إن كان للبنان أن يسجل يوماً مجيداً في تاريخه السياسي الحديث فإن 14 آذار هو ذلك اليوم الذي توحّدت فيه أصوات اللبنانيين على صرخة واحدة تطالب بالحرية والسيادة والاستقلال، صرخة سكنت الحناجر ولا يزال صداها يتردد مع كل اعتداء على الاستقلال وهيمنة على السيادة وإن تغيرت الأوجه وتفرّقت الساحات. في ذاك اليوم أحس اللبنانيون بفرحة الانتماء الى وطن يشبه أحلامهم وشعر لبنان بعظمة رسالته، رسالة الحياة ووحدة الشعب على الرغم من أهوال الماضي وتناقضات الأمس واليوم والغد. بعد 16 عاماً ماذا يعني 14 آذار لمن عايشوه وحبكوا خيوطه؟
14 آذار لم يكن وهماً أو حلماً ضائعاً وإن تبدّى للبعض انه صار مجرد ذكرى احتفالية اندثرت ركائزها وتلاشت منجزاتها، هو الزخم الذي لا ينفك يزود شعب لبنان بالقوة كلما دعت الحاجة وما ثورة 17 تشرين الا الشاهد على ذلك وخطاب البطريرك الراعي التأكيد له. في خفايا ذلك اليوم نجول ونتعرف من صنّاعه ومفكريه كيف اختمر وانطلق وصار واقعاً على الأرض.
وحدة حققت منجزات
من لقاء قرنة شهوان رفع الصوت والسقف وساهم في تحضير الأرضية الخصبة التي انبتت انتفاضة 14 آذار. بالنسبة لفارس سعيد جاء هذا اليوم نتيجة مسار طويل لإعادة إحياء الوحدة بين اللبنانيين، التي يستحيل على لبنان العيش من دونها والإنجازات الكبرى التي تحققت في لبنان وأهمها خروج الجيش السوري إنما حصلت بفعل وحدة اللبنانيين. لكن منذ 2005 جرى العمل على نسف هذه الوحدة التي تجلت في 14 آذار ونجح “حزب الله” برأي سعيد في دفع كل فئة الى الإنزواء داخل مربعها وصارت أولوياتها الطائفية تختلف عن أولويات الوطن. المسيحيون انكفأوا الى داخل طائفتهم وباتوا يطالبون بالرئيس المسيحي القوي وأرادوا استنساخ الثنائية الشيعية ضاربين بأسس 14 آذار. والسنة أرادوا رئيس حكومة يكون الأقوى في طائفته، والشيعة اختُزلوا بثنائية محكومة بالسلاح ولم يعد لدى اللبنانيين القدرة على توحيد الرؤية لجبه المشكل الأساسي وهو رفع الاحتلال الإيراني عن لبنان.
نسأل سعيد إن كان ينظر بنوستالجيا الى تلك المرحلة فيجيب: ليست نوستالجيا بقدر ما هي قراءة واقعية للأحداث، إذ ان ما استطاعت 14 آذار تحقيقه يقف اللبنانيون اليوم عاجزين عنه لتشرذمهم وانكفائهم ضمن طوائفهم لكن الأمل ليس مفقوداً لأن شعب لبنان محكوم بالوحدة والعيش المشترك ومسارها عمل يومي تراكمي مستمر لا بدّ أن يوصل في مرحلة ما الى توحيد الرؤية للتخلص من الهيمنة الإيرانية. هيمنة سوريا لم تكن أقل ولا أرحم واستطاع اللبنانيون ان يحققوا باتحادهم مهمة إخراج الجيش السوري. ما يجب أن تتوحد رؤيتهم وجهودهم حوله هو السعي الى التخلص من اصل المشكلة وهي الهيمنة الخارجية وليس محاربة الفساد وحدها لكن “حزب الله” يمنع إعادة تكوين هذه الوحدة في حين على اللبنانيين ان يدركوا ان أولوية الطوائف لن توصلهم الى مكان ولن تجهّز لهم مستشفى او ترد أموالهم المفقودة. 14 آذار هي الوحدة التي غُيّبت عن لبنان ونحن اليوم بأمس الحاجة إليها.
