يا مهاجرين… رح ترجعوا؟!

حجم الخط

كتب سيمون سمعان في “المسيرة” – العدد 1717

قضاة أطباء ممرضون طلاب…

يا مهاجرين… رح ترجعوا؟!

عانى لبنان في تاريخه من هجرات كبيرة وكثيرة أثّرت على ديموغرافيته من جهة وعلى تطوّره وتميّزه من جهة أخرى. وعانى في فترات سابقة من هجرة الكفاءات المتخصِّصة وفي الغالب من المتخرّجين الجدد ممن لم يجدوا فرصة عمل. لكن اللافت اليوم أن الأمر وصل إلى تسجيل معدلات هجرة بين من هم في الخدمة والمواقع المتقدمة في القطاعات المنتسبين إليها، وهذا مؤشر مقلق بكل المقاييس المعروفة. أن يهاجر الطالب بات أمراً عادياً في بلد تحوّل إلى «فواييه جامعي» يتركه القاطنون فيه مباشرة بعد التخرّج، أمّا أن يدفع الأهل دفعاً بابنائهم إلى الهجرة: «روح دبر حالك شو بدك تضل تعمل هون»، فأمر يدعو إلى الأسف والأسى. وأن يهاجر العاطل عن العمل بحثاً عن فرصة في بلاد الله الواسعة، أمر مألوف في كل البلدان النامية، أمّا أن يهاجر أصحاب عمل رفيعو الشأن ومؤثرون في مجتمعاتهم، فهذا يعني أننا بتنا في المرحلة النهائية قبل السقوط الشامل. كم مرة اتصل أحدنا بطبيب أو محام ولم يلقَ من يجيب؟ وكم واحداً منّا زار عيادة أو مؤسسة ووجد أنها مقفلة بسبب السفر؟ وكم قريب في أوساطنا أبدى على مسامعنا نيته التخلّي عن مركزه والإنتقال للعمل في الخارج؟ وكأن الكارثة عندما تقع على شعب، تنزل بكل لعنات السماء وويلات الأرض!

عادةً يتم إفراغ السفينة من ركابها عندما تكون آيلة إلى الغرق، أو يتم إفراغ المبنى من قاطنيه عندما يكون مهدَّداً بالسقوط. اليوم يتم إفراغ البلد من كفاءاته ومن ناسه، فهل لأنه آيل إلى السقوط؟ وهو إن لم يكن كذلك، فإن ما يحصل كافٍ لإسقاطه وتدميره. يقول طبيب يتحضّر لخوض مغامرة ترك المهنة والتوجه للعمل في الخارج: «إن الأزمات المعيشية والسياسية وغيرها يدفع إلى التفكير بالهجرة وبناء مستقبل مستقر وناجح كما يطمح كل إنسان، لكن أكثر ما يدفع اللبنانيين اليوم إلى الهجرة هو فقدان الأمل بمستقبل أفضل. فالممارسات القائمة وطريقة إدارة الدولة لا تبشر بالخير. وقد بلغ التردي والسوء حدّاً لا يمكن التخلّص من تداعياته قبل سنوات طويلة، هذا إذا قُدِّر لنا أن نعي مسؤولياتنا ونبني بلداً لا غابة».

اللافت أن الطبيب المذكور متزوج من طبيبة وكانا يعملان معا في العيادة والمستشفى وأوضاعهما المادّية جيّدة، فما السبب الذي يدفع بعائلة إلى وقف عملها ومحو ذاكرتها وقطع عروقها… والهجرة للإقامة في بلد غريب، غير اليأس؟ هو سبب إضافي لترك البلد لم تظهّره سنوات الحرب العجاف بالشكل الذي يظهر فيه اليوم، المفترض أنه زمن السلم والإصلاح. تضاف إليه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي يمرّ بها لبنان، وتآكل قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار، وحجز المصارف أموال المودعين، ومأساة إنفجار المرفأ واللامبالاة التي تحيط بالقضية ومحاولات الطمس والتعمية وفقدان الثقة بالمؤسسات كافة وأي أمل بإمكان قيامة لبنان على يد من دمّروه، وما يزالون ممسكين بالسلطة ومتحكمين بمصائر الناس.

