وصول العماد ميشال عون إلى الرئاسة الأولى في العام 2016 وضعَ الجمهورية اللبنانية أمام مسارين: مسار الإنقاذ نحو استعادة الدولة مقوّماتها مع شخص يريد ان يُنهي حياته السياسية بإنجاز وطني استثنائي، ومسار إسقاط “جمهورية الطائف” التي تسبّب أو سَرّع بولادتها من خلال الحروب التي خاضها وشنّها، بدءاً من “حرب التحرير” وصولاً إلى “حرب الإلغاء”.
ما حصل في العام 1988 على أثر تسليم الرئيس أمين الجميّل العماد عون رئاسة الحكومة العسكرية الانتقالية، يحصل نفسه اليوم، فلو اختار الجميّل شخصية أخرى لترؤس الحكومة الانتقالية لكان اختلفَ مسار الأمور وتبدّل، ولكنّ اختيار عون أدّى إلى تسريع نهاية الجمهورية الأولى وولادة “اتفاق الطائف” على عجل في محاولةٍ لإنهاء “حرب التحرير” التي أنتجَت “وثيقة الوفاق الوطني”، وسرعان ما عالجها بحربٍ أخرى داخل المنطقة الشرقية، فأطاحَت كل التوازن الذي كان يمكن إرساؤه في الاتفاق الجديد، الأمر الذي أدخلَ لبنان في العصر السوري.
ولم يكن من السهل التخَلُّص من الهيمنة السورية لولا حصول تطورات تندرج في باب الأعاجيب أكثر منها في باب الأحداث العادية، ففي سنة واحدة (2000) خرجت إسرائيل من لبنان وتوفي حافظ الأسد. والخروج الإسرائيلي نقل الاشتباك فوراً مع الوجود السوري، الذي لم يكن من السهل إدارة مواجهة متكافئة معه لو لم تنتقِل السلطة في سوريا من الأب إلى الابن، ولكن التطورات لم تقف عند هذا الحد، إنما حصل ما لم يكن في الحسبان مع زلزال 11 أيلول 2001 وارتداداته عالمياً، وتحديداً في الشرق الأوسط، مع إسقاط نظامَي “طالبان” وصدام حسين وصدور القرار 1559 وما أعقَبه من اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصولاً إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان.
كان يمكن للجيش السوري ان يبقى في لبنان لنصف قرن او قرن أو أكثر، ولكنّ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، الذي حصل لاعتبارات وحسابات إسرائيلية داخلية، أدى إلى إعادة خلط الأوراق اللبنانية، كما انّ أيلول الأسود في أميركا أدى إلى إعادة خلط الأوراق في المنطقة، وبالتالي من كان يقول انّ إسرائيل ستنسحب وانّ زلزال أيلول سيقع؟
ومع هذه التطورات انتقل لبنان من الهيمنة السورية إلى الخلاف بين مشروعين تجسّدا في 8 و 14 آذار، وقد أدى هذا الخلاف إلى ترنُّح الوطن، فلا “العبور إلى الدولة” تحقّق، ولا “حزب الله” تمكّنَ من ان يُكمل الدور نفسه للنظام السوري لاعتبارات خارجية وداخلية كثيرة، فغرق لبنان في وحول النزاعات والانقسامات الداخلية التي ترافقت مع انسحاب خارجي تدريجي منه، وصولاً إلى لحظة انتخاب عون رئيساً للجمهورية التي وضعت البلد أمام مفترق طرق: فرملة الانهيار وإعادة الاعتبار للجمهورية عن طريق التخفيف من تأثير “حزب الله” ودوره ونفوذه إلى الحد الأدنى والتركيز على بناء الدولة وإدارتها في انتظار التسوية في المنطقة، او تسريع وتيرة الانهيار من خلال إعطاء الأولوية للخلافة الرئاسية وإهمال كل الجوانب الوطنية. ولكن سرعان ما سلكَ لبنان المسار الثاني، فتكرر في 2016 سيناريو 1988 نفسه مع اختلاف الوسائل التي كانت عسكرية في ثمانينات القرن الماضي، وتحولت مالية في المرحلة الثانية من تَسلّمه السلطة، ولكن في المرحلتين العنوان نفسه كان السبب في الانهيار وهو السعي المستميت إلى رئاسة الجمهورية.
