا إلاّ عليهم. فليعبّروا عن مواقفهم من كلّ القضايا كما يشاؤون، غير أنّ إطلاق الاتّهامات بالعمالة والتّواطىء بحقّ رموزنا ومرجعيّاتنا لمجرّد تعبيرها عن موقف وطنيّ يجسّد إرادة غالبيّة كبرى من اللّبنانيين، فهذا لا يمتّ إلى حريّة الرّأي بصلة، إنّما هو تزوير وتحريف وتحوير للتّاريخ بحدّ ذاته. أما طريق الإنقاذ كما حدّدها غبطته بشكل واضح فتقوم على فكّ أسر الدولة اللبنانيّة من جهة، وإعلان حياد لبنان من جهة ثانية. إنّ الدّولة اللّبنانيّة هي اليوم أسيرة التّحالف القائم بين منظومة السّلاح من جهة، ومنظومة الفساد من جهة ثانية. هذا التّحالف الجهنّميّ استنزف مقدّرات الدّولة الماليّة والاقتصاديّة والبشريّة، واستباح سيادتها، وشرّع حدودها. إنّ فكّ أسر الدّولة اللّبنانيّة يبدأ بكفّ يد هذه الزّمرة عن سلطة القرار في لبنان ، حتّى تستعاد تبعا لذلك الثّقة العربيّة والدّوليّة فيه وتستعيد الدّورة الاقتصاديّة انتعاشها”.
وتابع: “اما حياد لبنان فهو أحد المبادئ التّأسيسيّة للدّولة كما نصّ على ذلك الميثاق الوطنيّ. إنّ حياد لبنان المطلوب ليس حيادا بين الحقّ والباطل كما حاول البعض توصيفه، ولا يعني حيادا تجاه القضايا العربيّة المحقّة وفي مقدّمها القضيّة الفلسطينيّة ، ولا حيادا تجاه القضايا الإنسانيّة الكبرى، ولا حيادا تجاه أيّ خطر يتهدّد لبنان وأمنه وسلامته، إنّما هو حياد تجاه سياسة المحاور، وحياد لناحية تدخّل بعض الأطراف الدّاخليّة عسكريّا وأمنيّا في حروب المنطقة وصراعاتها وصراعات شعوبها الدّاخليّة، وهو ما أدّى ويؤدّي اليوم إلى هذا الواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ القاتم والمرير”.
وتوجّه للبطريرك الراعي بالقول: “غبطة أبينا الكاردينال الراعي، ليأخذ الله بيدكم كما أخذ بيد أسلافكم حتّى تتقدّموا مسيرة تحرير الدّولة وفكّ أسرها من المغتصبين وتجّار الهيكل في لبنان، وإعادة إرساء أسس الكيان اللّبنانيّ على قاعدة الحياد، للوصول به إلى برّ السّيادة والدّولة الفعلية”.
وبالنسبة لحكم المحكمة الدوليّة، قال جعجع: “بصرف النّظر عن الآراء المتعدّدة تجاه الحكم الذي أصدرته المحكمة الدوليّة الخاصّة بلبنان اخيرا، غير أنّ الكلّ مجمعون بالحدّ الأدنى أنّ هناك شخصا ادين بجريمة كبرى بهذا الحجم، إسمه سليم عياش. إنّ من أبسط واجبات السّلطة اللّبنانيّة في هذه الحالة هو إلقاء القبض على هذا الشّخص وتسليمه الى المحكمة الدّوليّة. في هذه المناسبة، تحيّة الى روح الشّهيد رفيق الحريري، تحية الى أرواح شهداء ثورة الأرز واحدا واحدا. وليتذكّر الجميع أنّ “يوم العدل على الظالم اشدّ من يوم الجور على المظلوم”. وفي النّهاية لن يصحّ إلّا الصّحيح”.
وتوجّه للشهداء بالقول: “رفاقي الشّهداء، لقد أصر صيف الـ2020 على ألاّ يمر من دون أن يضيف إلى لائحتكم الطّويلة، لائحة اخرى. كنّا نخشى أن يموت البعض من اللّبنانيين جوعا أو يقضي قهرا أو يرحل نتيجة فقدان دواء وتعذّر استشفاء، فإذ بجائحة الإهمال وبوباء الاستهتار ومرض الفساد المزمن يقتل الأحبّة بالمئات ويجرح أو يعيق الآلاف ويدمّر البيوت بعشرات الآلاف ويشرّد الأهلين بمئات الآلاف. من أجل راحة أنفسكم يا شهداءنا، شهداء المقاومة اللبنانيّة، سنصلّي دائما. وصلّينا ونصلّي اليوم لراحة أنفس شهداء التّمسّك بالأرض والأمل والوطن، وفي الوقت عينه ضحايا أداء سلطة لا تهز أهلها ثورة ولا انهيار ولا انفجار هزّ العالم وضميره، ولم يهز كرسيّا من كراسيهم ، ولم يستحقّ منهم رفة جفن أو اعترافا بتقصير. لقد سقطتم يا ضحايا الانفجار الغادر، في ارض سبق أن روتها دماء الشّهداء دفاعا عن أحواضها في وجه أكثر من متطاول ومحتلّ، فإذ بكم تسقطون بسبب تآمر مخز واستهتار متخاذل وفساد مزمن. لن نقول لكم ناموا قريري العين، لأنّ أعينكم وأعيننا لن تغمض قبل معرفة الحقيقة وإحقاق الحقّ”.
وختم قائلا: “لا يعتقدنّ أحد وكأنّه قد حكم علينا بالعيش في هذه الجهنّم الى أبد الآبدين. فعلى الرّغم من فداحة أوضاعنا الحاليّة، وعلى الرّغم من ضحايا انفجار بيروت بشرا وحجرا، وعلى الرّغم من اوضاعنا الاقتصاديّة الماليّة المزرية والتي تزيد تدهورا يوما بعد يوم، وعلى الرّغم من فجور حكّامنا وقلة ضميرهم وحيائهم، فإنّنا مصمّمون ، وأكثر من أيّ وقت مضى، على بذل كلّ الجهود والتّضحيات، وعلى بذل الذّات إذا اقتضى الأمر، في سبيل الخروج من هذه الجهنّم الى ربوع لبناننا العزيز الأخضر كما عرفناها عبر التاريخ. فلا تأخذنّ منّا الأزمة مأخذا، ولا ندع حفنة من المسؤولين المجرمين الكفرة المتلاعبين بحياتنا ومقدّراتنا، أن يتلاعبوا بإيماننا وتصميمنا على الخلاص منهم ورميهم في مزابل التّاريخ. من كان له تاريخ كتاريخنا، ومن يستند الى آلاف مؤلّفة من الشّهداء، لا يصعب عليه التّغلّب على صعاليك أمسكوا بزمام أموره في غفلة من الزّمن. لبنان وطننا، وفيه باقون، أحرارا باقون، أسيادا باقون، مقاومين ثوّارا أبطالا باقون. هذا قدرنا،( هذا خيارنا)، هذه عقيدتنا من جيل الى جيل وعليها باقون، باقون، باقون. المجد والخلود لشهدائنا الأبرار. المجد والخلود لشهداء بيروت ومار مخايل والجميزة والأشرفية والرميل والصيفي والمدور والكرنتينا. العزّة والكرامة لشعبنا الأبيّ في انتفاضته المجيدة”.
وقد احتفل المطران عنداري بالقداس يعاونه لفيف من الكهنة وقد جاء في عظته: “قال الربّ لموسى: ” اخلع نعليك من رجليك فإنّ المكان الذي أنت فيه أرض مقدّسة ” (سفر الخروج 3: 5) أن ينتدبنا للمرّة الثانية صاحب الرعاية، غبطة أبينا السيّد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الكلّي الطوبى، ويكلّفنا تمثيله في قدّاس شهداء “القوّات اللّبنانيّة”، فهذا فضل منه وشرف لنا. وهل أدعى إلى الخشوع من هذه الذكرى الأليمة، ذكرى دم أريق تعوّدّ اللّبنانيّون الشرفاء أن يبذلوه رخيصا في سبيل الوطن وعزّته وحرّيته واستقلاله؟”.
ولفت إلى أننا “نلتقي في هذه الأيام التاريخيّة المصيريّة لنقدّم الذبيحة الإلهيّة السنويّة في أعقاب زلزال بيروت، وكأنّ العاصمة والوطن في رؤيا نهيويّة، تتراءى أمام عيوننا النعوش البيضاء في موكب طويل لا ينتهي. في ذمّة من كلّ هؤلاء الضحايا والشهداء؟ في عنق من كلّ هؤلاء الأبرياء؟ وإلى متى يستمرّ النزف من قلب لبنان؟”.
وقال: “إذا مرّ بلبنان غريب أو عاد إليه مهاجر، ورأى ما حلّ بالأرض والإنسان، وتنشّق التلوّث والفساد في كلّ مكان، ورأى الدماء وتكاثر الفواجع، والمناحة في البيوت والساحات، وقوافل التشريد والتهجير وخسارة البيوت والأموال والأعمال والأرزاق وفقدان الراحة والأمان. فهل يدرك أنّ ما كتب على لبنان هو أن يسير على طريق المجد عبر الصليب، ويدفع غاليا معموديّة الأرض والدمّ؟”.
وتابع: “عار عليكم، أيّها المتفنّنون بالإجرام والخالون من كلّ ضمير ووجدان، فإن تفلّتّم والمتواطئين معكم من عدالة الأرض لن تفلتوا من يوم الحساب وعدالة السماء. فأنتم وإن طال الزمان فإلى لعنة الأجيال ومزبلة التاريخ صائرون. كفانا إجراما وكفانا ضحايا وشهداء. إنّ صوت الربّ المدوّي يقول لكم: ” ماذا صنعتم؟ إنّ صوت دماء إخوتكم صارخ إليّ من الأرض”. إنّ لبنان، مهما جار الزمان عليه، هو أرض مقدّسة وأرض القدّيسين وليس موئلا للإرهاب والمجرمين. إنّنا في هذا الوطن الجريح نشرك آلامنا بآلام السيّد المسيح الفادي، ونعتبر الشهداء والضحايا حملوا في أجسادهم آلام موت يسوع لتظهر حياته فيهم وفق تعبير بولس الرسول. أجل، إنّ شهداء المقاومة اللّبنانيّة وشهداء وضحايا بيروت وكلّ لبنان الذين روت دماؤهم هذه الأرض يصحّ فيهم ما قاله يوما أحد الشعراء: اخلع نعالك قبل دوس ترابه فتراب لبنان رفات رجاله”.
وشدد على أننا: “نحن أبناء أرض جبلنا منها. هي أمّنا وإليها نعود. أوجدنا الربّ فيها لنحافظ عليها بالدم وعرق الجبين. إنّ البركة الإلهيّة وميراث الأرض والتجذّر فيها منذ الخلق في سفر التكوين هي عطيّة إلهيّة ثمينة، وهي مساحة للعيش الحرّ والكريم وتأدية الشهادة الصادقة للمسيح والتفاعل الإنسانيّ السليم، بحسب تعبير المجمع البطريركي الماروني. مثل الزارع في الإنجيل هو من الأمثال التي كثر التأمّل بها لأنّ الربّ شرحها بنفسه. أمّا الزرع الذي وقع في الأرض الجيّدة فهم الذين يسمعون كلمة اللّه بقلب جيّد صالح فيحفظونها ويثبتون فيثمرون. إنّ حبّة الحنطة إن لم تقع في الأرض وتمت تبقى واحدة، وإن ماتت أتت بثمر كثير. الأرض الجيّدة هي عنوان لمجتمع أفضل. شهداء يبذلون حياتهم في سبيل وطنهم وأحبّائهم. أفراد يخافون اللّه. عائلات تحيا إيمانها بصدق. بلدات تسعى إلى نبذ الخلافات. مدائن تقكّر بمحتاجيها. وطن يؤمّن الأمان والكرامة لمواطنيه. مؤمنات ومؤمنون يقرنون القول بالفعل حتى الشهادة. ماذا ينقصنا لنكون أرضا طيّبة؟”.
وقال: “إنّ أرض لبنان في تقليدنا ليست ملكا نتصرّف به على هوانا، بل هي إرث من الآباء والأجداد نحافظ عليه ونتجذّر فيه ، ولا نعيث فيه فسادا وإجراما. إرث نسقيه من دمائنا وعرقنا دفاعا عنه واعتناء به. إرث أشبه بوديعة ثمينة أو ذخيرة مقدّسة. إنّ التعامل مع هذا الإرث الثمين يصلنا بالخالق كما يصلنا بالأجيال السابقة التي تركت فيه بصمات لا تمحى من تعبها ودمها. فالعلاقة التي تربطنا بأرضنا علاقة روحيّة تؤكّد هويّتنا الخاصّة وتاريخ نضالنا وذاكرتنا الحيّة. وإذا ما تعرّضنا في أرضنا من ضيق ومظالم، فهذا لا يبرّر ترك الوطن لغيرنا. لا للتوطين ولا للنازحين. قد تضطرّنا هذه الضغوطات في ظروف معيّنة إلى البحث عن عيش كريم في هجرة قسريّة إلى حين، هربا من الجوع وبحثا عن الأمان، لكن لا بدّ من توطيد العلاقة الروحيّة بأرض الأجداد، والعودة إليها، لا بل بالحجّ إليها، والارتباط بالمقيمين فيها ليحافظوا عليها أرضا للحرّية والإيمان والإنسان”.
ولفت إلى أنه “لمّا كان اسم فلسطين أرض كنعان، وسوريا بلاد أرام، والعراق بلاد ما بين النهرين، وإيران بلاد فارس، وفرنسا بلاد الغال، واسكاندينافيا أرض الفايكينغ، وأميركا بلاد العالم المجهول، كان لبنان وبقي اسمه لبنان. نحن في طبيعتنا وأساس كياننا نقدّس الأرض ونتقدّس بها بالعمل فيها. هي أرض ذكرها الكتاب المقدّس إثنين وسبعين مرّة. ولما نظر موسى إلى شمال أرض الميعاد ، نحو جبل لبنان الطيّب، أجابه اللّه: ” أغمض عينيك. هذا الجبل هو وقف لي. لن تطأه قدماك، لا أنت ولا الذي سيأتي من بعدك “. أرض وطأها السيّد المسيح، هي أرض شربل ونعمة الله ورفقا وأبونا يعقوب والمكرّمان الدويهي والحويّك. هي أرض زرعناها بالصلاة والعمل والشهادة. نقتلع منها الزؤان والشوك الذي زرعه إبليس في حقلنا، لا مكان فيها لتجار الهيكل والإنتهازيين وباعة الضمير والكرامات والمبادئ الإنسانيّة والمسيحيّة. أرضنا بيتنا، ألبسه اللّه لوحا من غاب الأرز الأخضر الشاهق الخالد والسنديان الصامد والكروم والعناقيد في مواجهة التصحّر وجرائم البيئة المقيتة. فكن مسبّحا أيّها الربّ على عطيّتك المقدّسة، على إنجيل الخليقة”.
وشدد على أننا “اجتمعنا لرفع الصلاة لراحة أنفس الشهداء، ومن بينهم من لم تجفّ دماؤهم. لكنّنا نعرف بإيماننا أنّهم شهداء أصبحوا لدى اللّه شفعاء بنا تستصرخه دماؤهم الذكيّة وطالبة منه العزاء لنا للتغلّب على المحنة – الكارثة. فهم ما راحوا، وهم ونحن باقون. وإذا ما رفعنا الصلاة من أجلهم فإنّنا نرفعها بالوقت عينه لأجلنا نحن الشهداء الأحياء ليهدينا اللّه السبيل للخروج ممّا نحن فيه وإن طال الزمان. آباؤنا عانوا من أهوال المجاعة والظلم العثماني ووباء الطاعون، وها نحن في الذكرى المئويّة الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير، سائرون على خطاهم، نعاني أهوال الانهيار الاقتصادي والماليّ، وظلم المافيات الفاسدين وما يستتبعه من جوع المواطنين إلى جانب جائحة كورونا. ففي قلب مآسي هذه السنة الكبيس، ينطبق علينا في هذه البقعة من الشرق قول السيّد المسيح للرسل: ” ستكونون لي شهودا “. اجل لقد شهدنا ونشهد للمسيح. نشهد بدمائنا التي نسترخصها في سبيل هذه الشهادة منذ فجر المسيحيّة وحتى يومنا هذا. ولكنّنا وإن اشتدّ علينا الضيق من كلّ جانب، فلا ننسحق، نحار في أمرنا ولا نيآس، نتحمّل صراعات المحاور في حروب الكبار ولكن لا نسقط، ولا يتخلّى اللّه عنّا. علّمنا السيّد المسيح أنّ كلفة النضال في المحبّة باهظة الثمن، حتى بذل الذات، وأنّ الألم والصليب خير لنا من ثقافة المتعة والرخاء المؤدّية إلى الهلاك. إنّنا أبناء مجد القيامة”.
واعتبر أن “خشبة الخلاص عندنا هي ما طرحه مؤخّرا صاحب الغبطة والنيافة عن الحياد الإيجابيّ والناشط الذي يجب على كلّ اللّبنانيين الحقيقيين أن يدعموه ويساندوه دون تحفّظ. إذا كنّا نريد حقّا بسط السيادة وإعادة الأمن والاستقرار والسلام في بلادنا، فلنفحص الضمير ولنسدّد المسيرة من أجل الولاء الوحيد للبنان، لكي نبني الأجيال والوطن، وتخضوضر الأرض، ويأنس الناس. فهل من يسمع ويعتبر؟ فيا سلطانة الشهداء إرحيم الشهداء والضحايا، ويا شفاء المرضى إشف المصابين، ويا سيّدة لبنان إحفظي لبنان–آمين!”.
وقد خدمت القداس جوقة جامعة سيّدة اللويزة بقيادة الأب خليل رحمة، فيما قامت ثلّة من كشافة الحريّة تحيّة تعظيم وإجلال للشهداء فيما تم تقديم القرابين في القداس على راحة أنفس شهداء المقاومة اللبنانيّة بالإضافة إلى شهداء انفجاء 4 آب في بيروت على أنغام أعنية “يا بيروت”.
ونظمت القداس لجنة الأنشطة المركزيّة في حزب “القوّات اللبنانيّة” بالتعاون مع شركة “ICE”. كما أطلقت “القوّات اللبنانيّة” على ما جرت العادة أغنية في القداس من كلمات الشاعر نزار فرنسيس وألحان ميشال فاضل وقد قام المخرج مارون أبي راشد بإعداد فيلم مصوّر لها. وقد تلا الرسالة النائب شوقي الدكاش فيما تلا النوايا كل من: دافيد ملاحي شقيق الشهيد رالف ملاحي، السيدة ماري رين بو صعب إبنة عم الشهيد جو بو صعب، منسّق منطقة طرابس جاد دميان، رئيس مصلحة الطلاب طوني بدر، نائبة رئيس مصلحة المهن المجازة ميراي ماهر، والرفيق فرانسوا أبي راشد.