سمير فرنجية صانع 14 آذار
لم يشأ النائب السابق سعيد أن يحكي عن دوره في تلك المرحلة، فهمّه اليوم أكبر وسيبقى الصوت الصارخ في اتجاه الوحدة حتى ولو حاول البعض صم آذانهم وإلصاق ادعاءات أخرى به. نسأله عن رفيق الدرب سمير فرنجية ودوره في انتفاضة آذار. فيختصر المرحلة بكلمتين: “هو صنعها” ولكن حتى لا يزعج بعض الرفاق بإعطاء فرنجية حصريتها المطلقة على الرغم من استحقاقه لها يقول: لقد كان من أهم مهندسيها وروحه تبقى حتى اليوم مرفرفة فوق مشروعها الوحدوي ومطالبها بالتخلص من الهيمنة.
تسويات أجهضت الحركة
منذ 2004 اتضح لكل الناشطين أن الطريق الوحيد لتحرير لبنان واستعادة عافيته الوطنية هو في رفع الصوت عالياً وكان إيلي خوري من هؤلاء الصارخين المنادين بالاستقلال واحترام دستور لبنان اساس السيادة. وقتها كان الجو ضاغطاً والناس لم يعودوا قادرين على احتمال وضع البلد، شركات ومؤسسات تعاني، يقول خوري، وكان الكل يفكر بحل الى ان حدث اغتيال الرئيس رفيق الحريري. انفجار أطلق الشرارة ولم يكن من بعده مجال للسكوت او الانكفاء. وفي نهار تاريخي نزل الناس في تظاهرة هي الأكبر في تاريخ لبنان. قاموا بما عليهم، لم ينتظروا أحزابهم، عرفوا ما يريدونه، أرادوا وطناً. أدهشوا العالم بأجمعه بتصرفاتهم الحضارية ومطالبهم. حينها لم يكن كما اليوم لكل واحد نظريته الخاصة وما كان هناك فلسفة ولا تنافس، كان عند الناشطين اختلافات بالرأي بلا شك تحلّ بالحوار لأن الكل كان واعياً للمطالب والأهم كان عند الجميع الأخلاقيات ذاتها.
مدهش أمر 14 آذار التي لم يكن فيها قيادة سياسية تقليدية تحاول استقطاب كل الحركة نحوها. كنا نحن القلب النابض يقول إيلي خوري، نلتقي في مكتبي، سمير فرنجية، سمير قصير وأنا. نفكر نحضّر وكنا نتجادل إن كنا نطلق على الحركة اسم ثورة أو انتفاضة وكان رأي سمير قصير أنها ليست ثورة لأن هدف السياسيين المشاركين فيها أن يحلّوا محل الآخرين وفي النهاية تبين أنه على حق. أنا كنت مسؤولاً عن الإستراتيجيا والتواصل و أيُّ رسالة ننقلها للناس وكيف نضع الأهداف. ومعاً كنا نحن الثلاثة حين وضعنا شعار 05 indépendance
من يقول اليوم ان 14 آذار انتهت يخلط بين الناس والسياسيين. الناس عبروا عن رأيهم ثم عادوا الى بيوتهم وأشغالهم على أمل أن يهتم السياسيون بمتابعة ما أنجز، لكن لسوء الحظ ذهب السياسيون الى الأعمال التي يجيدونها اي الى التسويات وبحجة التسوية قدموا رؤوسهم على طبق من فضة وما زلنا حتى اليوم نتفادى العلاجات الأساسية فنداوي المشاكل الجانبية من دون ان نتطرق الى الأصل اي الهيمنة الإيرانية. ما لم نحققه في 2005 هو الذي أوصلنا الى هنا وستستمر المشكلة ذاتها إن لم نعالجها. 14 آذار لم تنته لأن شعب لبنان ما زال يتحرك حين يكون هناك إشعار بالخطر وفي ثورة 17 تشرين رأيت ثورة الأرز بنسخة ثانية the revenge وحتى حين تعثرت أتى خطاب بكركي ليصحح المسار.
