الأباتي بولس نعمان: بداية المقاومة اللبنانية – 1

حجم الخط

“المسيرة” – العدد 1713

الأباتي بولس نعمان – من كتاب مذكراته

مع تكرار مشاهد الصدامات بين الجيش اللبناني والفلسطينيين، بدأ الإنزعاج مما كان يجري يتحوّل الى قلق مصيري على مستقبل لبنان، خصوصًا بعدما بتنا نلمس تباعًا تعاطف المسلمين اللبنانيين مع التنظيمات المسلحة الفلسطينية، واستياءهم من محاولة قيام الجيش بضبطها. وعندما انفجر الوضع السياسي بعد الإشتباكات العنيفة بين الطرفين في السادس عشر والثالث والعشرين من نيسان 1969، والتي أسفرت عن أحد عشر قتيلاً وأكثر من ثمانين جريحًا، شعرنا بأن الأسوأ قد حلّ، خصوصًا بعدما تقدم الرئيس رشيد كرامي باستقالته، وأعاد الرئيس شارل حلو تكليفه، ولكن من غير أن يشكل حكومة جديدة، رابطاً ذلك بتحقيق توافق على وضع المقاومة الفلسطينية وحرية العمل الفدائي. فيما سارت التظاهرات المؤيدة للمقاومة الفلسطينية في دمشق التي صعّدت اللهجة ضد «الزمرة الحاكمة في بيروت»، وقد كشفت تحقيقات الأجهزة الأمنية اللبنانية في حينه عن ضلوع سوريا في هذه الأحداث. وقد فكر الرئيس شارل حلو باللجوء الى جامعة الدول العربية للتقدم بشكوى ضدها، لكنه أحجم عن ذلك لأنه تلقى، بحسب الصحف آنذاك، نصائح عربية صديقة تحذره من قدرة سوريا على الإضرار بلبنان.

 

نشأت بذلك الأزمة الوزارية التي استمرت حتى توقيع اتفاق القاهرة في الثالث من تشرين الثاني من العام نفسه، والتي جعلت اللبنانيين، وبخاصة المسيحيين، يشعرون بأن بلادهم باتت على كف عفريت: رئيس الجمهورية مكبّل غير قادر على المبادرة في اتجاه تشكيل حكومة وإعادة الأمور الى نصابها، ورئيس حكومة مكلّف «معتكف» يعارض تفرّد رئيس الجمهورية في معالجة قضية الفلسطينيين، ويطالب بتعزيز صلاحياته الدستورية داخل السلطة التنفيذية، رأي عام إسلامي لبناني يناصر حرية العمل الفدائي انطلاقاً من لبنان، تدخل سوري مباشر في الشؤون الداخلية باتجاه مساعدة الفلسطينيين والتهويل على السلطة المركزية لمنعها من ضبط الوضع ميدانيًا، انتشار فلسطيني خارج المخيمات وأنباء عن توزيع أسلحة عليهم، ووقوع أكثر من اشتباك بينهم وبين الجيش اللبناني، وقصف إسرائيلي لمواقع فلسطينية.

لم يكن اللبنانيون قد تعوّدوا بعد على انسداد الأفق أمامهم الى هذا الحد، فبدا لهم المشهد السياسي والأمني، في صيف العام 1969، أبو كاليبتيا، كارثيًا. ساد نوع من الاضطراب في الأوساط المسيحية، خصوصًا بعدما دعا الرئيس كميل شمعون اللبنانيين في الحادي والعشرين من أيلول الى التسلح للدفاع عن وطنهم. فأخذ الناس يستحضرون ما لديهم من أسلحة قديمة حصلوا عليها في أحداث سنة 1958، ومعظمها من مخلفات الحرب العالمية الثانية وغير صالح للإستعمال…

