يوم قيل لرئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل إبّان الحرب العالمية الثانية، إن لندن تُدمّر وتشرف على الخراب بقصف القاذفات الألمانية، سأل تشرشل، هل القضاء بخير والمحاكم تُصدر الأحكام وتُنفَّذ؟ أتاه الجواب، نعم، فقال، إذاً، بريطانياً بخير طالما القضاء بخير. وليتنا في لبنان نستطيع أن نردد ما قاله تشرشل، وسط المهزلة السوريالية التي تعصف بالقضاء اللبناني وهيبته منذ أيام، كنذير مرعب عن تحلُّل الدولة.
القضاء عندنا ليس بخير. كلام كثير قيل، وسيقال بعد، في المشهد القضائي المحزن الذي يحتل الشاشات ويطغى على سائر المآسي التي حلَّت باللبنانيين على يد السلطة الحاكمة. وعلى الرغم من قرار مجلس القضاء الأعلى الذي أحال القاضية غادة عون، بعد الاستماع إليها، الثلاثاء الماضي، إلى هيئة التفتيش القضائي لإجراء المقتضى، وطلب منها الالتزام بقرار مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات الذي كفّ يدها عن الملفات، وعدّل توزيع الأعمال لدى النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، إلا أن عون ترفض الالتزام ولا تقيم أي اعتبار لقرارات رؤسائها.
قرار “القضاء الأعلى” واضح، على القاضية عون تسليم الملفات التي بين يديها إلى القضاة المعنيين، والمالية منها ومن ضمنها قضية شركة مكتف إلى القاضي سامر ليشع، الذي وضع يده على الملف وبدأ تحقيقاته. لكن يبدو أن عون لا تخشى على هيبة القضاء اللبناني، على غرار تشرشل، وتواصل تمرُّدها على قرار رؤسائها وتوغل في خرق مبدأ التحفظ وتواظب على السلوك ذاته الذي دفع لإحالتها إلى التفتيش، في ظاهرة لم يشهدها القضاء حتى في أحلك مراحل الحرب والتسيُّب.
نزلت عون إلى الشارع، واقتحمت شركة مكتف لتحويل الأموال مجدداً، أمس الأربعاء، على طريقة القبضايات، بعد اقتحام سابق قبل أيام، ووضعت يدها، على مستندات وداتا معلومات تابعة للشركة، وسط صيحات وهتافات الدعم والتأييد والتعظيم من قبل مناصري “فصيلها السياسي”. وهنا صلب الفاجعة، إذ حين يستهين أي قاضٍ بالتراتبية القضائية ويخرق تكراراً مبدأ التحفظ ويصبح له “جمهور زقّيفة”، عليك أن تخاف على العدالة.
ثمة ما يثير الريبة في هذا الإصرار “المحمي من فوق” على إسقاط هيبة القضاء، ربما تمهيداً لما هو أخطر، إذ إن ما يجري يفوق أي تصور أو منطق. فهل “تثأر” هيئة التفتيش القضائي لكرامة القضاء “المغتصبة” وتمنع سقوط هيبته وبالتالي سقوطه، لتئد بذلك أي “مخططات” محتملة لإسقاط سائر ما تبقى من “مؤسسات مركزية” تقف حائلاً أمام السقوط النهائي لما تبقى من هيكل الدولة؟
مدعي عام التمييز السابق القاضي حاتم ماضي، يشير، لموقع القوات اللبنانية الإلكتروني، إلى أن “طلب مجلس القضاء الأعلى من القاضية عون الالتزام بقرارات القاضي عويدات، أمر طبيعي وضروري ومن باب التحصيل الحاصل، لأنه رئيسها”. ويوضح، أن “النائب العام التمييزي هو رئيس كل النيابات العامة، إذ هناك رئاسة تسلسلية، أي رئيس يأمر المرؤوس بكل ما للكلمة من معنى، (عمول بيعمل، ما تعمل ما بيعمل)”، لافتاً إلى أن “عون تعرف ذلك من الأساس ولم تكن خارجة عن هذا النطاق. وكل القضاة يعلمون أن هناك سلطة تسلسلية في النيابات العامة، وهذه السلطة تعطي الحق للمدعي العام الأعلى بإعطاء الأمر للمدعي العام الأدنى رتبة، وعلى هذا الأخير التقيُّد بتعليمات رئيسه فوراً”.