ربما يكون في إيراد بعض الأرقام دلالة على الدوافع الرئيسية للهجرة. فبين العامين 1975 و2000 ترك لبنان حوالى 900 ألف شخص ولم يشهد البلد هجرة كبيرة للشركات والمؤسسات حتى الأجنبية منها. فيما هاجر خلال أقل من عامين بين 1989 – 1990 عدد مماثل بنتيجة حربي التحرير والإلغاء العبثيتين. وقد أشارت «الدولية للمعلومات» في إحصاء لها الى أن عدد المهاجرين حتى 2014 بلغ نحو 1.3 مليون مهاجر أي 25 في المئة من عدد اللبنانيين المسجّلين في دوائر النفوس وثلث مجمل عدد السكان المقيمين في لبنان، ونحو 58 ألف مهاجر كمتوسط سنوي بين 2011 و2013. ومنذ العام 2018 عاد مؤشر الهجرة إلى الإرتفاع، فسجل العام المذكور مغادرة 41 ألف لبناني لا يفكرون بالعودة. وهو رقم مضاعف عما تم تسجيله في العام 2017. وظل النزف مستمراً طالماً أن معالجته الرسمية مفقودة، لا بل زاد في العام الماضي والنصف الأول من العام الحالي بنسب عالية. واللافت أنه بدأ يطال شرائح لم تكن في عداد المهاجرين سابقا، مثل الأطباء والقضاة وأساتذة الجامعات ومديري المصارف وعدد من موظفي الفئة الأولى والثانية في ملاك الإدارة العامة.

 

المستشفى بلا طبيب

تعرّض القطاع الطبي اللبناني، الذي كان الأول في المنطقة، لهزتين كبيرتين: ضغوط كورونا والأزمة الإقتصادية، فدفعتا بأركانه الأطباء والممرضين وحتى الإداريين إلى الهجرة بحثا عن ظروف أفضل. صحيح أن الأمر ليس جديداً غير أن حجم الهجرة ونوعية من يفتقدهم القطاع والبلد، لأمر مقلق حقاً ويستدعي التوقّف عنده والبحث في أسبابه وتداعياته.

ويقول أطباء إنّ الهجرة الطبية الجماعية غير مسبوقة. وفي تغريدة له كتب رئيس لجنة الصحة النيابية ‏الدكتور عاصم عراجي: «خلال عملي كطبيب متمرن في الثمانينات في مستشفى الجامعة الأميركية، كانت رائحة الموت ‏في كل شارع وحي… لم يترك إلا القليل من الأطباء وصمد الجسم الطبي في كل مستشفيات بيروت والمناطق».‏ورأى أنّ الهجرة حالياً ليست ناتجة من عوامل اقتصادية فحسب، بل أيضاً بسبب «اليأس من الطبقة السياسية».‏ وهذه مسألة لافتة في ما يتعرّض له لبنان اليوم من تفريغ لطاقاته، من غير أن يبالي المعنيّون بما يبنتج عن ذلكك من كارثة لن نخرج من آثارها لعقود.

فعدد طالبي إفادات بشأن أدائهم وسلوكهم من نقابة الأطباء في بيروت،وصل إلى نحو 600 طبيب. وهذه الإفادات تُطلَب في عدد من البلدان التي يتقدم إليها الأطباء طلباً للعمل والإقامة. ويلفت نقيب الأطباء الدكتور شرف أبو شرف إلى أن عدد من ينوون الهجرة أكبر بكثير مما هو مسجل لأن بلدانا كثيرة تجيز للأطباء العمل فيها من دون شرط تقديم هذه الإفادات. وتقدِّر نقابة أطباء الشمال نسبة من هاجروا أو من ينتظرون عروضاً بما بين 20 إلى 30 في المئة من عدد الأطباء المسجلين لديها، وهو رقم غير نهائي طبعاً، في ظل مغادرة أطباء من دون المرور بالنقابة. وتشير أرقام غير رسمية إلى أن نسبة 60 في المئة إلى 70 في المئة من الأطباء في لبنان ينوون الهجرة.