في بداية تلك الأزمة الوطنية الكبيرة، اتصل بي الأباتي بطرس قزي من مقر الرئاسة العامة في شارع لبنان، وقال لي إنه أوفد إلي الى جامعة الروح القدس في الكسليك مجموعة شبان مثقفين، متحمسين وقلقين على مستقبل البلاد، طالبًا مني أن أستقبلهم وأستمع إليهم وأبحث معهم ما يمكن القيام به من أجل استنهاض الشبيبة اللبنانية، لمواجهة الأخطار المحدقة بلبنان. وأخبرني الأباتي قزي أنهم كانوا قد قصدوا البطريركية، وأن البطريرك بولس المعوشي هو من أرسل إليه هذه المجموعة بعدما قصدته بدافع القلق الذي ولّدته المستجدات السياسية والأمنية في حينه.

إستقبلت هذه المجموعة من الشباب، وكانوا في مقتبل العمر. أذكر من بينهم: وليد الخازن، وفؤاد السعد، ونبيل الصحناوي، وكامل عازار، وراوول فرجان ونعمان مراد، وقد استوقفني في حينه أمران فيهم: الحماسة المفعمة التي كانت تعتمر صدورهم، وتصميمهم الكبير واستعدادهم للعمل في سبيل لبنان. وأخذنا نعقد الاجتماعات وننظم الخلوات لتشخيص الأزمة التي نجتازها وسبل مواجهة التحديات، وبخاصة التهديد الفلسطيني للكيان اللبناني، ولعل أبرز هذه الخلوات تلك التي عقدناها في دير مار أنطونيوس في سير فوق بلدة رشميا، في صيف 1969. وقد استمرت ثلاثة أيام، وحضرها إضافة الى من سبق ذكرهم، كميل زيادة، وأنطوان شمعون، فيما شارك النائب العام الأب شربل قسيس في الجزء الأخير منها، وأعرب عن سروره وتشجيعه الكبير للمجتمعين على المضي في خطوات عملية وعلى التنبه الى الأخطار التي تلوح في الأفق، وضرورة مواجهتها بالوسائل المتاحة، حتى لو لم يرق بعضها للبنانيين المناصرين للقضية الفلسطينية، إذا ما دعت الحاجة الى ذلك.

بنتيجة هذه الاجتماعات والخلوات التي امتدت على مدى أشهر الصيف، وشملت مجموعات متعددة من مختلف المناطق اللبنانية والقطاعات المهنية، تبيّن لنا أنه لا بد من الشروع في عملية تحضير الشبيبة اللبنانية على مختلف المستويات، لمواجهة الخطر الفلسطيني الجاثم على أرضنا، الذي يضع مصير الكيان اللبناني على المحك، وقررنا الشروع في عملية إعداد ثقافية للشباب والطلاب الجامعيين لتنشئتهم على الفكرة اللبنانية القائمة على تقديم الولاء للبنان على أي ولاء آخر، أكان طائفيًا أو قوميًا، وبدأنا تباعًا بتأسيس ما أطلقنا عليه في ما بعد  اسم «لجنة البحوث اللبنانية» التي أصدرت عشرات المطبوعات من كتب وكتيّبات ومقالات، دارت بمعظمها حول الدفاع عن القضية اللبنانية، وشكلت في الواقع نواة أو منطلقاً لكل الحركات السياسية الفكرية التي ولدت في المجتمع المسيحي، خلال الحرب التي دارت رحاها على أرض لبنان بين العامين 1975 و 1990.

 

الدفاع عن الوجود

غير أننا وجدنا أن ثمة واجبًا آخر، أكثر إلحاحًا، علينا الاضطلاع به، وهو احتضان توجه عام لدى الشبيبة اللبنانية، الحزبية وغير الحزبية، في تلك الفترة للتدرب على الدفاع عن نفسها، إذ كانت قلقة على مستقبلها ولا تعرف ما إذا كانت ستضطر يومًا الى القتال في حال عطّل القرار السياسي مرة جديدة الجيش.

