كتبت فيرا بو منصف في “المسيرة” – العدد 1715
لا لا دخيلك ما تبكي. هرعت إليها، لملمتُ تلك القطرات، قبل أن تقع على الأرض وتتكسّر في حطام المجهول. إلتقطتُ الدمعة ومرمغت وجهي بها، غَسلته جيدًا، طهّرته بذاك الألم الفائق العنفوان، ثمَّ بللت إصبعي وتذوَّقتها. طعمها مالح، طعمُها شهيد، طعمُها تراب، طعمُها وطن، طعمُها حلاوة، تلك الحلاوة إياها من عذوبة العذراء. فجأة رأيتُ صورة أم الله تحت الصليب، ويسوع في حضنها وهي تبكيه، ثم وقفت حملته الى القبر المفترض، وبعد ثلاثة أيام وقفت إلى باب بيتها تنتظر خبر القيامة. هذه أعظم أمهَّات الكون أم أعظم شهيد في البشرية. أنتِ أم شهيد. إنكِ لعظيمة يا امرأة. ويوم استشهد إبنكِ صارت الأيامُ يومَكِ العالمي.
ليش إنتِ هيك؟ كيف يمكنكِ أن تكوني أصلاً هكذا؟! كيف استطعتِ أن تحوّلي مرارةَ العلقم إلى رجاءٍ كأنَّه يرتشف عسلاً من رحيق الحياة؟! قد يسأل قارئ لهذه السطور «ماذا تكتبين يا بنت؟ هذه هلوسة. عودي إلى صلبِ الموضوع، إلى عيدها إلى يومها العالمي». عيد من؟ الأم؟ المرأة؟ أي امرأة أعظم بعد من أم الشهيد؟ أي يوم عالمي أكبر من عالميتها؟
أنتِ إمرأتي العالمية ولا أجد عالميةً أكبرَ وأهمَّ منكِ. لو كنتُ من منظومة نساء القرار في العالم، لخصصتُ لكِ يومًا عالميًا واسميته «اليوم العالمي لأم الشهيد»… لكن ماذا كنَّا لنقدِّم لكِ في هذا اليوم لو فعلنا؟ لا شيء، لا شيء على الإطلاق وسنخجل! هل نقدِّم لكِ دموعًا أكثر؟ هدايا؟ تكريمًا؟ هل سيعيد لكِ التكريم إبناً من تحت التراب إرتفع الى ربِّه ليحيا الوطن؟ أتحداكم أن تخيّروا أم شهيد بين أن يعود إبنها الى الحياة في مقابل أن يموت الوطن، ماذا ستختار؟ أمهَّات شهدائنا لن يجبنَ على السؤال، سيرفضنَ، إذ سيعتبرنَ السؤال إهانة «قدَّمنا ولادنا تـ تعيش بلادنا. إذا ماتت الأرض وعاشوا الولاد لشو بدنا نعيش ولمين والذلّ عم يقتلنا؟» هذا جوابهنَّ، وجوابهنَّ يومهنَّ العالمي.
عَبَرّ اليوم العالمي للمرأة، ولم أرَ إلَّا هي في عينيَّ. هي أم الشهيد. لم أرها تنحني في حزنها، أبدًا. رأيتها شامخة تترك دموع الفخر تنزل كمطرة تشرين فوق خدودٍ جفَّت لكثرة شوقها الى وجه وقبلة شهيدها، ومع ذلك كانت تبتسم. يا إلهي كم أنتِ عظيمة يا سيِّدة اتشحت بالكرامة قبل الدمع، لفلفت بدلة إبنها المغطَّسة بالغار الأحمر، لون الدماء عندها غار الوطن، وأعلنت الحبَّ على النضال، أعلنت العنفوان على الحزن، أعلنت الحياة على الموت. وشو بقلّك بعد؟!
يا أم شهيد وقفي ع راس العزّ، من غِمر الزعل الرب فتح لأجلك جنّة، شو إنك حلوة عندما تدمعين ع خيال ضحكة وأنتِ تذكرين شهيدك، شو فيكِ كرامة عندما تبكين والفخر يكلّلكِ، من أين تأتيكِ هذه القوَّة يا عظيمةً يا مباركة، شو فيكِ قوَّة تُخجل متخاذلاً جباناً متردِّدًا قليل الإيمان.
أُعلن أنكِ يومي العالمي، يومنا العالمي، أُعلنك امرأة عالمية لكلّ الأزمان، ولا نحتاج لتواريخ محدّدة ولا لسلطات تافهة ولا لسلاطين سلاح ومال وفساد ليخصِّصوا لكِ يومًا عالميًا، ومن هؤلاء أساسًا ليقفوا أمام دمعة عظيمة إن كرجت على خدّ الحنان تحوّل الصخر قلبًا؟
أم الشهيد؟…. لم تجب! لا يهمَّها كل ما قيل وكُتِبَ. هي عالميّة بتضحياتها، حسبُها أن ابنَها يعرف هذا، وإن لم تصدّقوا إسألوا عبق الدم في أرض البخور والقديسين.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]