وتعتبر مراجع طبية في النقابتين أن المقلق في هذه الظاهرة ليس الأرقام في حدّ ذاتها، إنما الفئة العمرية التي يعوّل عليها في القطاع الاستشفائي. فأعمار غالبية المهاجرين تُراوِح ما بين 35 و55 عاماً، وهذه الفئة العمرية، بحسب الأطباء، تشكّل عصب القطاع والجيل الأهم الذي تعوّل عليه المؤسسات الاستشفائية. فأثر مغادرة هذه الفئة يكمن في فقدان صلة الوصل مع جيل جديد يتدرّب على أيديهم لكونه غير متمرس بما يكفي. وهذا يعني أن هذه الهجرة تضرب القطاع اليوم بهجرة كفاءاته وتضربه غدا بخسارة ريادته بعد أن كان الأول في المنطقة.

وقد تبيَّنَ بحسب البحث الذي قامت به «المسيرة» أن الفئات الأكثر هجرة لدى الأطباء إثنتان:

الأطباء من أصحاب الكفاءات العالية ممن وجدوا أن ما بات متوفراً تحصيله في لبنان لا يتناسب مع خبراتهم العالية، خصوصاً أن بإمكانهم الحصول على فرصٍ ذهبية في الخارج، لا سيما في العالم العربي والخليج تحديداً. فمنطقة الخليج ترفع نسبة الإستثمار في القطاع الصحي خصوصاً بعد جائحة كورونا وتداعياتها وما فرضته من واقع جديد. وهي مستعدة لدفع أجور عالية للأسماء الكبيرة المعروفة في هذا المجال، وطبعا هناك أفضلية للكفاءات العربية على الأجنبية لأنها أقل تكلفة وليست أقل كفاءة. ويقول مدير مستشفى في الإمارات: «طبعاً هناك أفضلية للأطباء اللبنانيين. فهم أفضل من نظرائهم المصريين والهنود، وأقل أجراً من الأوروبيين». وهذا ما يجعل سبل الهجرة إلى البلدان الخليجية ميسّرة.

وهناك الأطباء المتخرجون حديثاً والذين يرون أن بقاءهم في لبنان يجعلهم يزهقون الوقت بلا أفق ولا مردود، ويخسرون فرصة متوفرة اليوم وقد لا تتوفر غداً. ويقول معظمهم أن لا شيء لديهم يخسرونه هنا. فهم لم ينطلقوا فعلياً بعد ولا مرضى خاصين لديهم ولا استثمار دفوعوه في عيادات ومعدات، وبالتالي فليس عليهم إلا اختيار الوجهة وتوضيب الحقيبة ليؤسسوا مستقبلهم حيث المردود مضمون، وليس كما هو الحال في لبنان. ويسأل طبيب متدرّج هل يُعقل أن أعمل هنا وسط مخاطر الإصابة التي مرّت على لبنان في فترة الذروة وأن يكون ما أتقاضاه اقل من مئتي دولار أميركي ولا أفكر بالبحث عن فرصة في أي بلد آخر؟ ويتابع بأسى: «علاوة على كل ما دفعه أهلي لاستكمال تخصصي فهل يُعقَل أن ألجأ إليهم اليوم للحصول على بعض المال للتمكّن من متابعة مصروفي حتى آخر الشهر»؟