ويعتبر ماضي، أن “إحالة عون إلى هيئة التفتيش القضائي للبت بتصرفاتها، طبيعي أيضاً، إذ ربما لديها وجهة نظرها التي عبَّرت عنها أمام المجلس مبرِّرة ما قامت به، والتي لها علاقة بموضوع الدعوى التي بين يديها وأن لديها شكوك معينة، وهذا من حق كل قاض، وهي قاضية جيدة”، مشيراً إلى أن “الملف بات الآن في عهدة التفتيش القضائي الذي سيقوم بالتحقيق والبحث والتدقيق، ويقدّم الجواب عن السؤال، هل فعلاً نجحت القاضية عون بمعالجة القضية التي بين يديها أم لا؟ وهل عالجتها وفقاً للأصول أم لا؟ وعلى ضوء التحقيق يرتِّب نتائج ويحدِّد مسؤوليات”.
ويستغرب ماضي محاولة عون اقتحام شركة مكتف مجدداً، بعد مثولها أمام مجلس القضاء الأعلى، ويقول، “هذا تصرُّف غريب، وربما يكون في إطار الحماس”، معتبراً أن “هذا التصرف سيكون بالطبع من ضمن القضايا التي سيسألها التفتيش عنها، ولماذا قامت بذلك؟ وما هي المبرِّرات؟ خصوصاً بعد الطلبات الواضحة التي وجَّهها إليها بالمباشر مجلس القضاء الأعلى. وعلى ضوء جوابها، وفي حال اقتنع التفتيش بتبريرها، كان به، وإلا يتخِّذ بحقها التدبير المناسب”.
ويوضح مدعي عام التمييز السابق، أن “هيئة التفتيش القضائي ستتخذ الإجراءات المناسبة بحق القاضية عون بعد انتهاء تحقيقاتها حول كل المسائل التي أثيرت في هذه القضية”، لافتاً إلى أن “الإجراءات ستكون على ضوء حجم الارتكابات في القانون، وقد يترتَّب عليها عقوبة تأديبية بحجم درجة المخالفة”. ويشير، إلى أن “مروحة العقوبات التأديبية لدى التفتيش واسعة، تبدأ من التنبيه ولفت النظر وقد تنتهي بالطرد من السلك القضائي”، لافتاً إلى أن “كل تدبير يتخذه التفتيش القضائي يكون متناسباً مع الفعل المرتكَب من قبل الشخص الخاضع للمحاكمة أمامه”.
ويشدد، على نقطة أساسية، وهي أن “قرارات هيئة التفتيش القضائي والمجلس التأديبي قابلة للإستئناف أمام الهيئة العليا للتأديب وليست نهائية. وهذه الهيئة تنظر في قرارات التفتيش وتقرِّر، وقد تجد أنها خاطئة بالكامل فتلغيها، أو أن جزءاً منها مغلوط فتلغي هذا الجزء وتبقي على العقوبات الباقية، أو ربما تجد أنها خفيفة فتزيدها أو زائدة عمّا يلزم فتخفِّف منها”.
ويؤكد القاضي ماضي، أن “القاضية عون ملزمة ومن واجبها تسليم ملف هذه القضية بكامل أوراقه ومستنداته التي بحوزتها إلى القاضي ليشع، وكفّ يدها عن القضية كلياً وتنفيذ قرار مدعي عام التمييز القاضي عويدات بحذافيره. وهذا جوهر السلطة التسلسلية في النيابات العامة التي يترأسها مدعي عام التمييز”.
ويعتبر، أن “المسألة لم تكن تستأهل كل هذه الهمروجة. فهذا نوع من خلافات في وجهات النظر بين أعضاء الجسم الواحد. فلا القاضي عويدات يعمل ضد القانون ولا القاضية عون، والقضاء لا يزال بعيداً عن التجاذبات السياسية، على الرغم من المشاكل الكثيرة التي عانى منها ولا يزال”. أما بعد الإصرار على عدم الالتزام وتكرار الممارسات ذاتها، يؤكد ماضي، أن “هيبة القضاء الآن على المحك، بعد تكرار الممارسات، وعلى قرارات هيئة التفتيش القضائي أن تكون واضحة ومعلَّلة وحاسمة، للحفاظ على هيبة القضاء واستعادة ثقة اللبنانيين به”.