كنا رهبانًا متمسكين بنذورنا وبمتطلبات الحياة الديرية، وبتعاليم السيد المسيح القائمة على محبة الله والقريب وبذل الذات في سبيل الضعفاء والمهمشين، وهي صفات يفترض أن يتحلى بها كل الرهبان في العالم، لكننا فوق ذلك، كنا رهباناً لبنانيين موارنة نشعر بأنه تقع على عاتقنا مسؤولية إضافية، إذ كنا تربينا في رهبانيتنا التي أخذت إسمًا لها «الرهبانية اللبنانية المارونية» على أخبار الرهبان العتاق الذين بنوا الأديرة على قمم الجبال وقعر الأودية، وفتتوا الصخور وجلّلوا المنحدرات، ورافقوا تجمّع الموارنة من سوريا الشمالية الى جبال لبنان، وانتشروا معهم فيما بعد من شمال لبنان الى جنوبه. وهكذا تبدو خريطة مواقع أديارهم كأنها ترسم خريطة لبنان: من دير السيدة في بلدة منجز في عكار، تمامًا على الحدود الشمالية، الى دير سيدة البشارة في رميش على الحدود الجنوبية، ومن بعلبك الى البحر الأبيض المتوسط. وقد قال فيهم الأديب مارون عبود:

هم الذين صيّروا أرض لبنان جنّة غنّاء، بعد أن كانت صخورًا صمّاء ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليها الطير… وهم الذين ساروا في طليعة الشعب مرددين الآية الكريمة «بعرق جبينك تأكل خبزك».

فيما قال الأب اليسوعي البلجيكي هنري لامنس: «إن المستعمرات الرهبانية اتخذت لبنان منزلاً لأعمالها النسكية، وقد اختارت أقفر ما وجدت من الأودية حتى أضحت هذه المناسك، بعد زمن، مراكز لضياع جديدة على إمتداد لبنان».

كنا مفتونين بأخبار شخصيات رهبانية مثل الأب العام اغناطيوس بليبل الذي لعب دورًا مهمًا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، على مستوى انتشار الرهبانية، بنتيجة العلاقة التي ربطته بحاكم جبل لبنان الأمير بشير الثاني، ومثل الأبوين العامين جناديوس سركيس واغناطيوس داغر اللذين لعبا أدوارًا مهمة إبان الحرب العالمية الأولى. ففيما كان الأول، وهو نسيب الرئيس الراحل الياس سركيس، داعية تحدث وعلم، ليس فقط على مستوى الرهبانية بل أيضا على مستوى الشعب، فاهتم بالمساعدة الاجتماعية، رهن الثاني أراضي الرهبانية لفرنسا من أجل تأمين الطعام للناس الذين كانوا مهددين بالموت جوعًا، وكذلك لعب الأباتي باسيل غانم دورًا في الحرب العالمية الثانية، الى جانب رئيس الجمهورية آنذاك ألفرد نقاش، في عملية إيواء النازحين عن بيروت بعدما تعرضت لقصف الحلفاء.

وقد قام زميلنا الأب يوسف مونس في مطلع الستينات بتجسيد حادثة تصدي رهبان دير مار أنطونيوس ـ قزحيا للعسكر العثماني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتخليدها في مسرحية حملت عنوان «الزنانير الجلدية»، وعكست العنفوان الماروني لدى رهبانيتنا، وأثارت حماسة لدى جيلنا لكي نكون على مستوى الأجيال التي سبقتنا. كما قام بتأليف مسرحية «حبة قمح» التي تروي حقبة الحرب العالمية الأولى والمجاعة التي حصلت خلالها وتصدي الرهبانية لها عبر رهن أرزاقها من أجل إطعام الجياع.