اللافت أن «الإختصاصات المهمة تهاجر والكفاءات العالية، ما يؤثر بشكل كبير على الوضع الاستشفائي في لبنان»، وهذا ما يشير إليهالنقيب أبو شرف. وهو يقول «إن الأطباء الذين يهاجرون إما أن يتصلوا بالنقابة سلفاً لأخذ وثيقة تثبت خبرتهم الطبية، أو يسافرون دونما الإبلاغ، وتعرف النقابة بذلك لاحقاً. ويُرجع سبب هذا النزوح إلى «المشاكل التي حدثت في لبنان من انفجار مرفأ بيروت الذي تسبب كذلك في هدم أربع مستشفيات جامعية لم تعد إلى عملها بالشكل الطبيعي حتى الآن، والوضع الاقتصادي المتدهور وانتشار وباء كورونا». ويشير إلى «أن عدد الأطباء في لبنان يبلغ نحو 15 ألف طبيب، ومؤخرًا وفي مدة قصيرة هاجر نحو 500 طبيب. وأن الأطباء اللبنانيين مستمرون في الهجرة إلى الدول العربية والأوروبية والولايات المتحدة، من دون نية للعودة إلى لبنان».

وبهذه الهجرة سيفتقر لبنان إلى الأطباء المتخصصين في المجالات النادرة. على سبيل المثال، هاجر ثلاثة أطباء متخصصون في طب قلب الأطفال، بينما لا يتجاوز عدد الأطباء في هذا المجال بلبنان، العشرة أطباء.

أما وجهات الهجرة فهي بحسب النسب: أربعة خيارات رئيسية، أولها دول الخليج (35 في المئة) وهي التي تشهد فورة في افتتاح المؤسسات الإستشفائية، وبالتالي تحتاج إلى كادر طبي وعاملين. أما الوجهة التالية فهي العراق، خصوصاً السليمانية وكربلاء (22 في المئة)، ثم أوروبا (20 في المئة) وأميركا (14 في المئة)، وتحل القارة الأفريقية كخيار أخير (9 في المئة).

 

… والقوس من غير قضاة

وكما الأطباء كذلك القضاة الذين بدأت أعداد من يطلبون منهم الإستيداع أو الإستقالة تتزايد بحثاً عن فرص عمل أفضل في بلدان أخرى. وإذا كان عدد الكادر الطبي في لبنان كبيراً، فإن عدد القضاة أساساً قليل ويعاني القضاء من تأخر في دراسة الدعاوى وإصدار الأحكام. ولا يتوقف القلق على مصير القضاء عند حدود طلبات الإستيداع، بل يذهب إلى حد الخوف من موجة الاستقالات. ولم يخف مصدر القضائي أن «حوالى عشرين قاضياً من خيرة قضاة لبنان إستقالوا من المؤسسة».

الخطورة في هذا المجال أن أصحاب الكفاءات والضمائر الحيّة هم من يهاجرون، لسببين وجيهين، يقول أحدهم:

الأول، ما نتعرّض له من ضغوط وتدخلات لا نرتضيها ولا يمكن الرضوخ لها كما لا يمكن مقاومتها، لأن الأمر يصل إلى التهديد الجسدي والمهني والمعنوي. وتركيبة السلطة في لبنان تحول دون قدرة القضاء على فعل أي شيء. وما الشواهد الحاصلة في السنوات الأخيرة إلا خير دليل على ذلك.

الثاني، لأن لا مداخيل غير مشروعة لهم كما البعض الذي يعتمد على المقايضات على حساب العدالة، أو يقوم بأعمال موازية لا تجيزها المهنة. وبالتالي فقد باتوا غير قادرين على تأمين مستوى معيشي متوسط وتلبية أبسط متطلبات الحياة. ولم يتردد أحدهم في الإفصاح لـ»المسيرة» أنه اضطر إلى التخلي عن أحد الرقمين الثابتين في المنزل والتخلي عن أحد الرقمين الخليويين اللذين يستخدمهما، إلى جانب بعض الإجراءات الأخرى، وذلك في إطار خفض النفقات لأنه بات عاجزاً عن القيام بها كما في السابق، معتبراً أن هذا الوضع لا يليق بقاض ولا يساعد على الإستمرار.

ومؤخراً انتشرت معلومات عن إقدام 40 قاضيًا، معظمهم من الشباب، على تقديم طلب استيداع أو استقالة بهدف السفر خارج لبنان. مع الإشارة إلى أنّ القاضي، بموجب طلب الاستيداع، يبقى في وظيفته، لكن يخسر تدرّجه ولا يتلقّى أيّ راتب. هذا الواقع دفع النائب في تكتّل «الجمهورية القوية» والقاضي السابق جورج عقيص، إلى أن يغرّد عبر «تويتر»، معتبرًا أنّ «القضاء اليوم يُفرّغ من طاقاته».