عبد الملك: وضوح الهدف والمسار
لم تكن 14 آذار وليدة ساعتها برأي المفكر سمير عبد الملك فقد سبقتها ببضع سنين مرحلة لقاء قرنة شهوان الذي نشأ إثر نداء مجلس الأساقفة الشهير في أيلول سنة 2000. اللقاء اتخذ شعار”وحدتنا خلاصنا” وعمل على توسيع مساحات اللقاء بين اللبنانيين وترك النقاط الخلافية وكان على رأسه إدارة حكيمة كُلف بها المطران يوسف بشارة الذي استطاع بحكمته وحزمه وصلابته ان يدير لقاء متنوعاً بشكل ممتاز… وكان حينها يتم تحضير الأجواء باللقاءات والحوارات والبيانات غير المستفزة التي ترتكز على وحدة المصير والمستقبل والهموم. هذا الجو هو الذي خلق تراكمات واسس لـ14 آذار لذا بعد اغتيال الرئيس الحريري سار اللبنانيون نحو التلاقي لا المتاريس. كلهم التقوا في ساحة الشهداء بعفوية خارج إطار الأحزاب المصادرة او المهمشة وكلّ عبّر عن استيائه بطريقته الخاصة العفوية. صورة اذهلت العالم ولم تحتج الى مخرج ليحرّرها.
بعد 14 شباط يقول عبد الملك بدأت الحركة تنمو بشكل تصاعدي وتولّد ابتكارات يومية يخرج بها الشباب الذين شكلوا الدينامو لها ونظموا أنفسهم بأنفسهم: يلتقون مساء في الخيم يتعارفون يتحاورون يقيّمون ما حدث خلال اليوم يصححون ما يجب تصحيحه ويخططون لليوم التالي. المدهش في الأمر أن تلك الخيم كانت في وسط بيروت حين كان هذا الوسط لا يزال في قمة توهجه فلم تسجل حادثة واحدة، ما كُسر زجاج او سُرق غرض. لم يُسمح بدخول مخربين الى تلك الحركة الوطنية. توزع الشباب المهمات واهتم قسم منهم بالأمور اللوجستية التي كانت تحضر حسب الإمكانات المالية مع مساعدة قوية من الدياسبورا اللبنانية التي كانت الرئة الثانية للحراك بإمكانياتها وتحركاتها في مراكز القرار وقسم بتنظيم النشاطات. جبران التويني وضع كل طاقات صحيفة النهار وإمكانياتها في خدمة الانتفاضة وكان سمير قصير دينامو الحركة. كنا نلتقي مع الشباب مساء في الجريدة ليتم تنسيق المهام وتوزيعها.
نجاح حركة 14 آذار برأي عبد الملك احتاج الى عناصر ثلاث: خطة واضحة المعالم ومعروفة الهدف، نظام يدير العمليات بمثابرة وخطوات صغيرة تتراكم لتتجه نحو الهدف. حينها كان المسار واضحاً الأمر الذي ينقص ثورة 17 تشرين. لكن الحق يقال ان الهدف يومها وهو خروج الجيش السوري كان هدفاً مشروعاً قادراً على توحيد اللبنانيين. فيما الأمر اليوم مختلف فالهدف ملتبس يطرح إشكالية عند الحراك. المطالبة بانهاء هيمنة السلاح يقابلها قول مشروع بأنه سلاح حرر لبنان وحرر فئة كبيرة من أبنائه من ظلم كانوا يعانونه.
فكرة 14 آذار لم تفشل لكن من عبّر عن هذه الفكرة من سياسيين لم يكونوا على قدر المسؤولية لا بل خانوا المشروع الذي إئتمنهم عليه الناس. وليس بالصدفة قتل سمير وجبران وبيار ومحمد شطح فهؤلاء كان بإمكانهم ان يأخذوا على عاتقهم استنهاض الناس وتكملة المسيرة. قتلوهم وقطعوا ظهر الانتفاضة والباقون راحوا الى التسويات.
زياد ماجد أحد مفكري 14 آذار الموجود حالياً في فرنسا لم يشأ العودة الى تلك المرحلة، اعتذر وقال انه كتب في 2015 مقالاً أكد فيه أنها المرة الأخيرة التي يحكي فيها عن 2005 وماذا مثلت بالنسبة اليه والى لبنان. وصار هناك ضرورة للجيل الجديد أن يتحرر من أسر تلك اللحظة التي لم يعشها ليخلق لحظات جديدة له ولمستقبله.
سبيرو: الأرضية الطلّابية كانت حاضرة
رئيس مصلحة طلاب القوات اللبنانية حينها دانيال سبيرو كان مثل سائر القواتيين يعيشون قمعاً ويخوضون المواجهة مع سلطة الاحتلال بمقاومة سياسية صعبة جداً وكان الشارع المسيحي يحمل لواء المطالب السيادية ورفض الهيمنة السورية. عند اغتيال الرئيس الحريري انضم الشارع السني الى المطالبة بعد ان سبقه الشارع الدرزي في لقاء البريستول وجزء من الشارع الشيعي. الطلاب هم من توحدوا أولاً في نضال سياسي في الجامعات وكانوا أول من تأثر بالقمع المفرط الذي توّج باغتيال الرئيس الحريري. الأرضية الطلابية كانت جاهزة من خلال لقاءات سرية وبيانات أدت الى تعبئة سياسية لدى الطلاب على مختلف توجهاتهم وشهدت تلك المرحلة يقول سبيرو لقاءات مع اليسار الديموقراطي والحزب الاشتراكي. بعد 14 شباط أقيم مخيم الحرية في ساحة الشهداء وكان نقطة تجمع يومي لمعظم اللبنانيين حتى جاءت مناسبة 8 آذار التي أدت للعمل لتحضير 14 آذار.
بالتفاصيل يروي سبيرو أنه ليلة استشهاد الرئيس الحريري دعي مساء الى اجتماع لكل المنظمات الطلابية في مكتب الحزب الاشتراكي حضره ممثلون عن أمل و”حزب الله” و الحزب القومي الى جانب الأحزاب الأخرى أراد فيه الحاضرون الخروج ببيان يحمّل سوريا مسؤولية الاغتيال، لكنه جوبه برفض كامل من جهة الأحزاب الثلاث وجرى نقاش حاد أصررنا فيه على إصدار البيان كما هو او ننسحب ووقف معنا الحزب الاشتراكي وقام شباب تيار المستقبل بمشاورات مع قيادتهم ووافقوا على اصدار بيان يحمل سوريا المسؤولية وقّعه جميع الحاضرين وبينهم التيار الوطني الحر وكان بياناً عالي اللهجة اثّر جداً في الشرائح الطلابية وشكل نقطة الانطلاق لمخيم الحرية. بداية حاول أهل السلطة منع إقامة المخيم وردع الشباب من الوصول إليه فكنا نصل بالمخفي أو بالتحايل ودعونا الى تظاهرة بعد اسبوع من الاغتيال لنتفاجأ بأن عدد المتظاهرين فاق 100000 ملأوا الطريق من ساحة الشهداء الى نقطة الاغتيال.
في مخيم الاستقلال يؤكد المسؤول القواتي، كنا ننظم يومياً لقاءات مع أحزاب ما كنا نتخايل يوماً ان نتحاور معها مثل الجماعة الإسلامية وغيرها وذلك ضمن اجواء من الألفة نتناقش في حلقات حوار حول سنوات الحرب اللبنانية والخلافات العقائدية والبنيوية وكانت حوارات منظمة لا جدلاً فارغاً واتهامات متبادلة اظهرت لنا كم ان اللبنانيين حريصون على وطنهم وكم ان الكل مصمم على تخطي مآسي الحرب. كنا ننسج العلاقات على مستوى الشباب مع مواكبة من قياداتنا السياسية التي تمثلت وقتها بلقاء البريستول.
القوات اللبنانية التي كانت تناضل منذ 11 عاماً كانت قد كسرت حاجز الخوف يقول سبيرو وصار لدينا فكرة كيف يجب ان نتحرك لوجستياً لذا في اول ايام المخيم لم نخف من التهديدات والتخويف وإطلاق الرصاص وحين دعينا الى أول تظاهرة أُطلقت شائعات عن وجود قنبلة وذلك لترويع المتظاهرين، البعض خافوا وتراجعوا لكننا اخذنا القرار وقتها كقوات بأننا سنمشي في التظاهرة وشاركنا الحزب الاشتراكي، كسرنا حاجز الخوف وتبعنا الجميع غير مهتمين بالمخاطر وصولاً الى 14 آذار.
تشرذم الآراء والأخطاء والتسويات أوصلنا الى ما نحن عليه اليوم وبعد 15 سنة يعيش الشعب خيبة لعدم قدرته على تحقيق حلمه ببناء دولة مكتملة السيادة لكن الإرادة موجودة والناس الموجوعون سيكملون نضالهم ويأخذون قدرهم بيدهم مرة جديدة لينفضوا الدولة المهترئة ويتخلصوا من الهيمنة المفروضة عليهم.
عظمة 14 آذار وغلطة الخطوط الحمر
أحد مسؤولي الحزب الاشتراكي حينها خضر غضبان يتذكر تلك المرحلة بتفاصيلها ويروي لـ”نداء الوطن” شيئاً من الأيام المجيدة: بعدما توجهنا الى مستشفى الجامعة الأميركية إثر الانفجار ورأينا حالة الناس هناك عرفنا هول الكارثة وعقدنا الاجتماع الأول لإصدار بيان يحمّل سوريا المسؤولية لم ترض عنه أمل و”حزب الله” والقومي السوري ما دفع بسامي الجميل حينها الى مشادة كلامية مع ممثلي “حزب الله”. بعد الاجتماع انتقلنا الى مكان الانفجار واضأنا الشموع واثناء عودتنا الى ضريح الرئيس الشهيد وكان الحشد قد صار بالآلاف انطلقت هتافات ضد النظام السوري. في اليوم التالي نزل الناس من تلقاء نفسهم وتجمعوا في ساحة الشهداء وليلتها زار وليد جنبلاط الضريح وقررت مجموعة من الشباب البقاء في الساحة. يوم السبت عقد اجتماع في البريستول حملت اليه السيدة نورا جنبلاط كيساً من الفولارات البيضاء والحمراء فتم وضعها كرمز من دون خياطة اللونين.
يوم الأحد يقول غضبان تلوت بنفسي البيان الذي حمّل سوريا المسؤولية من امام الضريح ودعونا الى تظاهرة الاثنين. وصلت مع وائل ابو فاعور الى نقطة انطلاق التظاهرة فوجدت افراداً من المخابرات يضعون الفولارات فصرخت بهم واجبرتهم على خلعها وعند اتصالنا بالجامعات لمعرفة أعداد المشاركين تبين لنا أنها ستنزل عن بكرة أبيها واحتشد المشاركون ووصلوا الى ساحة الشهداء من ثلاثة اتجاهات مختلفة. مساء عقدنا اجتماعاً في مقر اليسار الديموقراطي وكان النقاش يدور فيه بين سمير قصير والياس عطالله والمجتمعين حول الخطوة التالية لكن الناس كانوا قد سبقونا إذ نصبوا الخيم وباتوا ليلتهم فيها وصار التفكير منصباً كيف نؤمن لهم الاحتياجات اللوجستية. المجتمع المدني الذي لا علاقة له بالأحزاب ويذكر من بينه غضبان اسم أسمى اندراوس ساهم بشكل فعال في حركة المخيم وتأمين مستلزماته. وبدأت النشاطات المختلفة وكان أجملها العلم اللبناني الضخم من قطع الكرتون.
خلال تظاهرة في ساحة الشهداء رفعت لأول مرة صور قادة الأجهزة الأمنية وخاف بعض الأشخاص من حملها فطلبنا من حزبيين القيام بذلك. وتوالت التظاهرات رغم تشديد الجيش وتضييق الخناق وصرنا ندعو الناس الى النزول قبلها بيوم وفي مفاوضات مع ميشال سليمان قائد الجيش حينها أخبرنا أن الضباط سيكونون متعاونين ويغضون النظرعن وصول المتظاهرين.
في إحدى الليالي يقول غضبان تجمع بعض مناصري الأطرف الأخرى ومنهم عاصم قانصوه وناصر قنديل وحاولوا الهجوم على المخيم لكن الشباب تصدوا لهم وطردوهم ويومها اتخذ القرار بإنشاء ما يشبه الحراسة الليلية. بعد تظاهرة 8 آذار وبروز شارع مقابل كان لا بد من تحرك كبير وهنا الناس هم من شكل الفرق. صحيح ان القيادات صوبت على النظام السوري لكن الناس زحفوا من كل اصقاع لبنان وكانت البوسطات تقوم بنقلتين او ثلاث من كل قرية وبقيت حشود في ساحات القرى وهذا ما صنع عظمة 14 آذار.
لكن الغلطة الكبرى على مستوى القيادات أنها وضعت خطوطاً حمراً ولم ترضَ بعدها بإسقاط اميل لحود وعلى مستوى الشباب انهم خضعوا لقيادتهم ولم يكملوا الثورة التي لا تعترف بخطوط حمر. وهذا التراخي هو الذي ضيع الهدف وجعلنا نكتفي بانجاز إخراج الجيش السوري من دون ان نقلب الطاولة ونبني دولة الغلطة التي ما زلنا ندفع ثمنها حتى اليوم.