فمَن كان يتصوّر مثلاً انّ عون، الذي خرج من القصر الجمهوري في 13 تشرين 1990 سيعود إليه في 31 تشرين 2016؟ ومن كان يتصور انّ وصول عون في المرة الأولى أطاح الجمهورية الأولى، ووصوله في المرة الثانية أطاح او يكاد يطيح الجمهورية الثانية التي لم تعد قيامتها ممكنة في مطلق الحالات؟ من الصعب تفسير هذا اللغز خارج إطار القضاء والقدر، او بكل بساطة بسبب سوء الممارسة السياسية في المرتين، حيث انّ تجَنُّب السقوط في أواخر الثمانينات كان متاحاً، كما تجنبه أخيراً كان ممكنا أيضاً.
ومَن يراقب كيف تُفتح الملفات القضائية وتقفل والعفن الذي يخرج منها، ومن يراقب الدرك الذي وصلت إليه الدولة على شتى المستويات المالية والسياسية والإدارية والشعبية، يخرج بانطباع واحد وأكيد وهو ان الترميم لم يعد ممكناً، وان لا قيامة للجمهورية الحالية التي حوّلت لبنان دولة فاشلة من رأسها إلى أخمص قدميها، وانّ الحل الوحيد يكمن في قيام جمهورية جديدة على أنقاض الجمهورية الحالية التي سيختصرها التاريخ يوماً بجمهورية الفشل.
ولا حاجة للتذكير أنّ عون سيخرج من القصر الجمهوري خلافاً لِما دَخله، أي في أسوأ وضعٍ وطني ومالي وسياسي وشعبي، والطريق الوحيد الذي يمكنه من خلاله تعويض خسائره الهائلة الى درجة انه كان من الأفضل له لو لم ينتخب رئيساً للجمهورية، يكمن في إسقاطه “جمهورية التسعين” (1990) التي نشأت بسببه، وذلك تماماً كما أسقط الجمهورية الأولى، لأنّ لبنان في حاجة إلى إعادة تأسيس لا ترميم وترقيع، فبعد ان وصلت الأوضاع إلى القعر وما دون، فإنّ ما يحتاج إليه هذا الوطن هو إعادة تكوين.
فالمطلوب من عون ان يُكمل “معروفَه” ويقود الجمهورية الحالية بثبات إلى النهاية المحتومة، وبهذه الطريقة فقط سيُنصفه التاريخ الذي سيكون حكمه قاسياً جداً عليه، إلّا في حال نجح في إسقاط “جمهورية التسعين” تمهيداً لإعادة تركيب جمهورية جديدة على أسس جديدة، ويُخطئ كلّ من يعتبر انّ التغيير ممكناً بانتخابات او غيره، وايّ فرصة تمنح للجمهورية الحالية هي جريمة وخطيئة في حق كل مواطن لبناني يريد دولة تحاكي تطلعاته وطموحاته وأفكاره ومستقبله في لبنان.
ولا علاقة لإسقاط “جمهورية التسعين” بالصلاحيات واستعادتها لهذا الفريق او تعزيزها لذاك، لأنّ الصلاحيات في المجتمعات التعددية تفصيل، إنما كل العلاقة تكمن في الذهنية التي بُنيَت عليها هذه الجمهورية في زمن الوصاية السورية، هذه الذهنية التي لا يمكن ان تبني دولة، ويستحيل ان يتعافى لبنان وطنياً ومالياً وميثاقياً وسيادياً وسياسياً قبل إنهاء هذه الجمهورية، فهل سيُقدم عون على إنقاذ نفسه واللبنانيين بتخليصهم من “جمهورية التسعين”؟ أم أن القدر سينفِّذ المهمة منفرداً من دون تدخُّل من أحد، ولكن يبقى على رئيس الجمهورية ان يدرك أنّ فرصته الوحيدة لِيُنصفه التاريخ وينقذ وضعيته الشعبية المُتهالكة تكمن في الإطاحة نهائياً بهذه الجمهورية، وخلاف ذلك سيكون الرئيس الذي انهار لبنان على يده مرتين، فيما فرصته النادرة تكمن في عدم ترك القصر إلى الفراغ، إنما أن يسعى الى دفن “جمهورية التسعين” وولادة جمهورية جديدة، ويخطئ كثيراً إذا ظَنّ لوهلةٍ انّ في إمكانه إنقاذ “جمهورية التسعين”، لأنّ “ما بُني على باطل فهو باطل”.