والجدير بالذكرأنّ قرارًا كان قد صدر عن مجلس القضاء الأعلى منذ مدّة، يقضي بمنع قبول أيّ طلب استيداع تحت أيّ مسوّغ، وأنّ القاضي الذي يريد المغادرة، عليه أن يقدّم طلبًا للاستقالة. ولفتت مجلة «المحكمة» إلى «أنّه لم يسجّل أيّ استقالة لأيّ قاضٍ في الشهور الأخيرة، باستثناء استقالة القاضي منصور القاعي بداعي الاستقرار في الخارج (كانون الأوّل 2020)، واستقالة القاضي روي حسن شديد، لأسباب عائليّة وشخصية.»

وفق الأرقام الرسمية الأخيرة، فإنّ عدد القضاة في لبنان حاليًّا هو 604، يتوزّعون على الشكل التالي: 523 في القضاء العدلي، 53 في شورى الدولة، و28 في ديوان المحاسبة. وبالتالي فإن صحّت المعلومات المتداولة عن هجرة 40 قاضيًا، فإنّ نسبة المهاجرين من السلك تكون حوالى الـ7 في المئة.

في هذا السياق تشدد مصادر قضائية على «أنّ راتب القاضي اليوم بعد 20 عامًا من الخدمة، لا يساوى 600 دولار. وهذا الراتب الذي انهار إلى هذا المستوى المتدني من 4000 دولار قبل انهيار العملة، ترافقه مخصصات للقضاة الذين يشاركون في لجان معيّنة. أما التوزيع واختيار اللجان فيجري وفق الواسطة والاستنسابية. فهناك قضاة كثر لم يتم اختيارهم في أي لجنة رغم كفاءاتهم». وإلى جانب الراتب الذي تراجعت قيمته بنسبة 80 في المئة، هناك صندوق التعاضد، الذي يمنح القاضي كل 3 أشهر مبلغًا يقدّر بقيمة 40 في المئة من الراتب، وهناك الكثير من الجدل حول  هذا الصندوق.

ولا تنفي المصادر القضائية وجود رواتب مرتفعة تقدّم إلى القضاة المغادرين في بعض دول الخليج، تساوي أقله أضعاف مضاعفة لما يحصل عليه القاضي في لبنان، وتعويض قاضٍ بعد 20 عامًا من الخدمة». أما العروض التي تأتي للقضاة، فهي إما للعمل في القضاء أو في الإدارة القضائية. والحد الأدنى للراتب هو 15 ألف دولار مع بدل سكن وعلاواة وسيارة، ويصل هذا الراتب في بعض الحالات إلى أكثر من 20 ألف دولار. وتلفت المصادر أيضًا إلى أنّ بعض القضاة يتّجهون للعمل في المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، غير أنّ الرواتب في هذه المنظمات أقلّ من مثيلاتها في دول الخليج. لكن كما الأطباء كذلك القضاة، لم يغادروا إبان الحرب اللبنانية على رغم تدنّي الأجور يومها وسوء الوضع، ما يفسّر بحسب أحد القضاة، أن السبب الأساس نفسي ومعنوي وفقدان أمل بنتيجة ممارسات السلطة اليوم.

والثابت أن هذه الهجرة في حال تزايدت، سيكون لها تداعيات كثيرة على مستوى عمل مؤسسة القضاء، وعلى عمل المحامين، لأنّ هناك عقدًا بين القضاء والمحاماة في البعد القضائي والقانوني، وفي مفهوم رسالة العدالة. ولذلك يحاول رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود بذل جهود كبيرة لإقناع من ينوون ترك القضاء بدافع الهجرة بالتراجع عن هذا التوجه، متمنياً عليهم «التضحية من أجل القضاء اللبناني ورسالة العدالة التي ارتضوا أن يكونوا جزءاً منها، وتمرير هذه المرحلة الصعبة حتى لا يفرغ القضاء من طاقاته، لكن هذه المحاولات لم تنجح بعد».

 

معالجات من دون نتائج

ثمّة سبب مهم لهجرة الأطباء والقضاة هو غياب القوانين التي تحمي الطبيب اللبناني وتحصّنه، من الإعتداء والضرب وتتزايد هذه الحالات خصوصاً في مستشفيات الأطراف. كذلك لا حماية للقضاة من التدخلات السياسية والضغوط الحزبية التي تصل إلى حد التهديد بالأذى الجسدي. في حين لا يتمكن القضاة الشرفاء من ممارسة رسالتهم بحرّية وأمانة بحسب القسم. وهذا الواقع يشي بأن الأزمة مستمرّة ولا حلَّ  قريباً لها. وكما رئيس مجلس القضاء الأعلى، كذلك يقول نقيب الأطباء أنه يسعى إلى تثبيت رفع التعرفة الإستشفائية وتحسين وضع الطبيب منعا للهجرة، لكن من دون تحقيق نجاح كبير لدى من حسموا قرارهم بالمغادرة.

ومن التداعيات أيضا أن قسماً كبيراً من الأطباء والقضاة هم أساتذة جامعيون، وهذا سيفقد الصروح الجامعية هي الأخرى كفاءاتها وأعمدتها مما يدفع إلى تراجع أدائها ومستواها. وفي حين يحصل الأساتذة الجامعيون على فرص ذهبية في الخليج ومرتبات عالية وتقديمات، يفصح مسؤول في إحدى الإدارات الجامعية الخاصة، أن الأزمة مترابطة ومتعددة الرؤوس. فالجامعة التي تتقاضى الأقساط على سعر 1500 ليرة للدولار لا يمكنها أن تدفع بحسب سعر السوق لكي تضمن المدخول نفسه للإستاذ. وهذا ما دفع بالكثير من الأساتذة الجامعيين خصوصا من ذوي الكفاءات والخبرة إلى الإستقالة والتوجه إلى الخارج حيث الفرص أفضل.

ولا تقتصر هجرة الكفاءات على الأطباء والقضاة بل تطال المحامين وأساتذة الجامعات والممرضين والمصرفيين وأصحاب المؤسسات وغيرهم الكثير. والمقلق أن بهذه الهجرة يدفع لبنان كلفة لا يستردها مباشرة في اقتصاده. فالمتخصص المهاجر يوظف ثقافته وخبرته المدفوعة الثمن في لبنان من دون أن يكلّف البلد المضيف أي ثمن، بل يعطيه من كفاءته فيساهم بها في إنعاش اقتصاده. في حين أن الكلفة المدفوعة على التعليم في لبنان لا يتم استثمارها بتطوير القطاعات، فتبقى متردية وغير مثمرة. وإذا عاد إلى لبنان قسط من المبالغ المدفوعة على التخصص، فيعود كتحويلات من المغتربين إلى أهلهم وليس كاستثمارٍ ومساهمةٍ فكريَّين وعمليَّين في مسيرة التطوير والتقدّم.

وهكذا نكون قد تحولنا بسرعة قياسيّة من بيروت أم الشرائع ولبنان مستشفى الشرق إلى شريعة الغاب وإصابة المستشفى في القلبفاعتلّ القطاع وفُقِد الدواء المانع لهجرة الكفاءات وفراغ المحاكم والمستشفيات، فخرج القضاة من كتاب القانون إلى معادلة الحياة، وفرّ الأطباء من اعتلال الجسم الطبّي بحثاً عن الصحّة في المهام والمقام، وسقط البلد في دوّامة الإنحدار المميت. لقد بات الجميع متيقّناً اليوم أن البلدان ليست بحراً وجبلاً ولا صيفاً وشتاء، خصوصاً إذا التقيا فوق سطح واحد فتتزعزع أساسات البيت وتتركه العائلة، ولو إلى البرّية.

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل