انفجار السدّ “جافاً” جنّب البلد كارثة مالية
أثارت الملفات العتيقة القابعة في خزائن وزارة الطاقة فضول القيمين عليها. بعد اخراجها ونفض الغبار عنها.. اكتشفوا انها تحتوي على “كنز”! مائي لا يقدر بثمن. عشرات الدراسات المنجزة لمشاريع سدود في مختلف المناطق اللبنانية جاهزة للتنفيذ. أعادوا ترتيبها بحسب الاولوية، غيروا تاريخ انتهاء الصلاحية، وأطلقوا ما أصبح يعرف بالاستراتيجية المائية.
تضمنت الاستراتيجية 54 مشروعاً مائياً، يمتد أجل تنفيذها من العام 2010 ولغاية 2035. من بين هذه المشاريع 24 سداً بكلفة تناهز 2 مليار دولار. سد “بسري” الذي سقط مؤخراً بضربة حجب التمويل عنه من “البنك الدولي”، كان واحداً من أكثر هذه السدود اشكالية. ليس لانه أتى بعد الفشل الذريع لتجربة السدود في “المسيلحة”، “جنة”، “بقعاتا”، “شبروح”، “بلعا” و”بريصا”… فحسب، بل للارتفاع الهائل في كلفته المادية والايكولوجية والاقتصادية بالمقارنة مع فوائده المائية. وهو ما يسقط عنه حكماً صفة “مشروع ذي منفعة عامة”، ويجعل من الاستمرار به مخالفاً لأبسط القواعد الاقتصادية، وأبرزها: نظرية “موازنة الكلفة إلى العائد” و”دراسة الجدوى”.
إخفاء الكلفة الحقيقية
كلفة المشروع الحقيقية ليست 600 مليون دولار كما حاولت وزارة الطاقة إيهام الرأي العام. فالوزارة تعمدت بحسب الخبير في الاقتصاد السياسي رولان رياشي “حجب بعض الحقائق لابقاء التكلفة الحقيقية متدنية. فحددت كلفة التدهور البيئي بـ 148 الف دولار فقط”. في حين أن المشروع سيؤثر بحسب الاحصاءات على 3 ملايين متر مربع من المساحات الخضراء، ويقضي على مليون و480 الف متر مربع من الاراضي الزراعية، ويؤدي إلى قطع آلاف الاشجار، بحيث تصبح القيمة المرصودة للتحريج بـ 1.5 مليون دولار غير ذي شأن. وبحسب رياشي فان “الطاقة سوقت بان المياه ستُجر بالجاذبية، في الوقت الذي سيحتاج فيه المشروع إلى مضخات ضخمة لم تحتسب كلفة شرائها وتشغيلها. ولم تذكر دراسات المشروع كلفة جر مياه الاولي التي سيتم تلزيمها إلى شركة خاصة. كما تسترت على كلفة حقن الفجوات والتغليف”. هذه التكاليف غير الملحوظة مضافاً اليها الفائدة التي يتقاضاها البنك الدولي، تجعل الكلفة الحقيقية للسد مضاعفة. أي انها لن تقل عن 1.2 مليار دولار. وستتحمل كل أسرة لبنانية برأي رياشي “500 دولار سنوياً بدل مياه شرب وخدمة”. هدم السدود لا لإنشائها
الكلفة الباهظة لسد بسري الممولة بالاقتراض، يقابلها تخوف الاختصاصيين من فشل المشروع كما حدث مع سد “الضنية”، وهو ما يراكم الدين العام من دون أي فائدة تذكر. وإذا سلمنا جدلاً بامكانية نجاح المشروع فان “كلفة صيانته وتكرير مياهه وحمايته من التلوث ستكون كبيرة جداً وغير محتسبة”، يقول المحلل الاقتصادي في المعهد اللبناني لدراسات السوق مجدي عارف. وهذا ما يدفع الكثير من الدول في أوروبا وأميركا إلى هدم السدود، واللجوء إلى الخيارات الطبيعية الاوفر والاكثر استدامة”. وهذا أيضاً ما توصي به دراسات “الامم المتحدة” التي تعتبر ان السدود مشاريع غير مربحة وستواجه من دون مهرب التلوث نتيجة عدم جريان المياه.
معالجة فوضى المياه
مشكلة لبنان ليست في افتقاره للمياه انما في سوء ادارة القطاع وتحكم الاهمال والفساد في مفاصله. وهذا ما يثبته “عدم اضطرارنا إلى شراء المياه من الخارج كما تفعل سنغافورة على سبيل المثال. فسنغافورة تجر المياه من ماليزيا وتتكبد اموالاً كثيرة على النقل والتكرير. في حين ان مصادر المياه المستخدمة في لبنان هي داخلية. وهذا ما يدفعنا إلى القول إن لب المشكلة هو غزارة في الانتاج وسوء في التوزيع”، يقول عارف.
“المعهد اللبناني لدراسات السوق”، يقدّر نسبة المياه السطحية في لبنان بـ 84 في المئة، يذهب معظمها هدراً إلى البحر من دون أي استفادة تذكر منها. ويضيع في شبكات النقل والتوزيع المهترئة حوالى 50 في المئة من المياه المنقولة إلى المناطق والمنازل. وتشكل نسبة الطلب الزراعي على المياه 75 في المئة من مجمل الطلب. وبالتالي فان ترشيد استهلاك المياه في الزراعة عبر اعتماد اساليب الري الحديثة، تنتفي عندها أي حاجة إلى السدود وبرك التجميع لتأمين مياه الشفة للمواطنين. هذا فضلاً عما تعانيه إدارات مصالح المياه من الفوضى، الاهمال، البيروقراطية، الرتابة، ونقص الخبرات. ما يجعل بحسب عارف من “إتاحة المجال أمام القطاع الخاص للاستثمار والتمويل في المياه حلاً يعوض عجز الدولة وسوء ادارتها”. وللمثال عن أهمية دور القطاع الخاص يعطي عارف مثالاً حسياً وملموساً من طرابلس. ففي العام 2003 استلمت قطاع المياه في المدينة الشمالية شركة خاصة فرنسية (Ondeo)، استطاعت خلال 4 سنوات تحسين الشبكات وتأمين المياه 24 على 24 ورفع ايرادات الدولة بشكل كبير. ونتيجة لذلك ما زالت طرابلس لغاية اليوم المدينة الوحيدة في لبنان التي لا تعاني من نقص في المياه.
“سيدر” والحلول المنشودة
الاستعانة بالقطاع الخاص والاستفادة من خبراته في مشاريع المياه تتقاطعان مع توصيات مؤتمر “سيدر” لمساعدة لبنان وتشجيع الاستثمار من خلال الشراكة بين القطاعين العام والخاص. و”أمام الدولة فرصة ذهبية لاطلاق مناقصات على المشاريع المراد تطويرها وفتح المجال أمام القطاع الخاص للتمويل والادارة. وهذا من شأنه “تفعيل المشاريع الناجحة والغاء المحسوبيات والتوظيف السياسي غب الطلب وابقاء الافضل من الناحية العملية والمادية. ذلك لان القطاع الخاص يتجنب المشاريع ذات الجدوى الاقتصادية المنخفضة” يقول عارف.
المفكرة القانونية التي أعدت عدداً خاصاً عن مرج بسري تحت عنوان “مرج بسري في قلب الانتفاض” قدمت مجموعة من البدائل لتأمين مياه نظيفة لبيروت والضاحية من دون الحاجة الى سد بسري واهمها:
– معالجة الهدر في نبعي جعيتا والقشقوش البالغ 600 الف متر مكعب في اليوم.
– استثمار فائض المياه الجوفية البالغ 2.1 مليار إلى 4.7 مليارات متر مكعب في السنة.
– توفير حوالى 42 مليون متر مكعب من المياه في السنة من خلال اصلاح شبكات المياه في بيروت وحدها.
– امكانية استثمار 81 مليون متر مكعب من نهر بيروت سنوياً.