لم يكن إذاً، أمرًا مستغربًا أو عابرًا أن نتفاعل كرهبان مع القلق على المصير الذي كان يعتري شعبنا في تلك المرحلة، بل كنا نعتبر ذلك من صلب رسالتنا الرهبانية، خصوصًا بعدما طالت تجاوزات الفلسطينيين أحد إخوتنا الرهبان الأب مرتينوس سابا في دير مار يوسف ـ البرج في الضبية. إذ مساء يوم السبت في الحادي عشر من تشرين الأول 1969، اعترض حاجز أقامه مسلحون فلسطينيون سيارة الأب سابا على الطريق المؤدية من مخيم اللاجئين في الضبية الى الدير، وحصل تلاسن، لأن الأخير رفض أن تخضع سيارته للتفتيش، فاستأنا كثيرًا من هذا التصرف حيال أحد إخوتنا الذي كان يقدم الخدمات الروحية للاجئين الفلسطينيين في مخيم الضبية، القائم أصلا على أرض تملكه رهبانيتنا، وقد استضافتهم ووفرت لهم فيه، مع البعثة البابوية، كل ما كان في وسعها تقديمه لهم.

غير أني لا أستطيع القول إننا قررنا المواجهة كرهبانية أو أننا نظمنا حركة ما داخلها، أو أن قرارا ما قد اتخذ على أي مستوى فيها للتصرف وأخذ المبادرات في هذا الاتجاه أو ذاك. حتى أني لا أذكر أننا عقدنا اجتماعًا رهبانيًا واحدًا مخصصًا للبحث في المستجدات السياسية والوطنية، وإن جرى التطرق إليها في معظم الاجتماعات، بنتيجة تأثيراتها علينا كما على جميع اللبنانيين. في الواقع، تحركنا من تلقاء ذاتنا، وبغير ضجيج، في سبيل اتجاه واحد، لكن من خلال طرق متعددة:

-الأباتي بطرس قزي، ذلك الرجل المحب والمتواضع والمتفاني في سبيل الرهبانية والشعب، تحرك على مستوى المؤتمر الدائم للرهبانيات الكاثوليكية، وشكل لنا مظلة معنوية مهمة، مكنتنا من أن نعمل ما يمليه علينا ضميرنا ومفهومنا لتراثنا الماروني الرهباني.

-الأب مرتينوس سابا، الذي كنت ولا أزال اعتبره رجل المهمات الصعبة، رافق الشبيبة الكسراونية، بخاصة تلك التي تأطرت لاحقاً ضمن «الحركة الكسروانية»، في أولى خطواتها نحو التدرب على كيفية الدفاع عن النفس واستعمال السلاح إذا لزم الأمر، وعلى غرار والده حنا سابا، «الغسطاوي» الصلب، شكل عنصر دعم مهمًا للشبيبة عبر مساندتها لوجستيًا، في بعض الأحيان، أيام التدريب التي غالبًا ما شارك فيها. كما أنه لم يهمل أية إمكانية لمساعدتهم على الحصول على بعض البنادق والذخائر النادرة جدًا في تلك الأيام، من خلال بعض معارفه من الأرمن والفلسطينيين واللبنانيين.

-الآباء: شربل قسيس، اسطفان صقر، توما مهنا، يوحنا تابت، عمانوئيل خوري، يوسف مونس وأنا، تركز عملنا على الشق الفكري وعلى إعداد الدراسات وإعطاء المحاضرات وتعميم الأفكار التي كنا نبحثها مع المفكرين والمثقفين، حيثما درسنا واجتمعنا وجلسنا وتكلمنا. ولكنني كثيرًا ما اهتممت أيضًا بالشق اللوجيستي. لم يكن توزيع الأدوار هذا بيننا إلا عفويًا، أو بالأحرى إلا منسجمًا مع موقع كل منا ومزاجه والمعطيات المتوافرة لديه. وبحكم علاقة الصداقة المتينة التي ربطتني بإخوتي الرهبان الذين أتيت على ذكرهم ـ وهناك إخوة آخرون تعاونوا معي وقدموا الكثير للقضية الوطنية التي آمنا بها ـ تيسر لي أن أواكب ما كانوا يقومون به ويواجهونه من تحديات وصعوبات، وأن أطلع على خلفيات الأمور وبواطنها.

(يتبع)

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل