كتب سيمون سمعان في “المسيرة” – العدد 1709
لا ينتظر بشير الجميل آب الرئاسة أو أيلول الشهداء، كي يُستذكر أو يُستشهد بأدائه الفذ، أو لإسقاط أقواله وأفعاله على الواقع المعاش، فيتبيّن الفرق واضحًا بين النهار والليل وبين حسن القيادة وسوء الطالع. لا ينتظر بشير تعقّد الأزمات وتراكم الأحداث لنُطل من نافذة التاريخ على تاريخه السخي فنقطف منه ما لذّ وطاب، وما صلُحَ ليكون اليوم مادة ترشد الضالين وتصوّب مسيرة التائهين في غياهب المبتذل من السياسة والساقط من المصالح والأنانيات. ولا يبخل منهل القائد المختزِن لكل المحطات المستعادة اليوم ولو ببهتان وأسى. نجد في المواقف من كل المحطات: من السيادة وتحرير قرار الشرعية ومحاربة الفساد، إلى العلاقة مع العالم العربي وسائر العالم إنفتاحًا والنأي بلبنان عن صراعاتهم كما النأي بهم عنه وعن تقرير مصيره الذي لن يكون إلا حصرًا بيد أبنائه المتعاضدين. هكذا رسم بشير خط الجمهورية الحلم وهكذا بلغت مشارف التحقق… لتعود فتسقط في غياهب الضالين. وبإسقاط رؤية الماضي على قضايا الحاضر يتبيّن كم كانت تلك النظرة سليمة ومستقبلية، وكم كانت الخسارة كبيرة ومصيرية!
قد يكون إستذكار بشير في الظروف التي يمر بها لبنان اليوم أكثر من مجرد إستعادة لفصول طواها الوقت أو إسترجاع لزمن مضى، إنه بحق فتح لخارطة الطريق للإستدلال على نقاط الإرتكاز فيها ومحطات الوصول إلى الجمهورية القوية. تلك الجمهورية التي لرئيسها قدرة وإرادة بناء الدولة ومحاربة الفساد وإطلاق عجلة مؤسسات تنقل الوطن من حال الفوضى والتداعي إلى حال التعافي والإزدهار.
فكيف نظر القائد الشهيد وماذا قال عن معضلات نعيش تعقيداتها وويلاتها اليوم، وكيف تعامل مع قضايا الوطن الجريح من الفساد إلى الحياد… وما بين هذا وذاك؟
الحياد بين القناعة والمشروع
إذا كان في استدامة الحديث عن مواقف بشير الجميل وطريقة إدارته الدولة تكريمًا ووفاء له، والإبقاء على حضور هذا القائد رمزًا في وجدان اللبنانيين المخلصين الصادقين، إلّا أن في ذلك من جانب آخر (وهذا هو الأهم) إضاءة على كيفية التعاطي مع الأزمات وإنقاذ الأوطان والشعوب من التسيّب والتشرّد والمآسي. ربما لا يعلم الجميع كيف أبدع ذاك الشاب النابض حياة وعنفوانًا، في نقل وطنه من حال تقييد القرار السياسي والفوضى والحروب وضياع الهوية، إلى إرساء قواعد الإستقرار والإنفتاح والوحدة والإمتناع طوعًا عن ممارسة الفساد حتى قبل أن يشكل الرئيس حكومة العهد الأولى.
لا يغيب عن بال كثيرين التذكير في هذا الإطار بالإطلالة الأولى للشيخ بشير عبر تلفزيون لبنان بعد انتخابه رئيسًا، ومخاطبته اللبنانيين التواقين إلى وطن الـ10452 كلم مربعًا، حيث قال الرئيس المنتخب عبارته الشهيرة: «أنا جايي أطلب منكن تقولوا الحقيقة.. قد ما كانت صعبة هالحقيقة». ومن هنا بدأت تداعيات حضوره الفذ تظهر في الإدارات والمؤسسات.
لكن السؤال الأبرز هو كيف يمكن تظهير موقف الشيخ بشير من دور لبنان في المنطقة والعالم إنخراطًا أم حيادًا، وكيف صاغ ذاك الموقف السهل الممتنع بتجنيب لبنان صراعات المحاور من غير أن ينأى به عن علاقات خارجية فاعلة وناشطة تصب في مصلحة تطوره وازدهاره؟
ورد في خطاب القسم: «أجل، إن حرب لبنان إنعكاس لمعركة حصر الإرث بين الديانات الثلاث، الموزعة على دول المنطقة وشعوبها. بعض هذه الدول والشعوب حاولت أن تشدنا صوبها، كل واحدة تطلب أن نشهد لها، ولما رفضنا إدعت علينا، ووضعتنا في قفص الإتهام واقترعت على أرضنا، وشتّتت شعبنا وحكمت علينا بالموت، فأصبنا ولم نمت، قمنا نشهد للبنان، ونشهد عليهم ونشهد دولاً تعيد الشرق إلى عهد الخلفاء، ودولاً أخرى تعيده إلى عهد الأنبياء».
هنا يجيب أحد الباحثين ممن عايشوا الرئيس الشهيد في تلك الفترة «صحيح أن الشيخ بشير لم يطرح حياد لبنان كمشروع متكامل مفصّل يعمل على تحقيقه خلال رئاسته، لكن كانت ثمّة قناعة واضحة عنده بأن لبنان لا يمكن أن ينهض ويستمر قويًّا إذا بقي أسير المحاور التي تتجاذبه كلما تغيّرت إتجاهات الرياح العربية، والأمثلة الماثلة في التاريخ كثيرة ومعروفة. من هنا تكونّت لديه قناعة بأن على لبنان أن يبني هوية سياسية واضحة لا تبعده عن دوره في محيطه العربي والعالم الحر، ولا تتركه ساحة لصراعات المحاور التي يدفع ثمنها من وحدته واستقلاله وازدهاره وتميّز دوره في محيطه».
ويتابع: «من هنا كان قراره الإستراتيجي الإنفتاح بقوة على الشريك المسلم في الوطن وطمأنته حتى يستعيده إلى لبنانيته، فيغلق بذلك هذه الثغرة التي لطالما شكلت منفذاً للمصالح العربية وهوت بلبنان إلى الصراعات والهلاك. وكان الشيخ بشير خَبِرَ بقوّة وعن قرب التدخلات العربية في الشؤون اللبنانية، بل تغذية فريق وتأليب آخر وتأجيج القتال الذي لم يأت على اللبنانيين جميعًا إلا بالوبال والمآسي. وتأكيدًا لذلك كان قوله المعروف: «يللي بدو يعمل جرايد، يعمل عندو مش عندي.. ويللي بدو يعمل أحزاب، يعمل عندو مش عندي.. نحنا ما بقى فينا نحمل تدخلات ولا مسموح نفرّط بالسيادة…». وكانت يومها دول عربية عدة تغذي الصراعات في لبنان وتموّل بعض القوى بهدف تأجيج الخلاف وكسب النفوذ. وفي اجتماعه الشهير مع الرئيس صائب سلام كان الزعيم السنّي مرتاحًا لهذا الجانب، إذ لمس لدى القائد الآتي من المقلب الآخر، توقًا أكبر مما توقّع للتكاتف نحو بناء لبنان منعزلٍ عن المحاور العربية غير منفصل عن جسمه العربي. وفوجئ الرئيس سلام بأن الرئيس المنتخب لن يرمي بلبنان في أحضان إسرائيل، ولن يجافي العرب، بل على العكس كان معجبًا بالطرح الذي يجعل لبنان بمنأى عن تلك المحاور لا بمنأى عن القضايا العربية الكبرى، خصوصًا أنه عضو مؤسس في جامعة الدول العربية وملتزم ميثاقها».
وبالمقارنة مع ما نحن عليه اليوم، إلى أي مدى يتسق ما كان مقتنعًا به الشيخ بشير مع ما طرحه مؤخرًا البطريرك الراعي حول حياد لبنان، وهو المشروع الذي برز أكثر من مرّة عبر التاريخ الحديث من غير أن يلقى طريقه إلى التطبيق؟
جوابًا عن ذلك يمكن العودة إلى خطاب القسم حيث ورد عن لبنان: «حريته المتنوعة لا تسيء إلى حرمة نظامه. تعدديته الحضارية لا ثؤثر على وحدته السياسية والكيانية. فلا أولوية في الولاء، ولا شركة في الولاء، ولا ولاء إلا للبنان».
وما تحدث عنه البطريرك الراعي ووصفه بالحياد الإيجابي مستشهدًا بحياد النمسا كمثال، هو ما كان يسعى إليه الشيخ بشير بحسب الباحثين ومن رافقوه. فيقول: «لبنان الجسر إنتهى»، أي لن يكون ممرًا ولا مقرًا. ولتحقيق ذلك إندفع باتجاه المسلمين اللبنانيين لطمأنتهم فلا يدفعهم الخوف إلى المحيط العربي فينجح الحياد الموضوعي، وعندها يدفع لبنان بكليته إلى كل العالم العربي والغربي فيكسب من هذه العلاقة ومن التفاعل، بدل أن يشكل إجتذاب المحاور وبالًا على الوطن الصغير.
وفي غمرة الحديث اليوم عن أهمية حياد لبنان عن محاور لا تجلب له غير التشتّت والنكبات، وتحرير قرار السلطة السياسية وإجراء الإصلاحات، يتبيّن كم كان خيار الشيخ بشير في مكانه السليم وكم كانت رؤيته بعيدة وصائبة.
محاربة الفساد وتحرير القرار
يُشغل الفساد المستشري بقوة اليوم في كل مفاصل الدولة، الجميع في الداخل والخارج، نظرًا لما بلغه من حجم واتساع ولأثره في ضرب معيشة الناس وتقويض أسس الدولة. وهذا الأمر كان أحد العناوين الأساسية التي حددها الشيخ بشير في خارطة الطريق للجمهورية القوية. فهو استهجن كما جاء في خطبه «سعي القيّمين على الوزارات إلى ضخ «جماعاتهم وأزلامهم» في شرايين الدولة وقطاعاتها الحيوية». وهذا ما اعتُبِر إشارة واضحة إلى تصميمه على محاربة الفساد. ويقول بشير الجميل: «في وزارات عندا مجالات عمل وحدة مع بعضا ما بتحكي مع بعضا. منزفِّت طريق تاني يوم منرجع منبحشا لأنو شركة الكهربا ما كانت على علم، منرجع منزفِّت من بعد ما يوقعلو تلاتة أربعة ويكسّرو حالن وهلم جرا».
أما في الشق المتصل بتحرير قرار الشرعية وبناء الدولة القوية السيدة فيقول: «لا تدخل في شؤون لبنان الداخلية، لا تسلّل عبر الحدود، لا خرق للأجواء والمياه الإقليمية، لا إتفاقات تحت وطأة السلاح، لا تعهدات في ظل الإحتلال، لا غريب يخرج على القانون، لا طارئ يستوطن البلاد، لا دبلوماسي هنا يتعاطى مع غير حكومة لبنان، لا دبلوماسي لبناني هناك ينفذ سياسة غير لبنانية. لا فروع لأحزاب مستوردة، لا حرب عصابات بين أجهزة المخابرات، ولا أمن مستعارًا». وواضح أن تلك اللاءات رسمت خطاً واضحًا لبناء لبنان الحلم الذي سقط بعضه يومها بين الأنقاض.
وقد حدد في خطاب القسم أن «الشرعية حضور في الشعب، لا وجود في الدولة. الوجود فعل، الحضور تفاعل .الوجود هيئة، الحضور هيبة .الوجود جدلي، الحضور دينامكي. والشرعية تنمو بمقدار ما تقوم بدورها، وهي تخبو بمقدار ما تتنازل عن هذا الدور، وتقوم الشرعية بتأدية دورها حين تستخدم وسائلها وأجهزتها من دون إستثناء ولا إستئذان من أجل توفير الأمن والحرية لشعبها من دون تمييز. إذ ما الفائدة من وجود الدساتير والأنظمة والجيوش والإدارات إذا لم يتمكن الحاكم من الإستعانة بها، لإنقاذ المجتمع والأمة».
ويضيف أن «أولى مهمات الحكم الجديد هي إخلاء سبيل كل مؤسسات الدولة، وسيكون الجيش اللبناني في طليعة المؤسسات العائدة إلى العمل بعد إنقطاع قسريّ، سيعود شجاعًا مؤمناً بالقضية مرتفع المعنويات، وطني الأهداف، شعبي الإنتماء، ميداني التنشئة، عملاني القيادة…».
الحلم الذي لا يموت
معين بشير لا ينضب وتوق اللبنانيين للجمهورية الحلم لا يخبو، وربما من أسمى ما ترك القائد من قيم أنه زرع في مجموعة غير قليلة من اللبنانيين شغفًا لبناء هذه الجمهورية وإيمانًا بتحقيق الحلم وثقةً بأن الأوطان لا تُبنى إلا بتضحيات أبنائها.
وبسؤال الكاتب أنطوان نجم، الذي رافق الشيخ بشير وصاغ معه العديد من التوجهات، عن إسقاط نهجه على واقع اليوم يقول: «لم يجاهر الشيخ بشير بالحياد كمشروع أو كنظام جديد للبنان لكن من الواضح أنه كان يعمل بكل اندفاعته ليكون لبنان بعيدًا عن تأثيرات الصراعات الخارجية. لا يتدخل فيها ولا يسمح بتدخلها فيه. فهو كان يعمل لجمهورية قوية ذات مناعة بوجه الأطماع الخارجية في لبنان، وطبعًا لتحييد لبنان عن صراعات الإقليم ما يؤمن إستقراره الداخلي ووحدته وازدهاره. وهذا ما بيّنت الأحداث أهميته في ما بعد».
ويضيف نجم: «إن التوازنات التي كانت قائمة يومها في العالم والصراع بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي، إضافة إلى أوضاع المنطقة، كلها لم تكن تسمح بإعلانه هذا التوجه. لكنه كان قناعة في داخله وأساسيًا في مشروعه. ولتحقيق هذا الأمر كان الشيخ بشير يدرك أنه لا بد من بناء قناعة وطنية ومناعة داخلية عمل عليهما قبل بلوغه الرئاسة من خلال بناء الإنسان الواعي والمواطن الصالح. وهذا ما بدأه مع المقاومة اللبنانية وكان مقررًا تعميمه على جميع اللبنانيين قبل أن تطيح الكارثة كل شيء».
ومن أقوال الشيخ بشير التي ما زالت على كل شفة وفي كل وجدان اليوم: «يكفي لبنان خراباً ودماراً، شهداء ومعاقين، يكفيه أرامل وأيتام، مشردين ومهجرين، نريد لأولادنا غدًا أفضل». فهل بات هذا الغد قريبًا؟
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]