كتب أنطوان مراد في “المسيرة” – العدد 1709
قصة الحياد ولبنان تضرب جذورها عميقا في التاريخ وإن لم تتخذ طابعا سياسيا او قانونيا في الماضي. لقد مثل لبنان دائما حالة متمايزة ضمن حدوده التاريخية والطبيعية، تأسيسا على البقعة التي انتشر فيها الفينيقيون على الساحل والأراميون في الداخل، وهم في الأصل من جذور واحدة.
لقد كانت هذه الحدود تتسع او تنكفئ ضمن حدين أقصى وأدنى لكنها كانت دائما تشمل لبنان الحالي وصولا الى بعض من الشاطئ السوري شمالا والشاطئ الفلسطيني جنوبا، والأمر نفسه بالنسبة للسلسلة الشرقية وما وراءها.
على ان المدن الفينيقية التي كانت تجتمع في صيغة كونفدرالية موسعة، سعت دائما الى تجنب الدخول في صراعات الامم الكبيرة، وحرصت على المحافظة على حد معين من الاستقلال الذاتي، علما انها لم تتردد أحيانا كثيرة في المواجهة او في الثورة عندما تجد ان كيانها مهدد وكرامتها في خطر.
والسبب الأساسي في هذا النهج الحيادي يعود الى ان لبنان بمختلف الحقبات الزمنية لم يكن أمة كبيرة وقوة اقليمية تبغي التوسع والهيمنة نظرا لقلة سكانه وندرة الموارد الطبيعية وضيق الارض التي يقطنونها.
وهذا الواقع «الحيادي» امتد على مر الزمن، من خلال الاعتراف بنوع من الاستقلال الذاتي لأهله بنسبة او بأخرى، وقد تجلت الحالة الحيادية للبنان مع الفتح العربي حيث تحصن اهله في الجبال، وميّزوا أنفسهم عن العرب والبيزنطيين، واندمجوا مع المردة الذين واجهوا الروم والعرب على السواء.
وقد أعطى الموارنة للبنان منذ البطريرك يوحنا مارون طابعا متمايزا للجبل اللبناني، فحرصوا على استقلاليته. وعلى الرغم من ترحيبهم الحذر نسبيا بالصليبيين فقد حافظوا على تمايزهم ولم يندمجوا بهم وتجنبوا بعامة الإنضمام الى عسكرهم. وفي العصر المملوكي إختار اللبنانيون المقاومة أحيانا كثيرة حفاظا على استقلاليتهم، لكنهم مع ذلك لم يتعاونوا مع أي دولة أو قوة أجنبية. وخلال الإحتلال العثماني، برزت بوادرالقومية اللبنانية مع الإمارتين المعنية والشهابية، حيث حافظ الجبل اللبناني على تمايزه، وسعى الأمير فخر الدين الثاني الى إرساء نوع من التوازن بين العلاقة مع السلطنة والإنفتاح على أوروبا من خلال علاقته الوثيقة بتوسكانا. ولعل تكريس نظام المتصرفية مثل شكلا من أشكال الحياد اللبناني، من خلال الاستقلال الذاتي الذي تمتع به جبل لبنان بنسبة لا بأس بها، وتحوله الى كيان يحظى برعاية دولية.
على ان الحالة الحيادية تطورت تدريجا مع إعلان لبنان الكبير واقتناع اللبنانيين شيئا فشيئا بأهمية الاستقلال اللبناني ليس عن الانتداب الفرنسي فحسب، بل عن الاصطفاف شرقا أوغربا، مع التأكيد على الروابط البديهية مع المحيط العربي. ومن هنا ولد الميثاق وعقد الشراكة التاريخية بين المسلمين والمسيحيين، فكان الموقف المعبّر بالقول لا للشرق ولا للغرب، مع التأكيد على وجه لبنان العربي، وصولا مع الاستقلال الناجز الى الإنضمام كبلد مؤسس لكل من جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة.
ولذلك، شكل الميثاق الوطني بحد ذاته أول مظلة فعلية لحياد لبنان، لكن ذلك لم يمنعه من التضامن مع القضايا المحقة، ومن خوض اولى الحروب العربية الإسرائيلية في العام ١٩٤٨ مع معركة المالكية. ومن هنا يمكن تلمّس دعوة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الى حياد لبنان وليس تحييده، باعتبار ان الحياد مبدأ ثابت والتحييد مجرد موقف سياسي ظرفي.
لقد شكلت مبادرة سيد بكركي تتويجا لسلسلة لقاءات وندوات وخلوات على أكثر من صعيد لبحث السبل الكفيلة بحماية لبنان وإنقاذه من الدوامة الدورية التي تعصف به ازمات وحروبا وصراعات وتدخلات خارجية، فتقدم طرح الحياد الى الواجهة واعتبره البطريرك الراعي خشبة الخلاص، لا سيما بعدما وجد أن الحياد كمفهوم موجود في متن الميثاق الوطني من دون تسميته بالاسم وينبغي بلورته على المستوى الوطني والممارسة السياسية وتكريس لبنان بلدا محايدا يمتنع عن التورط في الحروب والصراعات والمحاور على اشكالها.
وقد حرص البطريرك الماروني على توفير أوسع مروحة من التأييد لطرحه، وطوّره وعدّل فيه حتى أخرجه الى العلن من خلال الوثيقة التي حددت خصائصه وشروطه واهميته كمبدأ ينسجم مع الدور المفترض للبنان وتموضعه الحساس في المنطقة.
ولا يطرح سيد بكركي مسألة الحياد كفكرة للجدل، بل كثابتة يمكن تشذيب بعض جوانبها وتكريسها على الصعيدين الإقليمي والدولي. ومن هنا زيارته للفاتيكان وربما لعواصم أخرى، فضلا عن أهمية تبني الطرح في الأمم المتحدة، بتوافق دولي يتيح للبنان الخروج من دائرة التجاذب القاتل الذي أودى به الى الواقع البائس الراهن.
ويعتبر البطريرك الماروني ان هناك أمورا لا تقبل التسويف، لأن الحياد مبدأ سيادي بقدر ما هو مبدأ ميثاقي، وبالتالي ينبغي على كل حزب لبناني أو فئة لبنانية ان تفك ارتباطها بأي محور خارجي وان ينبع قرارها من لبنانيتها ومن مصلحة لبنان وجميع اللبنانيين، إذ لا يجوز ان يستقوي أي زعيم أو حزب بالخارج للوصول الى السلطة أو لفرض أجندته على سائر اللبنانيين، فكم بالحري عندما يؤدي ذلك الى شبه عزلة للبنان عربيا ودوليا.
ولذلك فإن دعوة البطريرك الراعي هي لجميع اللبنانيين كي يدركوا ان الحياد ليس لمصلحة فئة أو على حساب فئة، بل يشكل ضمانة لتعزيز سيادة الدولة وقوتها الذاتية بما يمكّنها من حماية الجميع وحماية الوحدة الوطنية وتوفير أسباب الاستقرار والازدهار.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]